المسألة الكرديةصفحات سورية

مقدمة لمشروع الحكم الذاتي الكردي في سوريا

null
جان كورد
-1-
قبل كل شيء أوّد التوضيح بأن هذا مجرّد مقال سياسي “شخصي”، وليس جزءاً من مشروع متكامل للحكم الذاتي، فهكذا عمل مهم يجب أن يتأسس على أيدي خبراء في القانون الدولي وفي القانون الوطني السوري، إضافة إلى عمل مجموعات مشتركة من أهل الحل والعقد في الأحزاب السياسية الكردية، التي يبدوأن لا شيء يمكن القيام به بين الشعب الكردي بدونها، وهذا شيء جيّد ودليل على أن هذا الشعب ينظّم نفسه، ويحب التنظيم ويدرك أهمية الحياة المنظّمة، ولو كان ذلك بأسلوب بسيط وخاطىء أحياناً، ويخلو من مؤسسات قوية، لابّد منها لتنظيم حياة شعب بكامله، والأحزاب، رغم كبر خريطتها التنظيمية الحالية وتشعّبها لا تستطيع القيام بكل المهام الكبرى التي تقتضيهاالحياة المنظّمة، ومثل تلك المؤسسات الضرورية لن تتكوّن وتتحقق إلا في حياة يحياها الشعب في الحرية والديموقراطية …
بداية، يجب القول بأنّ تبنّي مشروع “الحكم الذاتي” الكردي من قبل أحزاب كردية سورية يعتمد في الأساس على أن هناك شعباً يعيش على أرض وطنه التاريخي في الجزءالسوري من كوردستان المجزّأة بموجب معاهدة سايكس – بيكو الاستعمارية لعام 1916 م من قبل الانجليز والفرنسيين.
كما يقوم هذا المشروع على أساس وجود منطقة معيّنة في سوريا، يؤسس فيها الحكم الذاتي من قبل سكانها، إذ بدون وجود شعب يطمح إلى التمتّع بلون من ألوان السلطة السياسية وأرض يعيش عليه هذا الشعب لا يمكن التسليم بمثل هكذا مطلب، فهما أساس هذه المطالبة وعليهما بنيت الفكرة… ولذا جاء في منهج حزب يكيتي (الكردي أو الكردستاني) الذي تّم تعديله في المؤتمر السادس (الأخير) واقراره بأن الحزب يسعى لتحقيق “الحكم الذاتي لكوردستان سوريا)، والمقصود بذلك “الحكم الذاتي لشعب كوردستان سوريا”… ولقد جاء هذا المطلب دون “تحديد” لما يعتبره الكرد “كوردستان سوريا”، وكذلك دون طرح مشروع للحكم الذاتي الكردي من قبل المؤتمر أو أعضائه الذين طرحوا الفكرة على المؤتمر واستطاعوا اقناع الآخرين، الذين بدوا، دون خريطة أو مشروع يوضعان بين أيديهم، كمن يشتري السمك في الماء، بضرورة قبولها واقرارها في مؤتمرهم.
ويجب التنويه هنا بأن تطبيق مشروع الحزام العربي، الذي مُنِحَ اسماَ برّاقاً آخر هو (مزارع الدولة)، القاضي باخلاء الشريط الحدودي بعمق 15 كم على طول الحدود الدولية بين العراق وتركيا وسوريا، ومن قبله مشروع “الاحصاء الاستثنائي” المطبّق في محافظة الجزيرة والحسكة لعام1962، انما تم تطبيقهما لأهداف سياسية عنصرية بحتة في مقدمتها فصل شعب كوردستان سوريا من أجزاء كوردستان الأخرى فصلاً تاماً، ولكنهما في الوقت ذاته يفضحان تلك المزاعم الرسمية الشوفينية التي تقول بأن الكرد مهاجرون عبر الحدود من الشمال (شمال كوردستان!) إلى الجنوب، بدليل أن المشروعين العنصريين لم يشملا منطقتي كوباني (عين العرب!) وجبل الأكراد التي مركزها عفرين وتقع في الجزء الغربي من محافظة حلب، بل اكتفى النظام البعثي في ظل الرئيس الراحل حافظ الأسد (أهم داعم في المنطقة للأحزاب الكردستانية الرئيسية في جنوب وشمال كوردستان) بتقطيع أوصال هاتين المنطقتين التي كان الكرد يشكّلون فيهما نسبة تزيد عن ال 98 % من السكان في عهد حركته “التصحيحية!”، وألحق بعض قرى المنطقتين الكرديتين بالمناطق العربية المجاورة، لأهداف سياسية بحتة وليست لحاجة ادارية معيّنة، وفي هذا اعتراف ضمني من النظام بوجود مناطق كردية ثابتة في الشمال السوري، بمعنى أن سكانها أصليون لم يتسللوا عبر الحدود.
وفي الحقيقة فإن الهجرات الداخلية في عموم كوردستان الواسعة ( ما يقارب 700.000 كم²)، التي تزيد مساحتها عن مساحة خمس دول أوروبية مجتمعة، لم تتوقّف عبر التاريخ لأسباب البحث عن الماء والمراعي، والنزاعات القبلية والأوبئة الفتّاكة والحروب والغزوات الخارجية منذ العهود السحيقة وحتى عصرنا الحالي. ومن أهمها الغزو الفارسي في عهد خسرو شاه باتجاه بلاد اليونان عبر كوردستان، والغزو المعاكس بقيادة اسكندر المقدوني شرقاً، الغزو المنغولي والتتري المدمّر بقيادة جنكيزخان وهولاكو وأتيلا وسواهم من شرق آسيا، والغزو الصليبي بقيادة باباوات الفاتيكان من أوروبا صوب الشرق الأوسط، والاستعمار الكلاسيكي للفرنسيين والانجليز والروس، وبعدها سلسلة الحروب الرهيبة في المنطقة، وبخاصة حرب “الأنفال” التي شنّهانظام البعث العراقي على الشعب الكردي في جنوب كردستان، وحرب ملالي طهرانوقم على شعبنا في شرق كوردستان، والحروب العديدةالمتتالية للطورانيين ضد شعبنا في شمال كوردستان، منذ قيام الجمهورية التركية في عام 1923 وإلى الآن… وهذه الهجرات الاضطرارية أو التي تفرزها الحياة الاجتماعية – الاقتصادية في المجتمعات البشرية المختلفة شيء طبيعي في كل أنحاء العالم، وتأريخ الشعب الألماني – مثلاً- لايختلف كثيراً عن تاريخ الشعب الكردي في هذاالمجال…
ولذا فإن نظرة الأحزاب السياسية الكردية، بل سائر المثقفين الكرد صحيحة ومقبولة عقلانياً، تلك التي تقول بأن القضية الكردية في سوريا هي قضية “شعب وأرض” وليس مجرّد مسألة ضياع بعض حقوق “المواطنة” لجماعة أو أفراد، وأن الكرد الذين يشكّلون أهم مكوّن اثني إلى جانب الشعب العربي في سوريا يعيشون على جزء من أرض وطنهم الكبير، الذي تمّ تمزيقه وتوزيعه على عدة دول متجاورة، وهذا الجزء من الوطن الكردي يسميه الكرد أنفسهم ب”كردستان سوريا” أو “غرب كردستان” باعتبار أن مصطلحات شرق وجنوب وشمال كردستان مستخدمة بشكل واسع بين الشعب الكردي، ولا يمكن أن توجد هذه الاتجاهات الجغرافية الثلاث دون وجود الاتجاه الرابع، ويشاركهم الرأي في هذا أوالتسمية لدى التطرّق إلى الموضوع الكردي عقلاء العرب والعجم أيضاً، وإلاّ فمن الصعب تحديد جذور المشكلة أو شرحها بالشكل الصحيح والوافي لطلاب المعاهد السياسية والديبلوماسية وللمواطن العادي الذي يهمه معرفة الحقائق التاريخية والجغرافية وليس التضليل الاعلامي لحزب عنصري حاكم أو زمرة من “المثقفين الخونة” الذين خانوا الثقافة وانجرفوا كخدم مطيعين للشريحة السياسية الحاكمة بقوة الحديد والنار.
للحكم الذاتي تعريفان، الأوّل سياسي دولي، يقوم على أساس ايجاد صيغة قانونية من (الاستقلال الذاتي) للأقاليم المستعمَرَة، والثاني داخلي وطني، على أساس اللامركزية التي تعترف لاقليم أو منطقة أو عدة مناطق معيّنة ومتميّزة قومياً أو عرقياً أو دينياً في ادارة ذاته / ذاتها، تحت إشراف السلطة الوطنية المركزية، دون إفراط أو تفريط، وليس في هذا تفتيت لوحدة البلاد إلا من وجهة نظر عشّاق السلطة المركزية، وانما في ذلك اثراء للسلطة الوطنية التي هدفها خدمة الشعب وليس فئة معيّنة منه دون فئة أخرى، أو تغليب مصلحة هذه على مصلحة الأخرى، كما حدث للكرد في سوريا منذ الاستقلال الذي ساهموا بقوة في نيله وإلى اليوم… أي هناك حكم ذاتي دولي وحكم ذاتي داخلي، والأخير هو موضوع الحديث الكردي السوري بشكل عام وداخل الحراك السياسي الكردي بشكل خاص.
إنّ الحكم الذاتي الداخلي هو ما تبنّته بالتأكيد بعض التنظيمات الكردية خارج البلاد، وفي مقدمتها الحزب الديموقراطي الكردستاني – سوريا، منذ عام 2000م، ومن ثمّ أقّره حزب يكيتي الكردي في مؤتمره السادس (الأخير) في أواخر العام الماضي، ونجم عن ذلك خلاف أدّى إلى خروج غالبية أعضائه وتنظيماته خارج البلاد عليه، واعلان تأسيس حزب يكيتي الكردستاني، حيث برامج كل الاحزاب الكردية السورية على اختلاف وجهات نظرها سياسياً وفكرياً تطالب بحل ديموقراطي عادل للقضية القومية الكردية ضمن حدود الدولة السورية وعلى أساس صون الوحدة الوطنية للبلاد السورية، واستعادة الأجزاء المسلوبة والمحتلة منها أيضا. وعليه فإنّ اتهامات الشوفينيين والعنصريين العرب وغير العرب من السوريين للكرد بأنهم يسعون من خلال طرح مشروع “الحكم الذاتي” إلى “الانفصال” أو “تقسيم وتفتيت البلاد” مردودة وعارية عن الصحّة، وهي محاولات رجعية، تّطلَقُ أحيانا من على منابر المعارضة “الديموقراطية!” أيضاً، وهدفها هو اعتراض مسيرة الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، حيث في الديموقراطية يكمن حل أصعب المشاكل عن طريق العودة إلى صناديق الانتخاب وعن طريق الاعتراف بالمعاهدات الدولية الخاصة بهذه المسألة الهامة في القانون الدولي، وبخاصة تلك البنود المتعلّقة ب”حق تقرير المصير للشعوب”، وحل المشاكل العالقة في البلدان التي يعيش فيها أكثر من شعب واحد، كما هو حال سوريا اليوم.
لقد تّم تطبيق الحكم الذاتي (أوتونوميا) عبر العصور المختلفة، في الامبراطوريات القديمة، لدى الاغريق والرومان، في ظل الدول الاستعمارية والدول الاشتراكية على حد سواء، في العالم المتقدّم ديموقراطياً، وفي العالم الثالث المتأخر سياسياً واقتصادياً… وهناك أمثلة عديدة على ذلك، منها (الرابطة البحرية لأثينا) في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان، حيث كان للرابطة حق التمتّع بالحكم الذاتي، والاشتراك في قرارات الحرب أو رفضها، وعدم دفع الضرائب لأثينا، وكانت لها محاكم محلّية خاصة بالمنطقة،كما كانت لها التزامات تجاهالدفاع عن البلاد في حالات الحروب وعقد السلام. وفيالامبراطورية الرومانية تمتّعت سوريا ذاتها بالحكم الذاتي، وكان كافياً لاقامة هذا اللون من الحكم وجود مناطق (أرض) للشعب الذي يسعى لحكم ذاته بذاته، وكانت الضرائب المسددة للمركز تسقط بذلك عن كاهل المواطنين…أي أن الجانب الاقتصادي كان يلعب دوراً هاماً للغاية إلى جانب الفكرة السياسية. وكانالحكم الذاتي بين (1100م و 1492م) الطابع المميّز في تكوين الكيانات السياسية في أوروبا، ونرى ذلك واضحاً جداً في ايطاليا، في نورماندي وسردينيا، على الرغم من أن الحكم الذاتي كان يمارس في تلك النظم على شكل (دولة داخل دولة قائمة)، فالكنيسة كانت المالكة الكبرى التي تقوم طوعاً أو كرهاً بالتنازل عن صلاحياتها الادارية والسياسية في مناطق معينة من (مملكة الله). وأدّت الفروق بين (القانون الكنسي) و (القانون الروماني) إلى فروقات في تطبيقات وتأويلات مبدأ الحكم الذاتي في أوروبا، كما لعبت في القرن الثالث عشر فكرة توزيع السلطات بين المركز المتشدد والأطراف المطالبة بمزيد من الحقوق دوراً هاماً في ظل النظام الاقطاعي، فكان هناك “قانون المقاطعات” الذي يمنح الاقطاعيين مجالاً أوسع لحكم اقطاعياتهم في ظل الملك أو الكتيسة.
وعن تطبيقات الحكم الذاتي الخارجي (الدولي) الهامة، فقد اعترف الروس بعد نشأة الحلف المقدّس (روسيا والنمسا وبروسيا) في عام1815 بالحكم الذاتي للشعب البولوني في بولندا المجزّأة، واعترفوا في اتفاقيتهم مع العثمانيين في عام 1829 بالحكم الذاتي لصربيا، في حين منح العثمانيون لبنان في عام 1864 حكماً ذاتياً. كما شهد ذلك القرن تطبيق نظام الحكم الذاتي لكندا من قبل المملكة البريطانية، وذلك بعد ثلاثة قرون من منحها كلاً من كيوبيك وأونتاريو الكنديتين حكماً ذاتياً…
رأى الألمان في اعادة الدولة ما انتزعته من قبل من المناطق والدويلات الصغيرة اعترافاً متأخراً بحقوقها الطبيعية، ومنها السلطة الاقليمية، بينما اختلط الأمر على الفرنسيين بعد الثورة، فقد كانوا يستخدمون مفهوم الحكم الذاتي كمرادف للحرية والديموقراطية أو يفسرونه باللامركزية، وتم اجهاض مفهوم “الحكم الذاتي” لصالح الدولة المركزية. في حين نشأ في اسبانيا نوع من الحكم الذاتي (على صورة برلمان خاص) في اقليم كاتالونيا منذ عام 1359م،وتطوّرت الفكرة خلال قرنين إلى ممارسة أشمل من الموضوعات القضائية والمالية في الاقليم إلى المشاكل السياسية، إلى أن أدخل الاسبانيون في نهايةعام1931 ماسموّه ب”نظام المناطق”في دستورهم.
تم تطبيق نظام الحكم الداخلي في بلجيكا الصغيرة بالنسبة إلى الدول السابقة منذ عام 1831 وذلك على شكل وحدات اقليمية ذات امتيازات وصلاحيات ادارية واسعة، وطبّق الاتحاد السوفييتي منذ نجاح الثورة البلشفية تماماً،أي في عام 1918، فكرة “الحكم الذاتي في عدة اقاليم ومقاطعات في تركمنستان واوزبكستان وتركستان وطاجكستان وقيرغيزيا وقره كلباكيا وبشكيريا، وتتارستان، حتى أن الاتحاد الشيوعي الكبير منح الكرد، رغم قلة وجودهم السكاني بالنسبة لغيرهم من شعوب الاتحاد الكبيرة والكثيرة، منطقة للحكم الذاتي في منطقة كاراباخ، المتنازع عليها بين الأرمن والآذريين، يسميها بعض المؤرخين ب”كوردستان الحمراء”.
وتمكّن الآذريون في أذربايجان الغربية التابعة لايران والكورد في شرق كوردستان (كوردستان ايران) من حكم ذاتهم في ظل رئاسة القاضي محمّد الذي ألّف حكومة من وزراء ورفع العلم القومي الكردي فوق سراي مدينة مهاباد التي جعلها عاصمة وأسس جيشاً، كان الجنرال مصطفى البارزاني، الثائر الكوردستاني الشهير، من جنوب كوردستان، أحد قادته المحاربين، وأقام علاقات تجارية وسياسية مع روسيا وآذربايجان، كما منح نظام البعث العراقي في عام 1970 تحت ضغط الثورة الكردية الكبرى ولأسباب تكيتيكية معروفة حكماً ذاتيا للشعب الكوردي في جنوب كوردستان (كوردستان العراق)، واعتبر ذلك انجازاً تاريخياً عظيماً يعيد للبلاد العراقية وحدتها الوطنية، كما جاء في بيانات الطرفين،العربي والكردي، ولميخطر ببال أحد سوى بعض البعثيين السوريين اليمينيين آنذاك بأن هذا “تنازل للشعوبية!” واستشهد بعضهم بشعرعربي قديم عندما عقدت اتفاقية الحكم الذاتي بين الحكومة المركزية في بغداد والقيادة الكردية بقيادة البارزاني الخالد، ذلك الشعر الذي يتأوه حسرة لنكد الدهر على المرء أن يرغم قبول صداقة “عدو لابّد من صداقته!”…
ونرى أيضاً تطبيقات عديدة ومختلفة للحكم الذاتي الداخلي في الصين والهند والسودان وفلسطين (قبل ظهور مشروع الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية)، رغم الاختلافات في النظم السياسية وعقائدها وأديانها ومواقعها الجيوسياسية في العالم…
من مختلف التعريفات والتفسيرات للحكم الذاتي “الأتونوميا”، يمكن وضع أربعة شروط له، هي:
– حق اعلان الذات: بمعنى أن تعلن القومية ذاتها عن حقها في التمتّع بالحكم الذاتي.
– حق تحديد الذات: أي تحدد القومية بذاتها رقعة الأرض (منطقة الحكم الذاتي) التي تعيش عليها وتريد لها الحكم الذاتي فيها، دون ترك الأمر للسلطة المركزية.
– حق تنظيم الذات: بأن تظهر قدرتها على تنظيم شؤون منطقة الحكم الذاتي عن طريق مجلس منتخب من شعبها يتولى عبر أجهزته ولجانه التنفيذية مسؤولية تسيير شؤونها المالية والادارية والثقافية والاقتصادية، إضافة إلى القضاء والأمن.
– حق الممارسة الذاتية: بمعنى أن تقوم عملياً وبشكل مستمر بتدبير شؤونها المختلفة وتطبيق الحكم الذاتي الفعلي في منطقتها.
وحيث أن الفصل الحادي عشر من ميثاق الأمم المتحدة ، الموقّع من قبل سوريا أيضاً، يتطرّق إلى التزامات للسلطة المركزية بشأن بلوغ الهدف (الحكم الذاتي) للشعب المطالب بذلك في حدود الدولة الوطنية، وتحت إشراف السلطة المركزية، فإن من الضروري أن يتضمّن دستور الدولة مادة أو مواد خاصة تحدد صلاحيات وسلطات منطقة الحكم الذاتي، على أساس التوافق والتكامل بين الدستور العام والقوانين التي تصدر عن المجلس الاقليمي الخاص بمنطقة الحكم الذاتي، وتحلّ الخلافات بين الطرفين (المركزي والاقليمي) عن طريق المحكمة الدستورية العليا، التي من واجبها السهر على تأمين كل حقوق القومية المتمتّعة بالحكم الذاتي دستورياً، طالما لا تخرج قوانينها عن المسار العام لمواد الدستور الوطني، وذلك حفاظاً على مبدأ “حق تقرير المصير للشعوب” الموقّع عليه من قبل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وضماناً للاعتراف العملي بلائحة حقوق الإنسان والمعاهدة الدولية الملحقة بذلك في عام 1966، والمنبثقة أصلاً من الميثاق الدولي لحقوق الإنسان في عام 1948م، المعترف به عالمياً.
الموضوع شائك وواسع، ويتطلّب منا العودة إلى مفهوم “الحكم الذاتي” حسب ميثاق ومعاهدات وتفسيرات الأمم المتحدة، كما يضعنا أمام مسؤولية كبيرة، هي دراسة الوضع القومي الكردي في غرب كوردستان (شمال سوريا) دراسة متأنية وموضوعية للوصول إلى أنجع وأسهل وأضمن مقترح لتطبيق فكرة “الحكم الذاتي” المعترف بها دولياً والمطبقّة عملياً في أنحاء مختلفة من عالمنا المعاصر، ولا يمكن أن تشكّل سوريا في ذلك استثناءً، وأن توضع خريطة تفصيلية دقيقة ل”كوردستان سوريا”، بعد التأكيد والتوضيح في موضوع الاستيطان العربي المبرمج من قبل النظام والحاقه مناطق كوردية بالمناطق العربية لأسباب سياسية بحتة (كما حدث في العراق سابقاً في عهد البعث البائد)، وكل ذلك يجب أن يتّم بجرّ الديموقراطيين والوطنيين السوريين الآخرين، بحكم مبادئهم العالمية العظيمة، الوضعية أو الدينية، إلى المناقشة والعمل بروح التآخي والتعاون والوطنية الفائقة لبناء مشروع متكامل مرضٍ للجميع ومتفق عليه من باب وحدة البلاد السورية وتعميق التعايش الأخوي بين مكوناته الاثنية والدينية، وعلى أساس مراعاة وجود أقليات قومية ودينية غير كردية تتعايش من قبل تطبيق المشاريع العنصرية الرسمية مع الكرد في مناطقهم، مع الرفض القاطع لتلك المزاعم التي تنكر وجود الشعب الكردي أصلاً وتحاول اظهار الكرد في وطنهم شعباً بلا أرض وبلا تاريخ، كما هو ديدن بعض فئات العنصريين والحاقدين الذين لم يعملوا في تاريخ المنطقة سوى كجواسيس وعملاء ضد الكرد، يؤلبّون مختلف الأنظمة الحاكمة عليهم زوراً وبهتانا، وبخاصة في عهد الفرنسيين المستعمرين، وفي عهد البعث العربي العنصري الحاقدعلى الكورد وكوردستان.
ووظيفة تحقيق هكذا مشروع مهمة مشتركة للخبراء القانونيين والجغرافيين والمؤرخين وسائر المثقفين، ضمن الحراك القومي الكردي والوطني السوري، وخارجهما، وتقع المسؤولية الكبرى على عاتق الذين طرحوا فكرة “الحكم الذاتي” الكردي في سوريا في مناهج تنظيماتهم السياسية، كما تقع المسؤولية على السلطة المركزية التي أقرّت ميثاق الأمم المتحدة وملحقاته من اتفاقيات ومعاهدات دولية…
-2-
بعد أن أوضحنا الشروط الأربعة لاقامة “الحكم الذاتي”، وبيّنا ضرورة وجود عنصرين أساسين له، هما الشعب والأرض، وتطرّقنا باختصارإلى التطبيقات التاريخية له، ننتقل إلى صدى هذه الفكرة في العصر الحالي، وما أقرّته المنظّمة الدولية (الأمم المتحدة) ومن قبلها عصبة الأمم في هذا المجال.
ولكن – قبل ذلك- أوّد التلميح هنا بأنّ بعض المثقفين السوريين، ومنهم من نعتبرهم أصدقاءً للشعب الكردي وعاملين على بناء المجتمع السوري الديموقراطي الحديث، يكاد لا يستوعبون حقيقة التغيير الأساسي في بنيّة الدولة العراقية، التي طبقت “الحكم الذاتي” من قبل، وتسعى لتطبيق “الفيدرالية” حالياً، من دولة موغلة في المركزية، لدرجة أنها كانت دولة تقاد من قبل شخص واحد ذي عقلية عشائرية دكتاتورية مطلقة، هي شخص الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، الغني عن التعريف، إلى دولة لامركزية (فيدرالية) ديموقراطية ذات دستور مختلف تماماً عما سبق. لا يستطيع فيها رئيس الجمهورية (حاليا جلال الطالباني الكردي) من اصدار مرسوم تشريعي لوحده، وتخضع فيه الحكومة لبرلمان متعدد الاتجاهات السياسية… ومن هؤلاء المثقفين الكبار من يعتقد بأنه في ظل هذا الدستور لم تعد للبيشمركه الكرد الذين تحوّلوا من مقاتلين إلى (جيش حماية الاقليم الكردي) أي علاقة بالجيش العراقي، فيتساءل الأستاذ غسان المفلّح مثلاً -الذي نحترمه ونقدّر جهوده ونشاطه- عمّا إذا كان عنصر البيشمركة يؤدي التحية للضابط العراقي، كدليل على الافتراق بسبب “الفيدرالية”، فنطمئن الصديق العزيز على أن البيشمركة جزء من كيانات الجيش العراقي دستورياً ، وقد انضمت قطعات من قوات البيشمركة إلى هذا الجيش بحدود فرقتين مؤخراً، وأنّ قائد البيشمركه بذاته (بابكر) هو رئيس هيئة الأركان العراقية حالياً وحصل على جائزة كبرى من الجيش الأمريكي لما يقوم به من جهود كثيفة لتحقيق الأمن والاستقرار في العراق، وليس في كوردستان، وإذا كان الهدف من الجيش العراقي حماية البلاد العراقية، فإنّ البيشمركه هم الذين يحمون عملياً مساحة واسعة من العراق (كل اقليم كوردستان العراق) حماية كاملة، من الارهابيين والمتسللين الانتحاريين…
ومن أصدقائنا العرب السوريين أيضاً من لا يستطيع تصوّر منطقة “حكم ذاتي” للشعب الكردي في سوريا، لأن هذا الشعب موزّع على ثلاث مناطق أساسية هي (الجزيرة وكوباني وجبل الأكراد)، في حين أنه لايجد حرجاً في تكوين “دولة” فلسطينية مستقلّة من منطقتين منفصلتين أيضاً، هما (الضفة الغربية وغزّة)… وهذا ما يثير لدينا التساؤل عمّا إذا كان بعض هؤلاء المثقفين يبحث عن حل واقعي وحقيقي للقضية الكردية أصلاً، أم أنه يسعى لبرمجة كل أمر حسب تصوراته الخيالية عن وطن سوري مثالي…
لدى تأسيس “عصبة الأمم” في 14/2/1919، كانت الشعوب تناضل بقوّة من أجل حريتها واستقلالها، وكانت الأفكار القومية العاصفة تدعم نزعة الانفصال والاستقلال عن الدول المستعمِرَة، في حين أن هدف الدول المستعمِرَة كان الابقاء على الشعوب تحت “الوصاية” و”الانتداب”، هذه الفكرة التي يقال بأن الرئيس الأمريكي “ويلسون” كان قد اقترحها، فتلقفها الأوربيون حالاً للتستّر بها على أهدافهم وخططهم الاستعمارية.
ولكن مع ذلك فإن “عصبة الأمم” قد جعلت من فكرة “الحكم الذاتي” من الناحية النظرية تمهيداً لاستقلال المستعمرات، ونرى تأثير ذلك المنحى جلياً في معاهدة سيفر لعام 1920 بالنسبة للمواد المتعلّقة بكوردستان، وفي صك الانتداب البريطاني بخصوص العراق في عام 1920، وفي صك الانتداب البريطاني على فلسطين في عام 1922، المنظّم أصلاً من قبل “عصبة الأمم”، حيث نجد فيه التأكيد على المسؤولية البريطانية كدولة منتدبة لدعم مؤسسات الحكم الذاتي الفلسطيني و”تشجيع” الفكرة باتجاه نيل استقلال محلّي. ولذا يمكن القول بأنّ المادة (22) من العهد الدولي لعصبة الأمم كانت تقّر مفهوم “الحكم الذاتي” عملياً، رغم عدم وجود نص صريح به فيها، وبخاصة حين نقرأ البند الرابع من هذه المادة بصدد الجماعات العرقية ضمن إطار الدولة العثمانية، ومنها العرب والكرد والأرمن أيضاً.
وعدم الصراحة آنذاك بهذا المفهوم المقبول عملياً يعود إلى أن بعض الدول التي أسست تلك العصبة ونسجت ميثاقها لم تكن راغبة حقيقةً في منح الشعوب استقلالها، رغم التنامي العظيم لأفكار الحرية والمساواة والعدالة في مجتمعات هذه الدول، وبخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى المنهكة للجميع والتي هدرت طاقات مالية وبشرية هائلة، وخلّفت آلاماً عظيمة للبشرية جمعاء.
وكانت موازين القوى الفعلية تلعب دوراً هاماً في تعزيز مفاهيم الحكم الذاتي والاستقلال أو اضعافها، بدليل أن الدول الكبرى عدّلت اتفاقية سيفر (1920) باتفاقية لوزان (1923) لصالح الدولة التركية الحديثة، ضد مصلحة الأمة الكردية، حيث وجدوا في الجمهورية التركية وقائدها الذي فرض نفسه بالقوة والقمع على البلاد، سدأً منيعاً أمام الزحف الشيوعي الحديث العهد آنذاك صوب المياه الدافئة، فتم دعم نظام مصطفى كمال (آتاتورك: أب الأتراك؟!) الذي تحوّل من عميل انجليزي صغير منذ أيام الحرب في فلسطين والأردن بين الانجليز والعثمانيين إلى رجل دولة جعل من بلاده قلعة أمامية للأوربيين مدججة بالسلاح في مواجهة الاتحاد السوفييتي والعالم الإسلامي معاً.
ولا ينكرأن استعداد الشعوب لنيل حريتها ونمو وعيها الوطني والقومي كان يلعب دوراً كبيراً في قبول وطلب مفهوم “الحكم الذاتي” أو “الاستقلال”، وكمثال على ذلك نذكر أنه في حين تعاون الشريف حسين (الأمير العربي)، ومصطفى كمال (الطوراني) مع الانجليز والفرنسيين من أجل انقاذ بلادهم من قبضة (الرجل المريض) أي الخلافة العثمانية، فإنّ الشيخ محمود البرزنجي (ملك جنوب كوردستان) قد رفض حتى مصافحة المبعوث الانجليزي (الكافر) في السليمانية، وحارب الانجليز المزوّدين بالطائرات والدبابات والمرتزقة الهنود والأفارقة حتى اعتقلوه بعد اصابته بجروح في المعركة ونقلوه بطائرة حربية صغيرة ومكشوفة إلى بغداد، ومن هناك نفوه إلى الهند، أما الزعيم الكردي الآخر، في شمال كوردستان، الشيخ سعيد بيراني فقد ثار ضد الحركة الطورانية القومية الساعية لبناء جمهورية حديثة غير عثمانية، وطالب باعادة الخلافة الإسلامية وضمان حقوق شعب كوردستان فيها، فاعتقل وأعدم مع خيرة رجالات الكرد الأحرار، دون مراعاة لشيخوخته، وخيانة من أتاتورك الذي اعتمد باستمرار على القوى الكردية والسياسيين الكرد لتحقيق أهدافه الطورانية والعلمانية…
أما ميثاق الأمم المتحدة التي تأسست في 26 حزيران عام 1945 م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، فإنه يتضمّن بصراحة مفهوم “الحكم الذاتي”، والمادة (73) من الفصل الحادي عشر في الميثاق تحث على اعتبار مصالح الأقاليم المتمتّعة أو المطالبة بالحكم الذاتي في المقام الأوّل، كما تحث على ضرورة دعم وانماء الحكم الذاتي وتقدير أماني الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها…
ولكن بسبب عدم تحديد تعريف للحكم الذاتي آنذاك فقد ثار جدل كبير في مؤتمر سان فرانسيسكو (1945)، واتهم بعض المندوبين بأن الغاية من هذا الحكم الذاتي هو استمرار الوصاية والانتداب على المستعمرات وغمط حق الشعوب في الحرية والاستقلال. وفي حين أبدى السوفييت تحفّظهم تجاه تحوّل “الحكم الذاتي” إلى الاستقلال، لأنهم كانوا يسعون لبناء امبراطورية شيوعية دولية، وأصّر الانجليز على أن الحكم الذاتي لايعني مضموناً آخر سوى الاستقلال، حيث هدفه الأخير حرية الشعوب واستقلالها، لأنهم كانوا يعملون على ابطاء تحرّك الشعوب صوب الاستقلال أمداً أطول تحت نفوذهم، فإنّ الأمريكان لمّحوا إلى أن الحكم الذاتي يتضمّن معاني أبعد من الاستقلال السياسي… ثم أثناء انعقاد الدورة الثانية في عام 1945 للجمعية العامة، اكّد الأمريكان في اجتماعات اللجنة المختصّة بذلك على أن للحكم الذاتي شكلان أحدهما يؤدي إلى الاستقلال، والآخر هو استقلال محلّي ذاتي، لايتجاوز حدود صلاحيات ادارية وسياسية محدودة، والأمر متعلّق بمدى النضج السياسي لدى هذه الشعوب وقدرتها على القيام بالاختيار الحر بينهما… وترسخت هذه الفكرة مع الأيام حول “الحكم الذاتي” عالمياً…
أما في الدورة الخامسة عشرة للجمعية العامة في نهاية عام 1960 فقد أقرّت الأمم المتحدة مبدأ “منح البلدان والشعوب المستَعمَرَة استقلالها” وأنّ الاستقلال هو الهدف الحقيقي للمنظمة الدولية وليس “الحكم الذاتي”. وهذا يعني أن الحكم الذاتي غير الاستقلال أو الانفصال بالتأكيد…
وإنّ تطبيقات مفهوم “الحكم الذاتي” في دول الاتحاد السوفييتي الكبير وفي عدة بلدان من العالم آنذاك، كما في (الكاميرون وروديسيا) تثبت بأن هناك بوناً شاسعاً بين المفهومين: الحكم الذاتي والاستقلال.
وجاءت معاهدة كامب ديفيد لعام 1978 بين العرب والاسرائيليين (محمد أنور السادات ومناحيم بيغن) برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر على ضوء المادة (73) من ميثاق الأمم المتحدة، تلك التي تضمن لتلك الشعوب التي لم تنل الحرية والاستقلال حقها الكامل في الحكم الذاتي وادارة اقاليمها بنفسها. ولكن اسرائيل بحكم رجحان موازين القوى الدولية لصالحها استطاعت تقزيم هذا الحق واحداث تحوير صارخ في تفسير نصوص معاهدة كامب ديفيد…
إن الاخفاقات الدولية والوطنية في تطبيق الحكم الذاتي في عدة اقاليم في العالم، مختلفة عن بعضها بعضاً من حيث نمو الوعي السياسي أو من حيث الموقع الجيوسياسي أو من حيث قدراتها على انتزاع حقها في تقرير المصير والتأثير في علاقاتها مع السلطة المركزية في بلدانها لايمكن أن تؤخذ كذرائع وأدلُة لرفض مفهوم “الحكم الذاتي”، فهذا الحق مثبت في ميثاق الأمم المتحدة ومطبّق عملياً في العديد من أنحاء العالم، في دول كبيرة وصغيرة، شاء العنصريون أم أبوا، وسواء رفضه الدكتاتوريون أم برروا رفضهم بتلك الاخفاقات.
والحكم الذاتي يقوّي من أواصر العلاقة بين المركز والأطراف، بدليل أن أقلية ألمانية تعيش في بلجيكا متاخمة بمنطقتها ذات الحكم الذاتي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، لم تتأثر بانضمام الدولتيم الجارتين إلى الاتحاد الأوربي الأوسع والأقوى، فلم يطلب سكان هذه المنطقة بضم منطقتهم لأراضي ألمانيا حتى الآن… وكذلك وضع الأقلية الدانماركية في شمال ألمانيا…
الحكم الذاتي لايمس السيادة الوطنية، والتفصيل في مضامينه يزيدنا قناعة بأنّ ما يطلبه الكرد في سوريا متفق تماماً مع ميثاق الأمم المتحدة، وبالتأكيد فإن هذا الميثاق أرقى مدنية من مفهوم دولة ” العشيرة” التي يريد بعضهم أن يحكمنا بها، مع احترامنا الكبير للمفاهيم النبيلة للعشائر والقبائل، عربية كانت أو غير عربية، حيث فيها انصاف وعدل على الضد من المفاهيم العنصرية لبعض القوميين الذين لايرون ابعد من أنوفهم ولايزالون يؤمنون بالقومية السائدة الكبرى التي لها الحق في ابتلاع القومية الصغرى وصهرها وانكار وجودها وتقزيم حقها في تقرير المصير….

-3-
بعد أن تطرّقنا إلى شروط وأشكال وتطبيقات الحكم الذاتي، ومدى ترسيخه في أساس عصبة الأمم وميثاق منظمة الأمم المتحدة، في مقالين سابقين، ننتقل في هذا الجزء الذي بين أيدينا إلى موضوع السيادة والاستقلال الذاتي والمالي وكذلك الرقابة على ادارة الحكم الذاتي، والعلاقة بين المركز واقليم (منطقة الحكم الذاتي)، وبذلك نكون قد أحطنا -إن شاء الله- بالفكرة عامة وبشكل مبسّط مفهوم…
ترجع أصول مفهوم “السيادة” إلى عصور سحيقة في التاريخ، ولقد ذكرها الفيلسوف أرسطو الاغريقي تحت اسم “السلطة السامية للدولة”. وفي حين اعتبرالفرنسيون الملك صاحب السيادة والسمو، فإن بعض الخبراء السياسيين الأوروبيين اعتبروا “ارادة الأمّة” التي تفرض نفسها في الدولة هي السلطة العليا، ولا توجد سيادة أعلى من القوة الداخلية للدولة، والتي هي ارادة الشعب.
أما الروس فاعتبروا “السيادة” التي تعني “استقلال الدولة بذاتها وعدم التزامها إلاّ بارادتها الذاتية”، هي خاصة مميّزة للدولة وعنصر أساسي في قيامها…ولكن يمكن أن تكون هناك سلطة سياسية ما دون سيادة، كأن تفرض حركة مسلّحة نفسها على بقعة واسعة من البلاد، وتمارس سلطتها السياسية دون أن تكوّن دولة، فالسيادة مقترنة بالدولة وحدها.
وأضاف المفكرون الأمريكيون إلى ذلك بأن الدولة لا تتخلّى عن سيادتها، وبتخليها عن سيادتها تفقد حقها في البقاء كدولة، وعلى الرغم من أنّ الدولة المانحة لاقليم ما الحق في ادارة ذاته (فيدرالياً أو بحكم ذاتي) تخسر جزءاً من سيادتها المطلقة، إلاّ أن الأصل في السلطة العليا والسيادة يبقى في الدولة كعنصرأهم من عنصري امتلاك الأرض وحكم الشعب.
هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فقد تولّت بعض الأقاليم التي كانت مستعمرات بريطانية أو فرنسية سابقة، بنفسها مهمة تمثيل نفسها في معاهدات دولية أو في الانضمام إلى عصبة الامم أو في ارسال مفوّضين لها إلى عواصم لدول كبرى، باستشارة أو بدون استشارة المندوبين السامين للدول المستعمرة. ونعني بذلك تلك الأقاليم التي كانت السلطة السياسية فيها مسيطرة جيداً على أراضيها وحاكمة لشعوبها عملياً…وبحسب المادة (1) من ميثاق لاهاي (1949) فقد انتقلت السيادة من المملكة الهولندية على أندونيسيا انتقالاً كاملاً دون قيود أو شروط إلى الشعوب الاندونيسية، وتنازل الفرنسيون عن السيادة في مستعمرتهم تونس بموجب بروتوكول عام 1956، كما تنازل الانجليز من قبل للعراق عن كثير من الامتيازات والصلاحيات التي مهّدت الطريق فيما بعد لحصوله على السيادة الوطنية…
وحيث أن ميثاق الأمم المتحدة يتضمّن توصيات صريحة بضرورة دعم الحكم الذاتي بهدف تأمين حرية الشعوب، لذا لا يمكن القول بأن شعباً أوجد السلطة السياسية لحكم ذاته يسمح لغيره بالسيادة على أراضي اقليمه الخاص، ولذا فإنّ السيادة الكاملة على الاقليم ذي الحكم الذاتي، لابّد وأن تنتقل – من حيث التطبيق العملي- إلى الشعب الذي يعيش في الاقليم، وعملياً إلى ممثليه ومؤسساته، وأن يزول التناقض الموجود بين مفهوم “السيادة للدولة المركزية” وبين التطبيق العملي لهذه السيادة في الاقليم. وهذه المشكلة نراها بوضوح في الموضوع الشائك للعقود البترولية لاقليم كوردستان العراق مع الشركات الأجنبية مباشرة.
ولاتزال هناك تناقضات كبيرة عالقة في شأن “السيادة” تثيرها خلافات الفقهاء القانونيين باستمرار….
الحكم الذاتي حل وسط بين سياسة الدول المركزية، ومبدأ الحرية الكاملة للشعوب، ويتطلّب أن تكون لسكان الاقليم إدارة مستقّرة (سلطة سياسية) وأن يكونوا قادرين على صون سلطتهم تلك وحماية اقليمهم وأنفسهم فيه، وأن تتوافر لديهم الأموال الكافية لادارة أنفسهم، وبناء مشاريعهم وتسديد مصاريف موظفيهم وتعليم أولادهم وحفظ صحتهم وتطويرثقافتهم، فالحكم الذاتي في الحقيقة “كيان سياسي” وليس مجرّد تركيبة ادارية بحتة لأنه لايعني مطلقاً تنظيف الشوارع المحلية وتطوير البلديات فقط، وانماهو لون من العمل السياسي الدؤوب الذي يؤكّد على الشخصية المتميّزة لسكان الاقليم قومياً أو دينياً… وعليه تكون لاقليم الحكم الذاتي هيئات ذات طابع سياسي هي (مجلس تشريعي، وسلطة تنفيذية، وهيئة قضائية) (ونقول بصوت عال اقليم كردستان سوريا لوجود ثلاث مناطق كردية، فتعبيرالاقليم ينطبق على هذا الوجود بشكل أفضل)، وعلى الرغم من أن بعضهم يفسّر هذا على أنه “أساس لدولة مستقلّة حرّة”، فإنّ الحكم الذاتي مختلف عن “الاستقلال” كونه تطبيق لامركزي داخلي في الدولة، وله علاقات محددة دستورياً بمركز الدولة القائمة، وتخضع هيئاته الثلاث لرقابة من قبل السلطة المركزية، يحدد شروطها وأساليبها وصلاحياتها دستور البلاد.
إنّ الهدف الأساس من تطبيقات الحكم الذاتي الداخلي في دول الاتحاد السوفييتي وايطاليا واسبانيا هو “حماية جماعة بشرية – عرقية أوقومية- تعيش على بقعة أرض معيّنة في البلاد…” لذا يجب القول بأنّ مفهوم الحكم الذاتي مرتبط أصلاً بالحق الطبيعي للجماعات البشرية المهددة وصون لوجودها، كما هو مرتبط بالأرض التي تعيش عليها. وعليه فمن الضروري توحيد المناطق الكردية الثلاث ادارياً في سوريا على شكل اقليم واحد، مثلما يناضل الفلسطينيون من أجل بناء “دولة مستقلة” على أراضي منطقتي “الضفّة الغربية وغزّة”، حيث الغاية من الحكم الذاتي في حال الكرد السوريين ومن الدولة المستقلّة في حال الفسطينيين هي حماية هاتين الجماعتين القوميتين وضمان حياتهما القوميةعلى بقعة الأرض التي تطالبان بها.
المادة 84 من دستور الاتحاد السوفييتي لعام 1977 كانت تنصّ على أنه لا يمكن اجراء أي تعديل في حدود الجمهورية ذات الحكم الذاتي إلا بموافقتها، والمادة (2) من الدستور الاسباني لعام 1978 تنصّ على اعتراف الدستور بحق القوميات ومناطقها في الاستقلال الذاتي… ولذا فأي تصرّف عشوائي فوقي من قبل السلطات المركزية لصالح الغاء أو تقزيم أو تفتيت أو استيطان المناطق (الاقليم) الذي تعتبره القومية المطالبة بالحكم الذاتي أراضي شعبها تاريخياً وجغرافياً، يتعارض مع مفهوم حماية الجماعة البشرية – العرقية أو القومية- وخصوصياتها واستقلالها الذاتي تماماً.
أمّا الاستقلال الذاتي لاقليم الحكم الذاتي فيعني ببساطة تمتّع هيئاته بالحرية الكاملة في ممارسة صلاحياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية في ظل تشريع لامركزي،اداري وسياسي، في نظام الدولة المركزية، والانتخاب هو الشرط الأساس لتولّي أفراد اقليم الحكم الذاتي وظائفهم في الهيئات العليا التي تدير شؤونهم، أي لا يجوز أن تفرض السلطة المركزية من تريد في الاقليم ذي الحكم الذاتي، كما فعل نظام حسين وتصرّف باستمرار حيال منطقة الحكم الذاتي لكردستان العراق منذ البداية حتى انتفاضة عام 1991 التي أنهت وجود ادارته في الاقليم تماماً…
الاستقلال الذاتي للاقليم يعني أن يكون الانتخاب أساساً في نظام الحكم الذاتي، لا التعيين من علٍ، وأن تكون للاقليم هيئاته التي تمارس اختصاصاتها بحرية وأن يكون للاقليم استقلاله المالي الناجم عن استغلال ثروات الاقليم ووضع سياسة ضريبية خاصة به والمعونات التي يتلقاها الاقليم من المركز ومن الهيئات الدولية المهتمة بصون الأقليات ثقافياً… فسكان الاقليم هم مواطنون للدولة المركزية ووظيفة دعمهم في التمتّع بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والصحة والثقافة الخاصة تقع على عاتقها أيضاً كما هي الوظيفة الأساسية المباشرة لهيئات الحكم الذاتي.
ولا حاجة للتفصيل هنا في صلاحيات هيئات الحكم الذاتي لأن ذلك يقتضي نقاشات واسعة ودراسات تفصيلية، إلاّ أن المهم هو انتخاب هذه الهيئات في حرية وديموقراطية فالأصل في ذلك هو منح الفرصة للشعب المهدد وجوده القومي للتمتّع بحقه في الحرية عملياً وليس على الورق، وفي حلوق المثقفين أو في بيانات الأحزاب وبرامجهم.
أما الرقابة المركزية على الاقليم، وهي ضرورية لضمان سير عمل هيئات الحكم الذاتي بشكل سليم، فالغرض منها تقوية وحماية التكامل السياسي الوطني في الدولة المشتركة، وضمان تنفيذ مفهوم الحكم الذاتي جيداً، صون حق المواطن في الحياة الديموقراطية ونيل حقوقه الاقتصادية والثقافية والسياسية وتمتّعه بالأمن الصحي والغذائي، وتطوير المشاريع والمؤسسات لتساهم إيجابياً في تطوير العلاقة بين مواطني الاقليم وتعزز الارتباط الطوعي بين سائر انحاء الدولة، ولكن هذا لايعني التدخّل السافر في الشؤون الخاصة اليومية للاقليم بهدف تطويع كل شيء حسب نزعات وطموحات أعداء مفهوم الحكم الذاتي .
هذا الاشراف المركزي يتمثلّ في الرقابة القضائية والمالية والصحية والبيئية والعمرانية ويجب أن تتم الرقابة المركزية وفق مواد الدستور الذي عليه التأكيد في الوقت ذاته على الاستقلال الذاتي للاقليم ذي الحكم الذاتي، وتحديد العلاقات بين هيئات الاقليم والنظام المركزي بصورةإيجابية وفعّالة لاعلى أساس (الأقوى فيه يسيطر على الأضعف)، حيث الهدف من هذه اللامركزية الادارية – السياسية تحقيق العدالة في الوطن المشترك وحماية القومية الساعية إلى حكم ذاتها حسب المعاهدات الدولية في حدود الدولة الموّحدة التي لاتريد الانفكاك عنها…
آمل أن أكون قد تطرّقت بهذه المقالات الثلاث المتتالية إلى الاسس التي بني عليه مفهوم الحكم الذاتي، وأن تعتبر مساهمة متواضعة مني في وضع مقدمة “تمهيد” لمشروع الحكم الذاتي الكردي في غرب كوردستان (شمال سوريا)، وسأكون سعيداً بقراءة تعليقات القراء وآراء المثقفين والسياسيين المهتمين، كرداً وسوريين وعرباً، بهذا الطرح الذي اتخذ صيغة قرار سياسي صادر عن مؤتمر حزبي كردي سوري أو مؤتمري حزبين لهما على الأقل.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى