مخاطر الأشهر الأخيرة من ولاية جورج بوش
باتريك سيل
أخطأ الرئيس جورج بوش الابن في كل ما قام به في منطقة الشرق الأوسط المضطربة والتي تشهد النزاعات. ولا يزال أمامه نصف سنة يمضيها في منصب الرئاسة، قد يتسبب خلالها بضرر أكبر في المنطقة وفي أميركا، إلا في حال تم ردعه، قبل أن ينسحب إلى مزرعته في كروفورد في ولاية تكساس، ويمسي بعيدا عن الأضواء وهو الابتعاد الذي يستحقه كثيرا.
ولعل كارثة عهده الرئاسي الكبرى هي فشله في إدراك السبب الذي يقف خلف مهاجمة «القاعدة» للولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ويبدو أنه لم يسأل نفسه يوما لماذا تم تدريب 19 شابا مسلما، بينهم 15 سعوديا والبعض منهم مثقف جداً، للتضحية بحياتهم من أجل معاقبة أميركا.
كان مجرد طرح السؤال بمثابة الهرطقة. ماذا فعلت اميركا لإثارة هذا الغضب القاتل؟ لقد تصرفت بطريقة جيدة ولا يمكن لومها! اما هؤلاء الإرهابيون الفاسدون فيجب مطاردتهم وإبادتهم في أنحاء العالم كله، هم وكل من يدعمهم.
هكذا تم شن حروب بوش المشؤومة في أفغانستان والعراق و «حربه العالمية على الإرهاب» التي دمرت سمعة أميركا الحسنة، وأودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص ودمرت مجتمعات برمتها وأنتجت عددا من الإرهابيين يتخطى قدرة أميركا على القضاء عليهم.
ولا يبدو أن بوش أو أحدا من المحيطين به قد اخذ في اعتباره «ارتدادات الحرب التي شنتها أميركا خلال الثمانينات لإخراج السوفيات من أفغانستان، عندما تم تجنيد عشرات الآلاف من الشبان المسلمين في أنحاء المنطقة وتسليحهم وتدريبهم للتخلي عنهم بعدها، وتركهم يواجهون مصيرهم بعد أن حزم الروس أمتعتهم ورحلوا. ويبدو أن أحدا لم يفكر برد الفعل الذي أحدثه قدوم نصف مليون جندي أميركي بين العامين 1990 و1991 إلى الخليج، لإخراج صدام حسين من الكويت. كما أن أحدا لم يفكر بالوقع الذي أحدثه العقاب الوحشي الذي فرض على العراق بسبب الانتهاكات التي قام بها نظامه، على الرأي العام العربي، بما في ذلك 13 سنة من العقوبات الانتقامية التي أجبرت العراق على الخضوع قبل أن يدمره بوش بالكامل.
كما ان بوش لم يفهم بعد الغضب العربي المرير المتأتي من دعم أميركا الديبلوماسي والمالي والعسكري الثابت لإسرائيل في الوقت الذي كانت تجتاح لبنان وتضربه مراراً وتكراراً، وتقمع الفلسطينيين بعنف وتدفع بالمستوطنات غير الشرعية إلى عمق الأراضي الفلسطينية.
لم يكن بوش يدرك جيدا منهج تفكير خاطفي الطائرات التابعين لتنظيم «القاعدة»، أو الملايين الذين يشاركونهم غضبهم، حتى لو انهم لا يوافقون على الوسائل التي يعتمدونها. فوقع بوش فريسة سهلة في يد المحيطين به، الذين استغلوا هجمات 11 أيلول لمصلحتهم الخاصة، فمارسوا الضغوط لشن هجوم على العراق.
أراد دونالد رامسفيلد، الذي شغل منصب وزير الدفاع في حينه، أن يلقّن العرب درسا لن ينسوه يوما حول قوة الولايات المتحدة العسكرية. إلى ذلك، كان يملك دافعا شخصيا، إذ أراد أن يبرهن لمنتقديه في مؤسسته الدفاعية أن أفكاره التي تهدف إلى إعادة تشكيل المؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة وإلى تقليص عددها وجعلها متنقلة وفاعلة كانت سليمة. وكان بحاجة إلى شن حرب لتأكيد وجهة نظره هذه.
أما نائب الرئيس ديك تشيني فقد وضع عينه على نفط العراق وعلى العقود التي تدر بلايين الدولارات والتي قد تفوز بها الشركات الأميركية مثل شركة «هالي بيرتون» لإعادة بناء البنية العراقية التحتية المدمرة. وربما لم يكن هذان التوّجهان كافيين لجر أميركا إلى الحرب لولا نصيحة المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل في واشنطن، الذين نادوا خلال التسعينات بـ «تغيير النظام» في بغداد. ويكمن همّهم الأساسي في تحسين بيئة إسرائيل الاستراتيجية عبر إزالة أي تهديد لها قد يأتي من «جبهة شرقية» عربية محتملة. فعندما يتم تدمير العراق، تنهار «الجبهة الشرقية». وهكذا جاءت هجمات 11 أيلول بالنسبة اليهم كهدية من السماء.
تمسّك بوش بالذريعة القائلة إن هجمات «القاعدة» لا علاقة لها بسياسة أميركا الخارجية أو بتحالفها مع إسرائيل. واعتبر المحافظون الجدد أن سبب الهجوم على أميركا يعود الى طبيعة الانظمة في البلدان التي جاء منها الإرهابيون، فضلا عن الحملة التي شنها المحافظون الجدد على الدين الاسلامي باعتباره، حسب زعمهم، مصدراً للتعصب الذي يسيطر على افكار الارهابيين.
استنتج الأميركيون والإسرائيليون من ذلك ان الشرط الضروري كي يعيشوا بأمان، يستوجب إصلاح المجتمعات العربية بالقوة اذا لزم الأمر، بدءا من العراق. وكان ذلك أساس تفكير المحافظين الجدد من أجل شن الحرب، وقد تبناه بوش بالكامل. وكان من المفترض استخدام القوة الأميركية العسكرية لتغيير العالم العربي وإعادة تنظيمه ليصبح مؤيداً لأميركا وإسرائيل. وكذلك لترويض المنطقة من خلال هيمنة إسرائيلية – أميركية مشتركة عليها.
نتجت عن هذا الوهم الجغرافي السياسي غير المنطقي تبعات قاتلة، لا تزال موجودة حتى اليوم، فقد ساعد على تغيير مقاربة أميركا الكاملة إزاء الشرق الأوسط. وبدل أن تكون الولايات المتحدة قوة عظمى معتدلة أو وسيطا صادقا للمساعدة على حلّ نزاعات المنطقة العديدة، وكان باستطاعتها أن تكون كذلك، حوّلها بوش إلى مهيمن حاقد، ففاقم النزاعات ونشر الفوضى والموت.
وبدلاً من الاعتراف بفشله في العراق لاحقا، ووضع نهاية سريعة للحرب، تابع مضيّه قدما مكبّدا الجيش الأميركي والخزانة الأميركية، والعراق طبعاً، أكلافاً باهظة. وبات العراق «دولة ضعيفة» ومفككة ومنقسمة علما أن خُمس الشعب العراقي البائس هاجر أو تهجر داخليا. أما النتيجة المباشرة لتدمير العراق فكانت تعزيز مكانة إيران كقوة إقليمية. وبدل استخدام نفوذ أميركا الكبير للتوصل إلى حلّ شامل للنزاع بين اسرائيل والفلسطينيين، فلا يكون حلّ النزاع الإسرائيلي مع الفلسطينيين كلهم فحسب بل مع سورية ولبنان أيضا، سعى بوش إلى عزل سورية ومعاقبتها. وفي العام 2005، دعم حرب إسرائيل المُدمّرة على لبنان وسار وراء قرار إسرائيل بالتعامل مع حركة «حماس» إلى «منظمة إرهابية»، وبالتالي سمح بحصار إسرائيل الواسع لقطاع غزة وقدم التبريرات له. وقد أوقع هذا الحصار مليوناً ونصف مليون من ابناء القطاع في فقر مدقع.
وبدل المساعدة على جمع حركتي «حماس» و «فتح»، كما تحاول كلّ من المملكة العربية السعودية ومصر والنروج وحتى فرنسا القيام به، زوّد بوش «فتح» بالسلاح لمواجهة «حماس». مع أنه من دون الوفاق الفلسطيني الداخلي، لا معنى لأي محادثات سلام، على غرار تلك التي يجريها رئيس وزراء اسرائيل إيهود أولمرت مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وبدلاً من استخدام النفوذ الأميركي للتوسّط بين الفصائل كافة في لبنان، كما تحاول أن تفعل كل من قطر وجامعة الدول العربية وفرنسا، دفع بوش الحكومة اللبنانية في بيروت إلى تحدي «حزب الله» وزوّدها بالمال والسلاح للقيام بذلك. لكن السلام لن يحل في لبنان إلا اذا حظيت الطائفة الشيعية الممثّلة بـ «حزب الله» بمكانها الحقيقي في النظام السياسي، وفي حال تركت إسرائيل البلد بسلام نهائيا.
يشعر بوش وحلفاؤه الإسرائيليون بهوس إزاء ما يعتبرونه تهديداً من إيران وأنشطتها النووية. ويمارس الأشخاص أنفسهم الذين دفعوا بالحرب قدما ضد العراق، الضغوط من أجل شن حرب ضد إيران. وبدلاً من استخدام نفوذهم لمصالحة إيران مع جيرانها العرب، وخاصة المملكة العربية السعودية ودول الخليج، حاول بوش حشد هذه الدول ضد إيران (لحسن الحظ أنه لم ينجح في ذلك).
ويبدو أنه لم يدرك أن دول الخليج تتخوّف كثيرا من ضربة أميركية إسرائيلية ضد إيران التي يمكن أن تكون كارثية بالنسبة اليها، بما أنها ستجد نفسها على خط المواجهة.
لقد تحوّل كلّ ما لمسه بوش إلى دمار. لكن لا يزال أمامه نصف سنة في البيت الأبيض ومن يدري ما هي الحماقات المدمّرة الإضافية التي قد يقدم على ارتكابها خلال هذه الفترة؟
* كاتب بريطاني متخصص في قضايا الشرق الاوسط
الحياة – 23/05/08