توافق يمزق وتوافق يجمع!
هناك أنواع مختلفة من التوافق ، أهمها نوعان : توافق اعتراضي ، يحمل طابع الفيتو ، تمارسه في العادة جهات تريد حفظ أوضاعها الخاصة ، حين تنخرط في تفاهم مع الغير يمكن أن يؤثر في مكانتها أو أدوار زعمائها . وآخر توحيدي ، انطلق منه إعلان دمشق ،
لكن نمط التوافق الأول ، وهوائية مواقف أطراف سياسية معارضة تعمل أساسا في الخارج ، والخلافات الشخصية والسياسية داخل قيادات الأحزاب والجهات المعارضة في الداخل ، لعبت دورا كبيرا في منع تحقيقه على يد قوى الطيف السياسي السوري المعارض . لكل نوع من نوعي التوافق أسسه وغاياته ، رغم أنهما يحملان كلاهما اسم التوافق ، ويدعيان تبنيه كأسلوب في حل الخلافات وتقريب آراء وممارسات الساعين إلى التوافق .
يقوم التوافق الاعتراضي على استخدام مبدأ التوافق لتعطيل أو إعاقة بلوغ تفاهم بين أطراف متحاورة ، متقاربة أو موحدة الأهداف ، يطاول سائر أوجه العمل العام في الحاضر والمستقبل . يقول أتباع هذا النهج : إن التوافق يجب أن يكون تاما في كل شيء ، فإن لم تقبل الأطراف الأخرى وجهة نظرهم كانت هي التي تعطل التوافق . وتضيف : التوافق غايتنا ، فإن لم يحقق مطالبنا الخاصة ، التي نحددها نحن وبما يخدم خصوصيتنا التنظيمية والفكرية ، رأينا في رفض ما نريده ليس اعتراضا على أهداف قد تتعارض ، أو تتعارض فعلا ، مع التوافق ، بل تعطيلا له، خاصة وأن التوافق لا يقوم على وجود أقلية وأكثرية ، وإن الإلتزام به طوعي وليس إجباريا . ماذا تفعل أغلبية إذا كانت أقلية ما تستخدم هذا النمط من فهم التوافق لتعطيل هو في حقيقته فيتو لا يعدم أن يجد مبررات وحججا تسوغه ؟. هنا الأولية للتنظيم الخاص وليس للتوافق ، فإن لم يخدم التوافق التنظيم وأهدافه الخاصة ، كان غير توافقي وتم رفضه بحجة التوافق .
بالمقابل ، ينطلق نمط التوافق الآخر من أولية التوافق عل أي شيء آخر ، ومن وجود مشتركات وأسس وأفكار جامعة تصلح لأن تكون نقطة انطلاق عمل جميع طالبي التوافق ، يتحدد في ضوئها ولصالحها موقف أي طرف منهم ، وتتعين مواقفهم جميعا باعتبارهم جهة واحدة في كل ما يتعلق بموقفهم من هذه المشتركات ، وإن اختلفوا حول كيفية الانتقال من تباين الحالة التنظيمية والسياسية القائمة إلى حالة متقاربة أو مشتركة أو موحدة تنظيميا وفكريا ، انطلاقا من المشتركات المتوافق عليها ، التي تمكنهم من إبداع وابتكار وسائل وأدوات وسبل تتيح حدا أعلى من التطابق بين مواقفهم من جهة وبين مشتركاتهم من جهة أخرى ، وتجميد ما لا يمكن التوافق عليه ، ريثما يؤدي التقارب في ساحة المشتركات إلى الحد من اختلافات الأطراف الملتزمة بها ، وخلق الظروف والشروط اللازمة لبلوغ حد أعلى من التوافق يطال ، في نهاية الأمر، كل شيء : من الأسس العليا للفكر والممارسة ، إلى العمل التنفيذي الخاص بكل طرف ، الذي سيحد من ويبطل ما ورثه بعضها عن الحقبة السابقة للتوافق ، عندما كان كل طرف يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب لصالحه .
هذا النمط من التوافق التوحيدي هو نقيض النمط التعطيلي ، لأنه ينطلق من أوليات مختلفة عن أولياته . إنه توحيدي لأنه يوحد مشتركات قائمة ، وأخرى جديدة ، تعتمدها أطراف متقاربة ليس بينها خلاف حول أسس جامعة ، تستخدم لإقامة ساحة تفاعل وتكامل بين الأطراف الراغبة في التوافق ، تتيح لها فرص تطور من نوع جديد ، ينقلها إلى حالة مغايرة للحالة التي كانت عليها قبله . هذه الساحة يتوقف كل تقدم على قبول مشتركاتها والالتزام بتطبيقها ، وعلى التسليم باعتبارها نقطة تلاقي وانطلاق نحو مستقبل مشترك ، موحد ، يمكن استغلالها لتجديد الحياة السياسية ، وحياة الأحزاب وأدورها ، فلا يجوز أن يفوقها شيء في أهميتها ، ولا مجال لإقامتها بغير نمط التوافق التوحيدي ، الذي يعطي الأولية للمشترك على حساب الجزئي والخاص ، وللجامع على حساب الحزبي الضيق ، ويرفض أن يرى في ساحة المشتركات مكان تقاسم وحصص ، ويعتبرها مكان تفاعل واندماج ، يؤهل أي منتم إليها لتمثيل أطرافها جميعهم ، ليس فقط بسبب ما يتوفر من ثقة متبادلة بينها ، بل كذلك بسبب تقارب خطابها ووجهات نظرها وأساليب عملها ومواقفها الفكرية والتنظيمية .
ساحة المشتركات هي حصرا ساحة لقاء وتقارب في الممارسات والأطر التنظيمية والفكرية ، وليست ساحة يتمثل فيها كل طرف بما هو عليه ، ليأخذ حصته منها ويضعها في خدمة حالته الخاصة ، فيتعاظم حضوره على حساب غيره ويتزايد مع الزمن اختلافه عنه ، فإن فشل في ممارسة هذه السياسة لجأ إلى التوافق التعطيلي واتهم غيره برفض التوافق معه . إذا صارت ساحة المشتركات ساحة لقاء وتمثيل أحزاب تريد أخذ وتكبير حصصها ، فإنها تكون ساحة انقسام وفرقة ، ولكن في شروط جديدة تعمق أزمة الشرذمة السياسية القائمة ، والأصل في إعلان دمشق هو التخلص من الشرذمة ، التي أبقت المعارضة السياسية ضعيفة وحياة البلد السياسية فقيرة وخاضعة خضوعا شبه مطلق للسلطة . لم يكن هدف إعلان دمشق إعادة إنتاج ما هو قائم في إطار جديد ، بل خلق الشروط الملائمة الضرورية لصهره مع غيره وتجديدة باعتباره جزءا من إطار أوسع من إطاره التقليدي ، يتيح له تجديد نفسه في سياق التقارب والتوحد ، مع الاحترام التام لخصوصيته . إذا لم يخدم التوافق هذا الغرض ، فما معنى المشتركات ، التي كان قسم منها موجودا قبله ، فجاء الإعلان يثريه ويضيف إليه ويقترح آلية جديدة لتفعيله ، يراد منها أخذ أطرافه إلى موقع مختلف يمكنها من تجديد نفسها ومواكبة مستجدات المجتمع والدولة والسلطة ، ومتغيرات الظروف ، وإضفاء طابع ثقافي فاعل على رؤاها السياسية يجعل منها مركز تحديث وتعقيل للحياة العامة ، بما ستبتكره من صيغ تعامل مع مجتمع مفكك ويتعرض للقمع .
ليس بين أطراف إعلان دمشق من ليس مؤهلا للتوافق التوحيدي . وليس الحديث عن توافق تعطيلي تهمة موجهة إلى أحد . إنه واقع حال تقول سائر أطرافه إنها تريد الخروج منه بالتوجه ليس فقط إلى ساحة المشتركات ، بل كذلك إلى ما بعدها ، إلى ما يجب أن يليها من توافق على الانخراط في عمل توحيدي يأخذ الجميع إلى مكان مغاير لمواقعها الراهنة ، يتيح لها إنتاج نفسها بدلالة مجتمعها ، وتقييد طابعها النخبوي وعزلتها عن الشعب ، وتشكيل ظاهرة جديدة هي ” الحزب المجتمعي “، الذي لن يغير أحد سواه شروط إنتاج السياسة والأحزاب في بلادنا ، ولن ينجح أحد غيره في فتح صفحة جديدة من العمل العام لصالح الإنسان والمجتمع ، وبقواهما المتجددة والموحدة .
هيئة التحرير
موقع اعلان دمشق