عزوف عن السياسة أم إضراب ولامبالاة؟
جاد الكريم الجباعي
هل هناك حقاً عزوف عن السياسية في سورية؟ العزوف فعل إرادة واختيار، يعني الانصراف الطوعي عن الاهتمام بالشأن العام، وعن المشاركة في الحياة السياسية وفي حياة الدولة، مثلما هي المشاركة السياسية فعل إرادة واختيار؛ ومن ثم فإن العزوف والإقبال، على السواء، يتوقفان على توافر الشروط اللازمة والكافية لاختيار المشاركة أو عدم المشاركة. لذلك لا يستطيع المرء أن يحكم في مسألة هل في سورية عزوف عن السياسة أم نوع من إضراب عن السياسة أم نوع من لامبالاة. وأخمن تخميناً أن الوضع مزيج من إضراب ولامبالاة، إضراب مفتوح ولامبالاة فاضحة، إضافة إلى عزوف لا يمكن استبعاده، عندنا وعند غيرنا، ولكنه ليس الظاهرة الأبرز، ولا الظاهرة التي تبعث على القلق. وسبب التخمين يرجع إلى عدم وجود دراسات علمية وميدانية في هذا الموضوع أو بيانات إحصائية واستطلاعات رأي، أو بسبب عدم اطلاعي ما هو موجود منها، إذا كان موجوداً، ونسب المشاركة المعلنة في الانتخابات المحلية والتشريعية غير موثوقة، فلا يعتد بها.
الإضراب عن السياسة المباشرة امتناع احتجاجي، أو نوع من معارضة سلبية، تشمل معظم الفئات المدينية الغنية من تجار وصناعيين ورجال أعمال ووسطاء ووكلاء شركات، وعائلات ميسورة كانت قد تضررت من التأميم ومن الإصلاح الزراعي، منذ أوائل ستينات القرن الماضي. وتشمل أيضاً الأحزاب السياسية المعارضة، خارج الجبهة الوطنية التقدمية، التي يقودها حزب البعث العربي الاشتراكي، وأعداد غير قليلة من سياسيين ومثقفين “مستقلين”، كان معظمهم من أعضاء هذه الأحزاب.
أما اللامبالاة فهي الظاهرة التي تستحق التوقف عندها، ولا يجوز إدخالها في باب العزوف، وذلك لارتباطها بأبرز خصائص النظام السياسي القائم، أعني الخصائص الشمولية، فهي ظاهرة ملازمة للظاهرة الجماهيرية التي بدأت تتشكل منذ عام 1958، وبلغت ذروتها في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي وأوائل تسعيناته، وتجلت في المسيرات المليونية ومهرجانات الفرح، والمبايعة بالدم، والرقص المسعور في الساحات والشوارع والمدارس والجامعات وسائر مؤسسات الدولة. وتشمل اللامبالاة الكتلة الجماهيرية الكبرى ومثقفي السلطة الذين هم قوام أجهزتها الأيديولوجية والإعلامية والإدارية.
اللامبالون هم جمهور الحركة التوتاليتارية، من فقراء الريف وفقراء المدن إلى العمال والموظفين وصولاً إلى المثقفين والتقنيين المرتبطين بالسلطة، وهو جمهور مستعد للانفضاض عن السلطة أو الانقلاب عليها، عندما تسقط، كما حدث في غير مكان، من الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الشرقية إلى العراق.
يحيل مفهوم الجماهير على كتلة سديمية تتشكل عادة بفعل عاملين أساسيين: التعبئة الأيديولوجية والإرهاب. وعلى الرغم من الطابع الكتلي الظاهر للجماهير إلا أنها في واقع الأمر أشبه بكثبان من الرمل يمكن أن تحركها أي ريح، ولا يربط بين أفرادها أي رابط سوى الخوف والشك والارتياب. والخوف، كما هو معروف، من أعمق الغرائز البشرية، التي تسيطر على الأفراد، أن لم يسيطروا عليها. وهو ما يطلق الأنانية من أي عقال، اجتماعي أو سياسي أو أخلاقي، ويدفع بالفرد إلى البحث عن خلاصه الشخصي، ولو على حساب أقرب المقربين. أليس تزايد أعداد المخبرين وتفشي ظاهرة الوشاية دليلاً كافياً على ذلك، ناهيك عن الاستهانة بحياة الآخرين وحقوقهم وحريتهم وكرامتهم، وعن الرشوة والفساد والنصب والاحتيال وارتفاع معدلات الجريمة؟
ومن ثم، فإن ظاهرة اللامبالاة، بجميع أبعادها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، مقترنة بضمور أو تلاشي مفهوم العمومية، وضمور أو تلاشي مفهوم الشأن العام والمصلحة العامة. هذه الظاهرة العجيبة هي بنت “السياسة” ومناقضة لجميع مبادئ السياسة، في الوقت عينه. ومن خلالها يتبدى خطر الشمولية أو الاستبداد المحدث على حاضر المجتمع ومستقبله. هل يمكن تفسير تهتك العلاقات الاجتماعية وانحلال عرى العقد الاجتماعي وانتعاش الهويات ما قبل الوطنية، واستشراء الفساد والانحلال الأخلاقي بمعزل عن هذه الظاهرة، ظاهرة تحويل الأفراد إلى كائنات توتاليتارية جوفاء مستعدة لارتكاب جميع الموبقات؟
السؤال الرئيس اليوم: هل في سورية حياة سياسية عامة؟ صفة العمومية هنا هي الأساس؛ إذ ليس بوسع أحد أن ينفي وجود حياة سياسية ما، ولكن هل هذه الحياة السياسية عامة؟ لا يمكن أن يكون هناك حياة سياسية عامة إذا لم يكن هناك فضاء وطني عام ومشترك بين جميع المواطنين، بلا استثناء، يتيح فرصاً متكافئة ويوفر ضمانات دستورية وقانونية للمشاركة أو عدم المشاركة في الحياة السياسية، بوجه عام، وفي حياة الدولة، بوجه خاص. المشاركة في حياة الدولة تعني حق المشاركة في المؤسسة التشريعية وفي السلطتين التنفيذية والقضائية لجميع المواطنين البالغين والمواطنات البالغات، على قدم المساواة، وفق مبدأ الانتخاب، في الأولى، ومبدأ المباراة أو المسابقة في الأخيرتين. هذا ما كان معمولاً به في سورية قبل عام 1958، أي قبل اغتيال جنين الدولة الوطنية، والثورة على الدولة وعلى المجتمع المدني الذي كان آخذاً في التشكل.
الأحزاب المعارضة هي التي تمارس الإضراب السياسي؛ والجماهير، بحصر المعنى، هي من تمارس اللامبالاة، على الرغم مما يبدو “مشاركة” في المسيرات المليونية، بل بسبب هذه المشاركة القسرية. اللامبالاة صفة ملازمة للجماهير، وفق التحليل الصائب والعميق الذي أجرته حنة أرندت للنظم الشمولية أو الكليَّانية (التوتاليتارية). ولكن ما يحتاج إلى دراسة متأنية هو الإضراب المفتوح عن السياسة، بل العزوف عن السياسة، الذي مارسته المعارضة، منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولا تزال تمارسه إلى يومنا وساعتنا.
على كل حال، الأحزاب العقائدية السورية لم تمارس السياسة، بعد عام 1958، وهي لا تمارسها اليوم، بل تمارس نوعاً من طقوس عقائدية، منها التنديد بالسلطة، ما هيأ الفرصة لسيطرة العسكر على مقاليد الأمور. (قبل ذلك التاريخ كانت الأحزاب تمارس السياسة في المجتمع وتحت قبة البرلمان، بحكم منطق الدولة وسيادة القانون، وقد استبسلت غير مرة في مواجهة الدكتاتورية).
الأحزاب المعارضة تتحدث عن “عزوف المجتمع عن السياسة”، لتبرر انفضاض جماهيرها وجزء مهم من عضويتها عنها، وعدم مبالاة المجتمع بوجودها أو عدم وجودها، لأنها لا تريد أن تعترف بعوامل قصورها الذاتي، وتراوغ حين تقوم ببعض المراجعات السطحية. فهل نصدقها ونعتبر أن وصفها للواقع صحيح، بلا أي بينة؟ واللافت هنا أن الأحزاب المعارضة نفسها عازفة عن المشاركة في الحياة السياسية عن سابق قصد وتصميم، إلا إذا اختزلنا السياسية إلى اجتماعات سرية ونشرات سرية وبيانات ساخطة، لم تسفر على مدى ثلاثة عقود على الأقل سوى عن تضحيات جسيمة صبغت حياة الكثرة الكاثرة من السوريين بالحزن والألم، ولا يملك المرء إلا أن يقدرها حق قدرها.
أجل، ثمة شيء شبيه بمثابرة الجماعات الدينية على تقديم الأضاحي، وهو أقرب ما يكون إلى موقف استشهادي. ومن تقدم الضحايا له أو من أجله لا يأبه، لأنه من نسيج الوهم، أعني الوحدة العربية والأممية البروليتارية والخلافة الإسلامية أو حاكمية الله، التي كانت ولا تزال تقنع المصالح الخاصة العمياء!
كان أحرى بنا أن نبدأ بتعريف السياسة لينجلي الأمر؛ السياسة بالتعريف هي مشاركة طوعية في الشؤون العامة وفي الحياة السياسية وفي حياة الدولة، وهي صفة ملازمة للمواطن، بوصفه عضواً في الدولة؛ (المواطن كائن سياسي وأخلاقي وشخص قانوني من طبيعة الدولة ذاتها) والعضوية في الدولة تعني جملة من الحقوق والحريات الخاصة والعامة التي يتمتع بها المواطن، وتعين جملة من المسؤوليات والالتزامات الملقاة على عاتقه، فلا حقوق بلا واجبات والتزامات ولا حرية بلا مسؤولية. ومن ثم فإن المشاركة السياسية تفترض الحرية أولاً، وتفترض المواطنية أو العضوية في الدولة ثانياً، وتفترض المساواة وتكافؤ الفرص ثالثاً. من دون هذه الافتراضات أو الشروط لا يمكن الحديث عن السياسة إلا بالمعنى المستقر في الوعي الشعبي وفي الثقافة التقليدية السائدة، أي بمعنى الأمر والخضوع، وتداول السلطة والمال بالقوة. ولا يخلو أن يحيل هذا المعنى من معاني السياسة على الحيلة والمكر والدهاء. جميع الفنون أنتجت روائع إلا هذه السياسة فقد أنتجت مسوخاً.
نبسط الأمر كثيراً حين نبحث عن أثر “الاقتصاد” وتدني مستوى المعيشة وتآكل دخول أكثرية المواطنين في ركود الحياة السياسية أو في “العزوف عن السياسة”، وننسى أو نتناسى تدني مستوى الحياة وتدني نوعيتها، بفعل ما كنا نسميه “التحويل الاشتراكي”، أي سيطرة السلطة التنفيذية المشخصنة على عملية الإنتاج الاجتماعي برمتها وبجميع منطوياتها: المادية والروحية، واعتبار ما يسمى القطاع العام “القطاع القائد” للاقتصاد الوطني، حتى يومنا. فقد آن الأوان لنقد الاشتراكية القومية واقترانها بسلطة الحزب الواحد أو القائد وكشف ما جرته على بلادنا من خراب. هذا هو الأساس؛ والمسائل الأخرى تابعة. هل هذه دعوة إلى الخصخصة واقتصاد السوق؟ أجل، ليس ثمة خيار أفضل، في المدى المنظور. الخيار الصيني يناسب الصين بشروطها التاريخية، وإلا فأهلاً وسهلاً بالمافيات والاقتصاد المافياوي المحمي بأيديولوجية الاشتراكية القومية وحكم الحزب الواحد. نقول ذلك ونحن ندرك أن سورية تسير في هذا الاتجاه، ولكن بكثير من التردد والاستحياء وهدر الوقت والموارد.
ليست السلطة الأمنية وحدها من جفف ينابيع السياسة، بل الأحزاب العقائدية الحاكمة والمعارضة، التي كلما شريت مرة من هذه الينابيع كانت ترمي فيها حجراً.
موقع الآوان
تعليق واحد