القضية الكردية في سوريا ووهم الحل القومي لها
زيور العمر
باتت النقاشات حول كيفية حل القضية الكردية في سوريا تقف على مفترق طرق، بعد أن ساهمت التطورات التاريخية في أجزاء كردستان الأخرى، السياسية و الإستراتيجية، في دفع التفكير، بهموم و شجون الحل العادل للقضية الكردية، في إتجاه خيارات متعددة، لم تكن في مراحل سابقة، ممكنة، بسبب سياسات القمع و الإضطهاد على أساس الهوية القومية بحق الشعب الكردي من قبل النظام الحاكم في دمشق، و أدت إلى نتائج و آثار كارثية، على خلفية المشاريع العنصرية و الشوفينية التي طبقت في أماكن الكرد التاريخية ( كردستان سوريا )، و التي ما تزال مستمرة، رغم التغييرات التي طرأت على مفردات و خطاب المجتمع الدولي، الداعية الى الحريات و العدل و المساواة و التنمية البشرية.
و لعل أهم ما يدفع الى التفكير في مخارج أخرى للحل، هو إستناد القوى التقليدية التي تصدرت المشهد الكردي في سوريا على إمتداد عقود، إلى التصور القومي للحل، الأمر الذي حرم طاقات عظيمة في المجتمع الكردي من فرصة النهوض و الإنطلاق في آفاق الحل الحقيقي و الواقعي، البعيدة عن الحسابات الآنية، المتعلقة بمصالح فئات و شخصيات، لا تمثل إرادة الحل، و لا يمكن لها أن تقود الشعب الى الحل، أو إلى حالة متقدمة على الأقل، تنسجم مع روح العصر، و إرادة الحرية لدى الشعب الكردي في سوريا.
فقد مكن التصور القومي المحض، القوى التقليدية المأزومة، في الحركة التحررية الكردية في سوريا، من الحفاظ على هياكلها، و الإستمرار في تصدر المشهد السياسي، بمعية سياساتها، التي حشرت الشعب الكردي في حالة القوقعة و الإنعزال، و حرمت القوى الحية في المجتمع الكردي، من تبوأ المكانة اللائقة، في المعادلة الوطنية و الديمقراطية في البلاد، الأمر الذي حرم الرأي العام الوطني في البلاد، من فرصة الإطلاع، على أوجه المعاناة التي يتعرض لها الشعب الكردي في سوريا، على يد النظام القائم. بل أن محاولات فصل المسارات، و التلاعب عليها من قبل قادة الأحزاب الكردية، بذريعة البراغماتية من جهة، و خطورة بعض القوى السياسية في البلاد على الشعب الكردي من جهة أخرى، دفعت بالعديد من هؤلاءالى الإرتماء في أحضان السلطة، و الدوران في فلك سياساتها العدائية بحق الشعب الكردي.
فلما كان حل القضية الكردية في سوريا هو الميزان الذي يقاس به، أية إصلاحات أو تغيرات ديمقراطية، فقد كان من واجب الحركة الكردية أن تتصدر الحركة الديمقراطية في البلاد، و أن تملئ الفراغ الناتج عن غياب القوى الديمقراطية الإجتماعية الحية في المجتمع السوري، في إنتظار نضج الحالة الوطنية السليمة، موضوعيا ً و ذاتيا ً.
و إذا كانت التصور القومي للحل، صحيحا ً في مراحل سابقة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة، أنها صالحة في الفترة اللاحقة و المستقبلية، نظرا ً للمتغيرات التي طرأت على العمق الكردستاني، للخصوصية الكردية في سوريا. فالحركة التحررية الكردستانية في كل من جنوبي و شمالي كردستان، حسمت خياراتها، و باتت تتجذر في العمق الوطني التي تشكل جزءا ً منها، خاصة بعد التطورات التي حدثت على إثر دخول القوات الأمريكية الى العراق، و سقوط النظام السابق و تبوأ الكرد موقعا ً رئيسيا ً في العملية السياسية الداخلية في البلاد، فضلا ً عن المستجدات التي طالت القضية الكردية في تركيا، منذ بدايات العقد الحالي، و إتجاه القوى الرئيسية في شمالي كردستان الى الحل الديمقراطي، الذي تتظلل تحته، مختلف مكونات و مفردات الدولة و المجتمع، في جو من المساواة و العدل و الإنصاف، في ظل الدعوة الى شكل جديد من الحكم، يقوم على الديمقراطية اللامركزية.
فإذا كنا بحق جزء من الأمة الكردية الحية، نتفاعل مع باقي الأجزاء الأخرى، و نتأثر بها، فلا بد من إعادة النظر، في وضعيتنا و موقعنا، السياسي و الإستراتيجي، بما يسهل الحل، و يضع نهاية، للمأساة التي طالت، بما يحقق المشاركة الديمقراطية الفاعلة، لجميع مكونات المجتمع الكردي، في رسم ملامح المستقبل لقضيتهم. و يهمنا في هذا المضمار المهم و الحيوي، ان نعبر عن رأينا بالقول، ان الوقت قد حان لإعادة النظر في التصور القومي المحض ( و ليس المشروع القومي، كونه ما زال غائبا ً عن مجمل برامج الأحزاب الكردية في سوريا ) لقضيتنا، و البحث عن مخارج أخرى للحل.
و لعل الأهم في هذا الإتجاه، هو إعادة الشعب الكردي الى الحاضنة الوطنية السورية، في إطار مشروع أو حتى تصور جديد، لشكل الدولة الراعية لمواطنيها، بما يحقق لهم العدل و المساواة و الحرية و التعبير عن الذات القومية، بما لا يتعارض مع شراكة الأجزاء في الكل، بشرط الإقرار بتنوع المجتمع الوطني في سوريا، قوميا ً و دينيا ً و مذهبيا ً، و العمل على إدماج المجتمع في ثقافة التنوع و التعدد، و إعتبارها غنا ً و ثراءا ً ما بعده ثراء.
إن العمل على مشروع الدولة الديمقراطية، القائمة على التنوع و التعدد، في إطار اللامركزية الديمقراطية، يفسح المجال للمجتمع، للإنعتاق من أوهام الأفكار القومية، التي لم تجلب للبلاد، إلا الكوراث و الأزمات، حتى باتت تنخر في مفاصل المجتمع السوري، و تفصل أجزاءه عن بعضه البعض. بحيث لم يكن المستفيد منها سوى السلطة القمعية، التي تراهن في إستمرارها، على تباعد الأجزاء و تنافرها في المجتمع، بما أمن لها هذه الحالة، فرصة الإجهاز على كل المكونات و الأطياف في المجتمع دفعة واحدة.
إن الترويج لثقافة جديدة، و دعوة الأخرين للإنخراط في نقاش و حوار جديديين، على أساس حق كل طرف في الإعتراف به، و حقه في ممارسة ذاته، القومية و الدينية، في ظل نظام سياسي، يقر التعدد و التنوع، في سياق العمل المشترك على بناء أسس و دعائم الدولة الوطنية العصرية، تشكل الفرصة الوحيدة، لتجميع أجزاء المجتمع السوري، في لحمة جديدة، بعيدة عن مخلفات و مؤثرات المراحل السابقة في تاريخ سوريا السياسي و الإجتماعي و الثقافي.
إن بلوغ الدولة الوطنية الديمقراطية، القائمة على التنوع و التعدد، يجعل من البلاد، محطة رئيسية، في فهم و تفكير المواطن السوري، و ينأى به عن الإنغلاق في الوهم السياسي الترانزيتي، الذي جعل بلاده، محطة تزانزيت، في بلوغ مشاريع سرابية و عبثية، لا تمتلك أدنى فرصة من النجاح، سواءا ً تعلق الأمر بالمشروع القومي العربي الشامل أو الكردي أو غيرها، من المشاريع المهيمنة على ثقافة المجتمع في الوقت الراهن.
إن العمل من أجل تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية، تحقق لجميع مكونات الشعب السوري، الإثنية و الدينية، و خاصة الشعب الكردي، إمكانية شغل موقع حيوي و رائد، في المشروع النهضوي الحضاري و الإنساني المشترك. في هذه الدولة الوطنية الديمقراطية، يستطيع الشعب الكردي أن يحقق ذاته، و ينال حق الإعتراف به، كقومية متميزة، ذات ثقافة و لغة حية. إن الإعتراف بالشعب الكردي، كذات قومية و ثقافية خاصة و متميزة، في الدولة الوطنية الديمقراطية، يعني نهاية عقود و مراحل، من الظلم و الإضطهاد، وبداية النهوض الحقيقي لهذا الشعب، و دوره التاريخي في مستقبل هذه البلاد.
إن العمل من أجل هذا الهدف، يفسح المجال، لجميع مكونات المجتمع الكردي، فرصة المشاركة، و إبداء الرأي، و تقرير المصير، السياسي و الإجتماعي في البلاد، و بالتالي إعطاء القوى الحية في المجتمع، إمكانية الإنطلاق و النهوض، و المشاركة في الشأن العام، عبر تأسيس منظمات و لجان المجتمع الديمقراطي، التي تعنى بتفعيل و تنشيط طاقات المجتمع، و دفعه لأخذ الموقع اللائق، في مسيرة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية. كما أنها ضرورة تاريخية لإزاحة القوى التقليدية، المتهالكة و المتخشبة، عن صدارة المشهد السياسي و الإجتماعي.
لقد بات من الضروري، بالفعل، العمل على تأسيس مشروع جديد، سياسي يحقق لنا ككورد، أهدافنا في الإنعتاق و التحرر و الإعتراف و المساواة، و حضاري يؤمن لنا مشاركة حقيقية في حاضر و مستقبل سوريا، و من أجل بلوغ هذا الهدف، لا بد من تجاوز، الفكر القومي، الإنغلاقي و الإنعزالي، الخانق و المظلم، ذات الأفق المسدود، و الأنطلاق في رحاب أفق واسع و رحب، يمكن النقاش حوله، و إيجاد مخرج له، المهم هو القناعة، باننا وصلنا الى طريق مسدود.
ايلاف