صفحات العالمقضية فلسطينميشيل كيلو

هل القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية؟

ميشيل كيلو
باستثناء قلة قليلة جدا، لا يوجد أحد في الوطن العربي إلا ويعتقد أو يقول إن قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية. لقد قيل هذا منذ عقود كثيرة، وقاله كل من تناول قلما ليكتب به، أو وصل إلى كرسي الحكم، فقد قال الأول إن قضية فلسطين هي أو يجب أن تكون قضية العرب المركزية، ووعد الثاني قبل الحكم بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وتنكر بعده لوعوده، وإن ظل يقول بمركزية قضية فلسطين، التي لم تعد تعني شيئا ملموسا، رغم أن لها معنى هائل الخطورة والدلالة، قلما فكر فيه القائلون بمركزيتها، أو كتبوا عنه وبحثوا فيه.
ماذا يعني أن تكون قضية ما مركزية؟ إنه يعني ببساطة رؤية كل شيء بدلالة هذه القضية، ووضعه في خدمتها، وطيه تحت جناحها، وجعلها أولية لا تعلو عليها أو تدانيها أية أولية أخرى، بما في ذلك السلطة والكرسي ومغانمهما. بترجمة هذا الكلام إلى واقع، تعني مركزية قضية ما ربط وجود السلطة والدولة بها، والتضحية بكل غال ورخيص في سبيلها، والإقدام على بذل كل ما تتطلبه من جهود، وعلى تخصيص كل ما يلزم لها من موارد بشرية ومادية وروحية، فلا تكون عندئذ مجرد قضية بين قضايا، أو قضية تابعة لأية قضية أخرى، أو قضية للتجارة والمزايدة وبيع الكلام والأوهام، فهي قضية تتطلب أعلى أشكال الوحدة داخل الدولة التي تؤمن بمركزيتها، وتلزم بتكريس كل الطاقات لها، لأن على حلها يتوقف مصير البلاد والعباد، ويرتبط المستقبل الشخصي للمواطنين، فلا سبيل إلى اللعب فيها أو الاستهانة بتأثيرها على كل شيء، من علاقات السلطة مع شعبها، إلى علاقاتها مع جوارها، إلى علاقاتها الدولية، ومواقفها في المحافل العالمية.
هذا، باختصار شديد، معنى أن كون قضية ما مركزية بالنسبة إلى بلد أو أمة. فهل كانت قضية فلسطين حقا قضية مركزية بالنسبة إلى السياسات العربية خلال سنوات ما بعد نكبتها، أم أن هذه السياسات فعلت المستحيل كي لا تصير القضية الفلسطينية مركزية. أما السبب فيرجع إلى حقيقة جوهرية هي أن الشعب العربي يراها بهذه الطريقة أو بكيفية قريبة منها، وأن مركزيتها بالنسبة له هي عنصر يثوره ويدفعه إلى موقف نقدي من أوضاعه وسياسات حكوماته، فلا سبيل إلى منع هذا النمط من التفاعل بينه وبين القضية الفلسطينية غير الأخذ بأحد أمرين أو بهما كليهما: منع الشعب من التفاعل مع القضية بالترهيب والقمع، أو تضليله وتضييعه والمزايدة عليه، بحيث يستكين إلى وجود من يقوم بواجبه حيالها ويتخذ موقف المتفرج منها، كما يحدث في أيامنا، ومنذ وقت غير قصير.
ليس هناك بلد عربي واحد تعامل مع القضية الفلسطينية كقضية مركزية، أو كقضية مقدسة، كما يزعم لسان عربي سائد يستهتر بالحقيقة ويستهين بعقول وذاكرة ووعي المواطن العربي حين يكرر في كل مناسبة، ومهما كانت تافهة: قضية فلسطين هي قضية العرب المقدسة أو المركزية أو الاثنين معا. لو سألنا الآن عن تفاصيل هذا الادعاء، وتابعنا الوقائع في ملموسيتها، لوجدنا أنه ليس هناك من أخضع مصالحه لأولية القضية الفلسطينية أو من رآها بدلالتها. وليس هناك من اعتبرها قضية تعلو وتتقدم على أية قضية سواها، تتفرع عنها ومنها – بين ما تتفرع عنه ومنه – جملة مسائل وقضايا السياسة والمجتمع في بلاده ودولته، فلا ترجح عليها أو تطبعها بطابعها، بل تتعين هي بها وتحمل صبغتها. وليس هناك من رسم سياساته الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والثقافية والأمنية على ضوئها، ومن أعد بلاده من سائر الجوانب والنواحي لتلبية متطلباتها، وأن سياسات العرب أبقتها هامشية، وجعلتها قضية برانية بالنسبة إلى الإنسان العربي ومجتمعاته ودوله، كما بالنسبة إليها هي نفسها، بل وجعلت التعاطف والتفاعل معها جريمة يعاقب عليها القانون، بينما أشاع القائلون بمركزية القضية وقدسيتها أجواء جعلت شعب فلسطين مسؤولا عن ما أصابه من تشريد وقتل وتشتيت، فهو باع أرضه وجاء يبيع أرض الدول العربية، التي تستضيفه، وهو لم يقاوم العدو بل سلمه الأرض والدار، وهو خطر على أمن وسلامة العرب، يجب إبقاؤه تحت العين ومنعه من التحرك بحرية، لأن مقاومته تخز العدو بدبوس لا يؤثر فيه، وتدفعه إلى الرد علينا نحن العرب بصاروخ مهلك يدمرنا. والغريب أن هذه اللهجة التخوينية تسود البلدان الأكثر كلاما حول مركزية القضية وقدسيتها، والتي تريد الاستئثار بها لتستخدمها ورقة في صراعاتها مع غيرها من العرب، وليس لاستعمالها ضد العدو الصهيوني، الذي يسلم جميع طالبي التسوية السلمية معه بأن أرض فلسطين صارت له، ويعلن استعداده العلني للاعتراف بهذا قانونيا وواقعيا، وبضمانة أمريكية ودولية، فهل يستقيم القول بقدسية القضية ومركزيتها مع الاستعداد للاعتراف بضياع وطنها، وماذا يبقى منها أصلا بعد اعتراف كهذا؟.
ليست قضية فلسطين مركزية أو مقدسة بالنسبة إلى أية حكومة أو مجتمع عربي. عندما ستصير كذلك، سيفكر الصهاينة بالأمر وسيحزم عدد كبير منهم حقائبه ويبدأ بالرحيل عنها، من حيث جاء، لأنه سيعلم، أو سيشعر، أن وطن غيره ليس له، وأن مركزيته وقدسيته بالنسبة لأي بلد عربي ستكفي لقلب موازين القوى لصالح فلسطين وشعبها، إن لم يكن اليوم فغدا.
تنوعت وتعددت الحلول، التي اقترحت خلال القرن الماضي كعلاج لمشكلة فلسطين. وقد فشلت جميعها لأن العالم والعدو يعرفان عدم جدية العرب في الموضوع، ويعيان أنهم لا يعاملون القضية الفلسطينية كقضية يرون كل شيء داخل بلدانهم وخارجها بدلالتها. من هنا، يكثر اللعب والتلاعب بفلسطين، رغم ما قدمه شعبها من تضحيات عزيزة في سبيل عروبتها. وسيستمر اللعب والتلاعب بها، وسيبقى الفشل مصير أي حل يقترح لمشكلاتها، ما دامت قضية ثانوية في دنيا العرب السياسية والمجتمعية. عندما ستصير مركزية بالفعل لا القول، سيسارع الأمريكيون والصهاينة إلى عرض حلول منصفة، إنقاذا لما يمكن إنقاذه من الكيان الغاصب. إلى أن يحدث ذلك، ستبقى فلسطين قضية ثانوية ومنسية ومهملة، يغطي الكذبة الذين يفرطون فيها مواقفهم بحديثهم الممجوج عن مركزيتها وقدسيتها، بينما يقضمها العدو مترا بعد متر وشبرا بعد شبر!. لو كانت فلسطين قضية العرب المركزية لما قامت إسرائيل أصلا، ولما سادت ومادت واحتلت وتوسعت وأذلت الأمة طيلة نيف وقرن!.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى