لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
برهان غليون
ربما كان أوباما من أول الرؤساء الأمريكيين الذين أعلنوا في حملتهم الانتخابية، والتزموا بعد نجاحهم بما أعلنوه، أولوية التوصل إلى حل للنزاع العربي الاسرائيلي ضمن الأجندة الخارجية الأمريكية. ولا شك أن أفكار أوباما وسلوكه وكذلك أصوله الإتنية وثقافته الشخصية المزدوجة، كل ذلك أثار التفاؤل عند العرب جميعا، مسؤولين ورأيا عاما من دون استثناء، وأمل الكثير منهم، كما فعلوا في المرات السابقة، أن تكون إدارة أوباما قادرة على لي ذراع اللوبي الاسرائيلي في الكونغرس وفرض قواعد جديدة لعملية المفاوضات تمنع إسرائيل من التهرب من التزاماتها وتفرض عليها خوض مفاوضات جدية مع الفلسطينيين. وفي سبيل إظهار مدى تمسك واشنطن بإطلاق مفاوضات جدية تقود إلى نتيجة واضحة على المدى القريب، أعلن أوباما عن ضرورة وقف الاسرائيليين للاستيطان بكامله وعن أهمية أن تناول المفاوضات، بعكس ما كان يحصل في السابق، مسائل الحل النهائي، بهدف الوصول خلال سنتين إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب الدولة الاسرائيلية. ولتعزيز موقفه تجاه العرب الذين فقدو الثقة تماما بواشنطن ورؤسائها، أحاط سياسته الجديدة بأجواء ايجابية عندما أعلن من جامعة القاهرة عن مصالحة أمريكية إسلامية، ولم يترك مناسبة إلا استغلها للتعبير عن تقديره للاسلام والمسلمين وحرصه على التعاون معهم على قاعدة الاحترام والندية.
لكن لم تمض أشهر قليلة على التعبير عن هذه النيات الحسنة من قبل أوباما حتى وصلنا إلى طريق مسدودة . فقد رفض رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو وقف الاستيطان. ولم تنجح جميع جهود الدبلوماسية الدولية في زحزحة نتنياهو عن مواقفه قيد أنملة. وبدل ذلك أتبعت الحكومة الاسرائيلية برامج بناء الوحدات السكانية ببرامج جديدة، كما لو كان الهدف هو تحدي الإرادة الدولية، وبشكل خاص وضع أوباما في مأزق وتهديم سياسته الشرق أوسطية منذ البداية. وما زاد الطين بلة أن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الامريكية، ناقضت رئيسها وصرحت أن وقف الاستيطان أو تجميده ليس شرطا لبدء المفاوضات، ولو كان محبذا من قبل الولايات المتحدة. مما شكل ضربة كبيرة لصدقية الرئيس الامريكي والإدارة الجديدة برمتها. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أيضا أن يرفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس التراجع عن شرط وقف الاستيطان إذا لم يشأ أن يبدو كدمية أو لعبة في يد الدبلوماسية الأمريكية. أما عودة نتنياهو في 25 نوفمبر 2009 إلى الحديث عن قبول إسرائيل تجميد الاستيطان لعشرة أشهر، باستثناء القدس، فهو مناورة مكشوفة لم تنطل على أحد، وبشكل خاص على الفلسطينيين. هكذا تبدد حلم البدء بمفاوضات جدية قادرة على الوصول بالأطراف إلى حل سياسي يسفر عن قيام دولة فلسطينية خلال عامين، وعدنا إلى الطريق المسدود نفسه الذي عرفناه خلال العقدين الماضيين بعد إطلاق عملية التفاوض في مدريد عام 1991.
تساءلنا في ذلك الوقت: هل يمكن أن تنتهي سياسة أوباما الشرق أوسطية بهذه السرعة وتبدو كما لو كانت فقاعة هوائية فحسب؟ وهل من الممكن أن يقبل الرئيس الأمريكي بهذه الضربة المهينة معرضا صدقية إدارته ومن ورائها صدقية الولايات المتحدة ذاتها لخطر الشرشحة والسخرية؟ أم أن لديه إمكانية وفرص للرد على نتنياهو وإستعادة المبادرة؟ وما هي هذه الإمكانيات؟ وما هي مقدرة إسرائيل على مقاومة الإدارة الأمريكية والوقوف ضد ما تعتبره هذه الإدارة مصالح حيوية واستراتيجية أمريكية؟
لا شك أن لإسرائيل أنصار أقوياء في الولايات المتحدة، في الكونغرس وفي مواقع قرار أخرى. ومن دون ذلك ما كان رئيس الوزراء الاسرائيلي ليتجرأ على تحدي أوباما بالطريقة التي تحداه فيها، ضاربا عرض الحائط بهيبة الرئيس الأمريكي وإدارته بأكملها. ومن الواضح اليوم أن أوباما لم يمتلك الإرادة والتصميم اللازمين لمواجهة حاسمة، لا يزال الأمريكيون يتجنبونها منذ سنوات طويلة. والحسم يعني تقرير في ما إذا كانت الأولوية في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية ستعطى للمصالح الاسرائيلية، وهي مصالح توسعية بامتياز وليست أمنية كما تدعي الحكومة الاسرائيلية، أم للمصالح القومية الأمريكية التي تمر، كما عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي نفسه، بالمصالحة مع العالم العربي والاسلامي، ووضع حد للتوسعية الاستيطانية الاسرائيلية. ولم يبق من مخرج من المأزق الذي وضعته فيه تصريحاته المتفائلة وتحدي نتنياهو له سوى في طلب الدعم من جديد من العرب لإقناع الفلسطينيين بالقبول بمفاوضات من دون انتظار وقف الاستيطان. وبذلك نكون قد عدنا إلى نقطة الصفر، كأننا يا هند لا رحنا ولا جينا.
مهما كانت نوايا الرئيس باراك أوباما والتزامه بالمباديء القانونية والإنسانية، سيكون من المستحيل تحقيق نتائج أفضل في دورة المفاوضات الجديدة المقترحة بين العرب والاسرائيليين إذا واصلنا نحن العرب تسليمنا، كما هو الحال منذ عقود، بأن التوصل إلى تسوية سياسية هي مهمة الدول الكبرى والامريكيين بشكل خاص، واستثنينا أنفسنا من المشاركة وهربنا من مسؤوليتنا. فباراك أوباما وأنصاره المنادين بأولوية المصالح القومية الامريكية وبالتالي بالضغط على إسرائيل للقبول بتسوية قابلة للحياة، لن يستطيع إضعاف خصومه والانتصار عليهم داخل المؤسسة الأمريكية، إذا بقي العالم العربي كالجثة الهامدة، غير قادر على التدخل بأي شكل كان في معركة هي بالأساس معركته قبل أن تكون معركة أوباما. ولا ينبغي المراهنة على فكرة أن الامريكيين مضطرين لعمل شيء حتى يحتفظوا بصداقة الدول العربية المعتدلة أو تأييدها. فهم واثقون أيضا، وبإمكانهم وإسرائيل إبراز ذلك بوضوح، أنه لا خيار آخرا لهؤلاء، أو أنه ليس من واجب رئيس الولايات المتحدة الامريكية أن يكون عربيا أكثر من العرب أنفسهم. ومساعدة الرئيس الأمريكي لا تكون بالتسليم له وللأمريكيين بحسم النزاع، ولا من باب أولى بإظهار الاستعداد لتنازلات إضافية في فلسطين والقدس وغيرها، وإنما بالعكس في إبراز موقف عربي قوي ومستقل، يقنع الطرف الأمريكي المماليء لاسرائيل بأن الاستمرار على سياسة إطلاق يد إسرائيل في المشرق يعني التضحية الفعلية بمصالح أمريكا القومية. وهذا يحتاج من الحكومات العربية إلى الاجتماع والتفكير الجدي والرصين لاستكمال مبادرة السلام العربية بمبادرة “مواجهة محتملة” تكون بديلا جاهزا لها إذا فشلت أو لم يقبل مضمونها. ولا تعني المواجهة هنا بالتأكيد إعلان النزاع العسكري وإنما بلورة رزمة من الإجراءات القسرية والانتقامية التي تعطي للسياسة العربية أو تعيد لها بعض الصدقية. هذا هو المطلوب إذا لم نشأ أن نعيد تجربة جولة المفاوضات السابقة التي ركن فيها العرب إلى تدخل الدول الكبرى، ووضعوا ثقتهم فيها واعتقدوا بالفعل أن من مصلحة هذه الدول، حفاظا على مصالحها الحيوية في البلاد العربية، ايجاد مخرج للقضية الفلسطينية. وفي الحديث لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.