صفحات العالمقضية فلسطينميشيل كيلو

حصار ثلاثي

ميشيل كيلو
يتعرض قطاع غزة لحصار ثلاثي، تفرضه “إسرائيل” على القطاع بكامله، وحماس على أهاليه، ومصر على حماس والشعب . أما مسوغات الحصار، فهي تتفاوت بتفاوت مواقف أطرافه الثلاثة، ف”إسرائيل” تريد إبقاء حماس تحت مستوى من القوة يمنعها من المخاطرة بتسديد ضربات حقيقية إليها وشن مقاومة فعالة ضدها، من دون أن يتسبب هذا في إضعافها تجاه القوى الفلسطينية الأخرى، وخاصة منها منظمة التحرير، أو في فقدان سيطرتها على القطاع، وضياع الإفادة التي تجنيها من انقسام الصف الوطني والإسلامي، وانقلابات حماس على المنظمات الأخرى، وخاصة منها منظمة التحرير ومؤسساتها . بدورها، تفرض حماس حصاراً داخلياً محكماً ومتعاظماً على شعب غزة، يعود عليها بمغانم ومنافع مادية وسياسية، ويبقي أهلها تحت وطأة الحاجة، ويحول بينهم وبين التفكير بهز أو تحدي سيطرتها عليهم، كما يمنع عودة القطاع إلى السلطة الوطنية بالسياسة، بعد أن طردتها حماس منه بالقوة المسلحة . أخيراً، فإن الجانب المصرى يرى في حماس مشروع خطر داخلي، ولا ينسى أنها جزء مسلح من حركة الإخوان المسلمين، الموجودة بقوة داخل أرض الكنانة، وأن انتهاجها سياسات وطنية صائبة من شأنه أن يقدم نموذجاً تقتدي به قوى مصرية وازنة، وربما المجتمع المصري ذاته، فلا بد من خنقها، وهي التي يزيد من خطورتها كونها تضع يدها في يد قوى إقليمية مناوئة لمصر، تسلحها وتدربها وتمدها بالمال، وتمتلك نصيباً وافراً من قرارها، فإن هي اختنقت بالحائط الفولاذي تحت الأرضي، الذي يبنيه النظام المصري، كانت عبرة بدل أن تكون قدوة لغيرها، وتم إنزال هزيمة بحلفاء حماس الإقليميين، من عرب وفرس، تسحب منها ما تملكه من ورقة فلسطين، بعد أن سحب منها جزء من ورقة لبنان، بينما يشتد الصراع على ورقة العراق .
لا حاجة إلى الحديث عن شعب غزة: ضحية هذا الحصار الثلاثي، والذي لا يجد من يدافع عنه بصورة جدية وصادقة، غير أوروبيين يجهلون أحوال المنطقة، ويعتقدون بنية طيبة أن فك الحصار عن القطاع يعني فك الحصار “الإسرائيلي” وحده، وأنه سيؤدي بالضرورة إلى إخراج غزة من وضعها العصيب .
يتعرض شعب غزة، حسب ما يقوله الشهود وترويه الوقائع، لحالة رهيبة من التجويع والقتل البطيء والتخويف والنهب والتجهيل وامتهان الكرامات وانتهاك الحريات، ويخضع بقوة السلاح لأمزجة وأهواء وحسابات الممسكين بمصيره، الذين شرعوا في العام الأخير يرون في معركتهم ضد فتح ومنظمة التحرير ميدان نضالهم الرئيسي، وكانوا قد هددوا “إسرائيل” بأشد مقاومة تخطر ببال، إن هي هاجمت القطاع، وعندما هاجمته، وجدت مقاومة جد ضعيفة، فلم يلعب أطفال غزة بأشلاء جنود العدو ودباباته، كما وعد خالد مشعل العرب والمسلمين، بل سرح الصهاينة ومرحوا في غزة على هواهم، ولم يغير من هذه الحقيقة أن مشعل أعلن بعد انسحاب الغزاة أن انتصار حماس فتح طريق تحرير فلسطين، بينما التزمت حماس التزاماً تاماً بالهدوء، وأقلعت عن أي فعل من أفعال المقاومة، بل واعتقلت وسجنت من أطلق ولو صاروخاً واحداً على أراضي فلسطين المحتلة منذ عام ،1948 وقالت بلسان الناطق باسمها: إن من يدعونها إلى المقاومة لا يريدون غير تحريض “إسرائيل” على تسديد ضربة قاضية لها . في هذه المعمعة، كانت حسابات حماس واضحة: لا يجوز أن تؤثر مقاومة العدو على موازين القوى الفلسطينية الداخلية، أو أن تضعف حماس بحيث تتمكن منظمة التحرير والسلطة الوطنية من العودة إلى القطاع، والباقي كله تفاصيل غير مهمة، وكلام بكلام .
إلى هذا، يعامل الصهاينة أهل القطاع بالحقد الذي عبر عنه رابين ذات يوم، حين قال: “كم أتمنى أن استيقظ صباح الغد، فأرى غزة وقد ابتلعها البحر” . يغرق “الإسرائيليون” غزة في موتين: بطيء وعاجل، ويحكمون حولها حصاراً خانقاً جعلها- أو أبقاها – أرضاً محتلة، تحت رحمة عدو مجرم لا يفرق بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، أتقن فنون المحرقة وطبقها يومياً على أرض تتسع بالكاد لساكنيها، مواردها محدودة، وفرص العمل فيها نادرة، يعيش فوقها عدد هائل من البشر يجعلها أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، في حين تشح داخلها المياه وتنقطع الكهرباء وتتكدس القمامة وتطفو الفضلات البشرية في المجاري المكشوفة، التي تنشر رائحة قاتلة في معظم أحيائها، الفقيرة بطبيعة الحال، الفقيرة إلى أية مرافق صحية ذات شأن .
هنا، كما في كل حصار، يخضع الشعب لحسابات سياسية لا تهتم بالاعتبارات الإنسانية أو الوطنية / القومية . ينطبق هذا الحكم خاصة من الجنوب، الذي يريد خنق القطاع إلى أن تضع حماس أوراقها في يد القاهرة وتسحبها من يد غيرها . يذكر هذا كثيراً بالمنطق الأمريكي خلال الحصار على العراق، بين عامي 1991 و،2003 عندما قالت وزيرة خارجية واشنطن مادلين أولبرايت، إن حصار العراقيين سيستمر إلى أن يسقطوا نظام صدام حسين . إنه إذن حصار مفتوح وانتقامي . وهو يطرح السؤال التالي: ماذا إذا لم يسقط الشعب حماس، وإذا لم تسلم هذه أوراقها لمصر؟ إن لحصار مصر نكهة خطيرة جدا تختلف عن نكهة الحصار “الإسرائيلي” والحماسي للقطاع، فالصهاينة يحاصرون عدواً يستطيع إيذاءهم، وحماس تحاصر شعبا قد يتمرد عليها . أما الجانب المصري، فإن معركته موجهة ضد شعب القطاع، وليس له الحق في أن يخاف حماس ويتحسب لها كما يخافها ويتحسب لها الصهاينة وقسم وازن من شعب القطاع . ومع ذلك، يعتبر حصارها للقطاع الحصار الأشد إيلاما وإيذاء، ليس فقط لأنه خارج عن أي قانون أو عرف دولي أو شرعي، بل كذلك لأنه يتم بذرائع أمنية تضع الدولة المصرية في مواجهة مع قوم صديق لها، لا يسعى إلى مواجهتها ولا يقدر عليها، على فرض أنه جن وطلب المواجهة .
تشكل حالة غزة نموذجاً صرفاً، لا تخالطه أية شوائب، للحالة المأساوية التي يعيشها العرب: إنها تعيش مثلهم، ولكن في صورة مضاعفة مرات كثيرة . إنها أولا حالة فصام بين القيادة- حماس – والشعب، تعالج بالقمع والقهر وكم الأفواه والقتل . وهي ثانياً حالة خصام مبطن ومعلن مع الدول العربية المجاورة لها والقريبة منها، التي ترى في انتماء حماس إلى محاور إقليمية وضعا يستوجب العداء . وأخيراً، فإنها تعيش، أكثر من أي مكان عربي آخر، تحت رحمة عدو صهيوني لا يرحم، يتحكم بكل حبة قمح طحين ونقطة حليب تدخل إليها .
هذه الحقائق الثلاث تجعل فك الحصار عن غزة انتصاراً حقيقياً، خاصة إن واكبته مصالحة وطنية تعيد إلى الأطراف الفلسطينية المتنازعة رشدها، وتجعلها مسؤولة قولا وفعلا عن قضيتها الموشكة على الضياع .
هل هذا الانتصار ممكن في الظرف العربي الراهن؟ وماذا سيكون رد فعل “إسرائيل” على مصالحة وطنية تقيد قدرتها على التلاعب بالقضية الفلسطينية، وتمنعها من كسب الوقت الضروري لتوسيع الاستيطان وفرضه كأمر واقع؟ أعتقد أنه انتصار مستبعد، لأن الجو العربي ليس مهيأ له، وأن “إسرائيل” لن تمرره من دون رد شديد، مستفيدة من الجوين الفلسطيني والعربي .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى