صفحات سورية

في الديمقراطية والحرية والثقافة الدينية في الوطن العربي


null
بشار السبيعي
يسأل البعض عن إمكانية التغيير السلمي في النظم السياسية الحاكمة في الوطن العربي اليوم عن طريق دعم الحريات العامة والفردية والسماح بممارسة حق الفرد في المشاركة الفعلية في إدارة شؤون البلاد العامة. والسؤال هنا لاينبع من رؤية حقيقية وواقعية لحال المجتمعات العربية ويشكل في جوهره معضلة العالم العربي اليوم في مواكبة الحداثة والثقافة المعرفية العالمية التي دفعت بلدان الغرب نحو المدنية والتقدم وجعلتها من الأوائل في قيادة العالم.
ومع تراجع الحديث اليوم بعد إنهيار حكم المحافظون الجدد في العاصمة الأمريكية وأمثالهم في العالم الغربي عن ضرورة تبني الديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان من قبل حكومات العالم العربي، تعلو أصوات المعارضيين السياسيين في العالم العربي بالإنتقاد اللاذع والحاد لحكام تلك البلدان وتحملهم المسؤولية لكل ماهب ودب من قمع تلك الحريات الشخصية والعامة وتأخر النمو الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والسياسي في تلك البلدان. وتلجأ هذه الأصوات أحياناً ألى أسفل التعابير في الوصف وأقسى الكلام في المستوى الأخلاقي والنحوي وإتهام الرؤساء والملوك والسلاطين العرب بالتواطؤ مع الغرب والشرق في قمع شعوبهم من ممارسة حرياتهم وحقوقهم الدستورية في أوطانهم.
وهنا ينطبق المثل الشعبي الشامي الذي يقول “يللي بياكل العصي مو متل يللي بيعدها” على أولئك النقاد والحكام. وينسى هؤلاء المعارضين والنقاد والمثقفين إحصائيات وبحوث الأمم المتحدة عن مدى تخلف الشعوب العربية وأسباب هذا التخلف التي من أهمها النسبة العالية للأمية في هذه الشعوب، وتجذرقوانين المجتمع القبلي فيها، وتخلف مناهج التعليم والمدارس، و تسلط الفكر الديني الذي يفتك في عقول أكثر من 70% من سكان العالم عامة و 95% من سكان العالم العربي خاصة. كل هذه العوامل مجتمعة لاتشكل عذراً لإنعدام وجود الحرية والديمقراطية في الوطن العربي ولكنها الأرضية الحقيقية التي ينبت فيها المناخ السائد اليوم في هذه الأوطان العربية والذي يتسم بالغضب الشعبي والعنف الجسدي واللفظي ويشكل في جوهره حتمية وضرورة وصول الحاكم المطلق ألى سدة الحكم وهو المسبب الأول في وجوده.
النظم الديمقراطية التي تحترم الحريات العامة والخاصة لم تصل ألى فوهة الحكم في البلدان الغربية من دون تاريخ طويل لثورات أجتماعية وثقافية وحضارية متعددة ومتتالية ومن أهمها كانت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر التي قلبت مفاهيم تلك المجتمعات ضد الحكم الملكي اللاهوتي والكنيسة رأساً على عقب، وحررت الفكر والعقل من الطغيان الديني والرجعي الذي كبل شعوبها لأكثر من عدة قرون من الزمن. فمنذ العصر الحجري ألى يومنا هذا مازال الصراع على الحقيقة الوجودية قائماً. ومازالت قيود الديانات السماوية تكبل العقل في هذه البلدان وتؤثر مباشرة على العلاقة بين الحاكم والمحكوم بدون إستثناء وحتى في البلدان التي تعتبر اليوم أقرب نسبياً في أنظمتها ألى الحكم الديمقراطي، ولكنها تتفاوت أيضاً نسبياً في مدى متانة قيود الدين على تلك العلاقة في أرجاء العالم، وتتأرجح مابين التحرر النسبي من هذه القيود كما نجد في دول الغرب في فرنسا والولايات المتحدة التي قادت هذا التوجه تحت شعار العلمانية وفصل الدين عن الدولة، والإنضباط الكامل لها ولحكم الله كما نجد اليوم في إيران وبعض البلدان العربية التي تعتمد في دساتيرها على الدين في تشريعها للقانون المدني والأحكام العامة. ويبقى مابين الطرفين في بلدان العالم أجمع أسير هذا التيار أو الأخر.
نعود من هذا المنطلق ألى أولئك المثقفين الذين يناصرون الديمقراطية والحرية في الوطن العربي، ويطالبون بأعلى أصواتهم وأقلامهم لها. هل من المعقول أن تحتل مسألة الحرية والديمقراطية في الوطن العربي اليوم الأولوية والشغل الشاغل لهؤلاء المثقفون تحت هذه الظروف الإجتماعية والثقافية في الوطن العربي؟ إذا أخذنا بعين الإعتبار الواقع الفكري والإجتماعي والإقتصادي والثقافي المتدني في البلدان العربية اليوم لنقارن به أي مجتمع أوربي أو أمريكي أو آسيوي نجد أن مايُكبل الوطن العربي اليوم من المضي في مسيرة التقدم والحداثة والمعرفة أكثر من أي عامل أخر هو الدين وخاصة الفكر السلفي والرجعي في ذلك الدين. الحواجز الدينية المرهقة التي يرفعها رجال الفكر الإسلامي السلفي المتشدد أصحاب الحرف والنقل هي العامل الرئيس في تخلف هذه المجتمعات، والمعركة الأساسية اليوم تكمن في التخلص من هذا الفكر و إصلاح المناهج التعليمية والثقافية والمعرفية في هذه الأوطان. وعندما نأخذ نظرة قريبة لجميع نظم الحكم العربية اليوم نرى أنه لايوجد حاكم أو ملك أو سلطان فيها لم يشجع ويدعم هذا الهدف في بلده. وإنتشار الجامعات الخاصة والمعاهد الدراسية العليا في هذه البلدان خلال العقود الزمنية القليلة الماضية مؤشر إيجابي نحو الإتجاه الصحيح.
نقاد الحكومات العربية اليوم في العالم العربي الذين يطالبون حكوماتهم بالتغيير والإصلاح مخطئون في أولوياتهم وفي تعريف المسألة الأساسية المسببة في تخلف العالم العربي ونهضة الوعي الشعبي. ولو أفترضنا اليوم أنه أستطاع أي شعب من بلدان الوطن العربي بأن يبني نظام حكم يتسم بالحرية والديمقراطية ويوصل حاكم ألى فوهة الحكم عبر أنتخابات شفافة ونزيهة، كما يطالب أخواننا مناصرين الديمقراطية والحرية في الوطن العربي، لاأستطيع إلا أن أجزم تحت هذه الظروف الإجتماعية والثقافية والإقتصادية التي يعيشها الوطن العربي اليوم أنه لن يضمن هذا الشعب إستمرارية هذا الحكم الديمقراطي أكثر من عدة شهور قبل أن يعود إلى حالة إنعدام التوازن في القوى المحلية والإقليمية وتفشي الفوضى والفساد والعنف والإقتتال الطائفي والمذهبي والدمار والخراب في ذلك البلد، ولنا في لبنان والضفة وغزة والعراق أمثلة تُعد ولاتحصى، أخذين بعين الإعتبار الإختلاف في تاريخ الحوادث والظروف والمعطيات الموجودة على الأرض في هذه البلدان عن بعضها البعض في قيام ونشوء الحركات الديمقراطية فيها.
مفهوم الحرية والديمقراطية عند المواطن العربي مختلف تماماً عن أصول ومنبع تلك المفاهيم الأغريقية. والمواطن العربي اليوم لايكترث أبداً لهذه المفاهيم المنبتة الصلة بالدين بمعناها الجوهري، و أهتمامه الأول والأخير اليوم ينصب في دينه وصلاته وشيخه. الحرية والديمقراطية العربية اليوم تستمد معناها عند رجل الشارع في الوطن العربي عند الأغلبية المسلمة من سماع الآذان خمس مرات في اليوم والذهاب ألى الصلاة من دون أن يعترض طريقه أحد ومن دون أن يمنعه أو أن يتدخل ذلك الحاكم أو الملك أو السلطان من ممارسته لهذا الطقس الديني.
هؤلاء المثقفين العرب ممن يعيشون داخل هذا المجتمع العربي وخارجه، أصحاب الفكر التحرري والديمقراطي اليوم، الذين تبنوا ذلك الفكر القائم على تشخيص جميع أمراض المجتمع العربي إلى إنعدام الحرية والديمقراطية فيه يفتقدون الرؤية الثاقبة لواقع الأمور، ويكذبون على أنفسهم بأنه لمجرد إعطاء الفرد والمواطن العربي كامل حقوقه في إدارة شؤون بلاده سيعم الأمن والسلام على تلك البلاد وستجلب لنا هذه الديمقراطية ماهو أفضل مما نحن فيه، وكأن هذه الأيقونة أصبحت المعجزة الإلهية التي ستشفينا من جميع تلك الأمراض الإجتماعية ناهيك عن الخرافات والأساطير الدينية التي طالما فتكت وماتزال تفتك بمجتمعاتنا العربية على طول الزمن.
لطالما أحببت أن أسأل أحد المعارضيين السوريين الذي يُعتبر ضمن دوائر النخبة المثقفة من المفكرين المخضرمين في صفوف المعارضة السورية، والذي حالفني الحظ بأن أجتمع معه خلال رحلتي القصيرة في صفوف تلك المعارضة وأستمع أليه شخصياً في محاضرة ألقاها في واشنطن، عما إذا كان برأيه أنه في حال حصول تغيير في الحكم الحالي في سوريا لن تنقلب البلد ألى عراق أو لبنان أخر؟ وإن كان كل ماينادي به من أحترام لحقوق الإنسان والحرية الفردية والعامة، تستطيع أن تفهمه وتدرك معانيه ومفاهيمه تلك الأغلبية الساحقة من أبناء المدن والقرى والبادية، وتمارسه بمفهومه الأصلي تاركة خلفها ولائها للعادات والتقاليد المحلية و الدين والمذهب والعائلة والقبيلة والشيخ و كبير العشيرة؟ جوابي عن هذه الأسئلة أتى عن طريق الصدفة عندما أدهشني هذا الشخص الذي يدعي العلمانية وينتمي للفكر اليساري التقدمي في العالم العربي وأوضح مدى الحقد والكراهية الطائفية الذي يضمره في داخله للحاكم في سوريا. ففي سياق الحديث معه عن التاريخ السياسي المعاصر في سوريا ووصول حاكم من أبناء الطائفة العلوية فيها ألى الحكم، فاجأني ذلك المفكر والدكتور الفيلسوف بما يحمله من إنطباع سلبي عام عن مجتمع الطائفة العلوية في سوريا عندما أخبرني بعفوية تامة جداً عن أنعدام وجود “منظومة أخلاقية” في ذلك المجتمع!!! غائباً على ذلك الفيلسوف السياسي أن نصفي إن صح التعبير ينتمي ألى هذا المجتمع مباشرة عبر والدتي رحمها الله ، مع أنني لايمكن أن أصف نفسي بالشخص الملتزم دينياً. كيف يمكن لإنسان في ذلك المستوى الثقافي والفكري أن يعتقد أن هناك مجتمع اليوم على وجه الأرض من دون “منظومة أخلاقية”؟ والسؤال الأهم هنا إن كانت نخبة المثقفين والمفكرين في الوطن العربي يفتقدون المناعة الكافية لحماية أنفسهم من خطر الفكر الطائفي والمذهبي فهل نستطيع أن نلوم رجل الشارع العربي من تأثيرهذا الفكر السرطاني؟
يظن البعض من دعاة الفكر التحرري والتقدمي في الوطن العربي أن الوسيلة الأساسية للإرتقاء بنظم الحكم العربية هي الدفاع عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحث الحكومات العربية على تبني هوامش أوسع في الحريات العامة والفردية لدعم المشاركة الفعلية للمواطن العربي في إدارة شؤون بلاده. ويذهب بعضهم من المعارضيين السياسيين ألى تبني وجهات نظر مفكرين ومستشرقين غربيين يعملون لصالح جهات متعددة المآرب والأطماع في أوطاننا العربية وبذلك يخرجون من إطارهم وإنتمائاتهم العربية ليلبسوا لباس غريب الشكل والمضمون لايتقبله أحد في مجتمعاتهم وأوطانهم. وهنا علينا أن نسأل أنفسنا بصدق وشفافية تامة، هل يمكن لهذه النخبة من أبناء العالم العربي التي تدعي المدنية والتقدم وتطالب بالتغيير والإصلاح من أن تحكم هذه الشعوب العربية بجميع مذاهبها وتياراتها وأنتمائاتها المختلفة من دون أن تلجأ أحياناً ألى قمع بعض الحريات التي طالما كانت الهاجس الرئيس لهؤلاء المعارضيين السياسيين؟
لست هنا في مجال الدفاع عن أي نظام حاكم أو سلطة في الوطن العربي، ولايمكن أن أسمح لنفسي بترويج القمع الفكري والإستبداد السياسي، فمن البديهي أن الحرية الفردية حق مولود مع كل إنسان على وجه الأرض، ولاأعتقد أننا نستطيع أن نجد اليوم دستور واحد في أي بلد في العالم لايضمن تلك الحرية للمواطن بصيغة كونية، ولكن أسأل نفسي هل يمكن للمواطن العربي الذي يعيش تحت وطأة الإرهاب الإسلامي والفكر السلفي الديني أن يفهم أن حريته تنتهي عندما تبدأ حرية الأخرين؟ معركة الحرية والديمقراطية في الوطن العربي اليوم يجب أن تسلط الضوء على جوهر التخلف والإنحطاط الذي يشهده العالم العربي اليوم تحت وطأة وتأثير الفكر الديني المتزمت الرجعي الذي خلف ومازال يخلف الإرهابيين أمثال أيمن الظواهري وأسامة بن لادن وطلابهم.
قبل أن ننادي بالديمقراطية والحرية في الوطن العربي علينا أن نتخلص من تلك الثقافة الدينية السامة التي أودت بمجتمعنا ألى الجحيم، ومعركتنا اليوم لنهضة الوعي الشعبي العام تبدأ وتنتهي بالخلاص من الإستبداد والتسلط الديني والفكري لرجال الدين وقلع الجذور القبلية والعشائرية من عقل وقلب المواطن العربي.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى