العلاقات السورية – التركية بعد حزب العدالة والتنمية
محمد جمال باروت
ستظل قضايا العلاقات التكاملية الجاري نسجها وتعزيزها الآن على قدمٍ وساقٍ ما بين سورية وتركيا، محل تساؤل جوهري عن مصيرها في حال تولى الحكم في تركيا حزب آخر غير حزب «العدالة والتنمية»، فهل سياسة التكامل هذه سياسة حزب، أم سياسة دولة، تلتزم بها، بغض النظر عن دورة التغير في الحكومات؟
ينتمي هذا السؤال إلى طبيعةٍ منهجيةٍ في النهاية، ذلك أن الاتفاقيات «التعاهدية» تنتمي في المحصلة إلى اتفاقيات الدول «الثابتة»، وليس إلى اتفاقيات الحكومات «المتغيرة». وفي ذلك، فإن السؤال الحقيقي هو سؤال: إلى أي حد ستفرض فيه هذه العلاقات التكاملية السورية-التركية نفسها على الحكومات السورية والتركية المتعاقبة كافة، مادامت اتفاقيات «تعاهدية»؟
في منظور الرؤية المتفائلة، ستستمر هذه العلاقات، بغض النظر عن تغير الحكومات في حال أنها تمكنت من واقع تشابكي موضوعي جديد على الأرض لايمكن الرجوع عنه. حتى الآن ينطلق التكامل السوري- التركي من دروس التجاري التكاملية في العالم، وفي مقدمتها الأنموذج الأوضح والأنجح: الاتحاد الأوروبي. وبدلاً من الأسئلة التكاملية الكبرى تنهض الأسئلة «التكاملية» الصغرى. وهي أسئلة التكامل بين «غازي عنتاب-حلب».
كانت هذه الأسئلة هي دوماً أسئلة الأوروبيين في حواراتهم مع «زملائهم» الأتراك. وربما كانت بالنسبة إلى الأوروبيين مصحوبةً برأي أن حققوا التكامل في مجالكم المباشر، قبل التكامل مع الاتحاد الأوروبي. وهو التكامل أولاً، بين غازي عنتاب وحلب. وكان المقصود فيها أن التكامل بين المدينتين يشكل«مصغّراً» عن التكامل الفرنسي- الألماني الذي بدأ من اتفاقية «الصلب والحديد»، والذي أفضى في النتيجة إلى قيام الاتحاد الأوروبي. وهذه المماثلة ليست اعتباطية، فالمشكلات السورية- التركية تنتمي في كثير من أوجهها على وجه القياس النسبي إلى بعض سمات المشكلات الفرنسية-الألمانية.
لقد كانت مدينتا غازي عنتاب وحلب، هما كبرى مدن ولاية حلب العثمانية السابقة دوماً فضاءً ديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً واحداً متكاملاً تعرض إلى التشرخ إبان توتر العلاقات السورية-التركية في عشرينيات القرن العشرين، وحتى الأعوام الأخيرة. في فترة الانتداب الفرنسي كان التكامل يتم بطريقة مشوهة، وهي طريقة «التهريب». وهذه الطريقة أوقفت في الثمانينيات بسبب التشديدات الأمنية والحدودية السورية-التركية المتبادلة، بمناسبة عمليات حزب العمال الثوري، وجبهته التي أحدثت في سورية «صدمة حداثة»، وموجة «تطوع» قومي في الجبهة.
ولكن الدخول في التاريخ السوسيولوجي الحقيقي، كان يشير دوماً إلى أن هناك مدناً «ريفيةً» (مناطق المحافظة بالتعبير السوري) ازدهرت بفضل خطوط التهريب. كانت مدينة اعزاز على الحدود السورية-التركية مثالاً لسوق تهريب المنتجات التركية. وكانت سيدات حلب يقصدن هذه السوق، إذ احتلت سمعة السلعة التركية في المجال التداولي السمعة التي كانت، وما زالت، تحتلها السلعة اليابانية، أو الألمانية.
التحالف الإستراتيجي بين سورية وتركيا، أو بلغة أدق «التكامل» السوري-التركي الجاري الآن يؤتي ثمراتٍ سريعةً جدا، بسبب جدية الاتفاقيات، ووجود مصلحة مشتركة حقيقية للطرفين فيها، وبسبب رفع القيود بشكل تام عن حركة الأشخاص، وبشكل كبير عن حركة السلع. وهو خلال فترة قصيرةٍ جداً يبدي مؤشرات جدية وسريعة لإنعاش المناطق الطرفية الشمالية والشرقية الأقل نمواً، حيث تتغير شبكات الطرق جذرياً، ويعود لسكة الحديد مجدها ودورها الكبير في تقليص تكلفة النقل للسلع والأشخاص. وينشأ على طول الطرق الجديدة ومفارقها منشآت تجارية واقتصادية نشيطة نقل بعضها بالفعل مركز النشاط من قلب المدينة إلى أطرافها. وباتت تنعش المدن الصغيرة والمتناهية في الصغر.
يقابل هذا التكامل بين غازي عنتاب- حلب تكامل آخر «أصعب»، لكنه من نوع تنموي خاص، وهو التكامل بين الرقة وأورفة، اللتين تبعدان عن بعضهما حوالي( 10) كم فقط. المنطقة الحرة ستحتل مساحة كبيرة تقدر بـ( 5000) هكتار، المطار سيبنى، الأوتوستراد سيشق بين الرقة وتل أبيض، ويكون الوصول إلى أورفة أسرع وأقل تكلفةً. أسعار الأراضي في هذه المناطق تضاعفت عشرات الأمثال منذ الآن. وهذا مشروع تنموي يحتمل الرهان على إنعاش المدن والقرى الأقل نمواً في هذا المجال الجغرافي- الاقتصادي الجديد التكاملي.
التكامل بين عنتاب وحلب يأخذ علاقة داخلية أعقد بسبب تطور المدينيتن تاريخياً، وهي علاقة مايدعوه الاقتصاديون بـ«التعاقد من الباطن». إن علاقة «التعاقد من الباطن» في التواريخ الاقتصادية-الاجتماعية، تعني علاقة ذات سمات تبعيةٍ معيّنةٍ تنفي المفهوم التقليدي للصناعة الوطنية المؤسسة على المفهوم الكلاسيكي للاقتصاد القومي، وتحفز قدراته التنافسية ومستوى جودته، وووصوله إلى الأسواق، لكنها تعني في الوقت نفسه تملّك التقنية وممارستها واختبارها، أو التحول من «أكل السمكة» إلى «تعلم صيدها».
الصناعيون السوريون المهرة في حلب، هم الأكثر حماسة في ضوء ملاحظاتٍ أوليةٍ لهذه العلاقة «التكاملية»، وقسم كبير منهم لا يخشى من المنافسة، بل يراهن على توسع أنماط التعاقد من الباطن. في العام 1980 كانت الفجوة التركية- السورية محدودة. لكن فيما بعد اتسعت هذه الفجوة بشكل صارخ لمصلحة تركيا التي حررت اقتصادها وقامت بدمقْرطة نظامها. وتمثلت نتيجتها في أن الصناعة السورية الماهرة باتت تطمح إلى أن تحمل منتجاتها سمعة الجودة التركية.
غازي عنتاب- حلب أنموذج لقصة هذا التكامل. ولهذه القصة تاريخ متشابك عريق تدفعه السياسات التكاملية الجارية الآن. وفي هذا السياق تزدهر طرق المواصلات، ويزداد وزن قطاع النقل في الناتج المحلي الإجمالي، ويرتفع معدل تمدين المناطق الحدودية السابقة، ويتدفق قطع نقدي على البلد بنتيجة سياحة العائلات، وما أكثرها، تصاهراً وتواشجاً بين عنتاب وحلب.
الخلاصة في تجربة التكامل الإستراتيجي السوري – التركي، أنها تبدأ من القصص «التكاملية» الصغيرة، وليس من القصص الكبرى.
كاتب من سورية