هل يريد العالم المتحضر بالفعل مكافحة الإرهاب؟
إبراهيم غرايبة *
توشك الحرب على الإرهاب تعود من جديد، وطبولها تدق في أمكنة كثيرة، وعادت من جديد تكتشف عمليات ومخططات لعمليات إرهابية، وتقع أخرى بالفعل، وشغل الإعلام (والحرب أولها الكلام) على نحو شامل وكاسح بالإرهاب، وصارت عمان مرة أخرى مقصداً للصحافيين والفضائيات من كل أنحاء العالم بحثاً عن اخبار الجماعات الإسلامية المتطرفة، ثمة شيء محير في تغطية الجماعات الإسلامية من عمان، العملية تبدو مثل طقوس ومشروعات وبرامج سياحية ومقاولات مرتبة لزيارة بيوت اهل المتطرفين وذويهم ومقابلة صحافيين و «خبراء في الجماعات الإسلامية» وربما مقابلة قادة في السلفية الجهادية، الحالة تبدو مثل عملية اقتصادية مزدهرة، تحرك الفنادق ووسائل المواصلات والنشاط الصحافي والإعلامي، يتطوع شباب لتأييد الإرهاب، وآخرون يتحدثون عن إزالة إسرائيل، ومراسلو صحف وفضائيات من أنحاء العالم بما في ذلك المكسيك وجنوب أفريقيا يكتبون ويصورون بحماس شديد، معتقدين أو يظهرون الاعتقاد بأنهم يخوضون مغامرات صحافية في قواعد المجاهدين والمتطرفين، وتعجز عن التمييز إن كان ما يجرى هو مجرد فيلم هوليوودي مثل «خياط بنما» أو هو حرب فعلية على الإرهاب.
واليوم وأنا أكتب هذه السطور وأطالع في المواقع العالمية للأخبار عن مئات آلاف القتلى في زلزال هايتي وتشريد وإصابة الملايين، لا أكاد ألاحظ أثرا يذكر للحدث في الإعلام العربي. وربما كانت مجرد مصادفة أن قناة الجزيرة العربية تستضيف خبراء في الجماعات الإسلامية في الوقت الذي كانت الجزيرة الإنكليزية تبث بثاً حياً ومباشراً وتجري مقابلات من هايتي، .. كأن الموت والدمار يكون مختلفاً بين الزلازل والفقر والمرض والعنف السياسي.
مشهـــد يغـري بالتحليل اكثر من الإرهاب نفسه، هل تعكس الصورة التلفزيونية مشهداً واقعياً؟ هل تنقل الصـــور التلفزيونية التي نشاهدها واقعاً أو حدثـــاً أو مشهداً حقيقياً، أم أنها تصطنع المشاهد؟ لماذا تتعدد الوقائع والمشاهد بتعـــدد التلفزيونات؟ التلفزيون ليس مرآة، ولكنه كائن تطور لينفصل عن قصته الأولى «المـــرآة» ليصبـــح كائناً حقيقيــاً، يشاهدنا، يمشهدنا، يشكلنا، مثل «روبوت» بدأ آلة ثم صار يقتبس ويتعلم من الذكاء والمهارات والعلاقات والعواطف ما يجعله كائناً مستقلاً بذاته، قصة التلفزيون تشبه قصة الرموز الدينية التي صيغت لاستيعاب معنى «الألوهية» والتواصل مع «الإله» ثم غيرت/ شوهت/ حجبت المعنى الأصلي والحقيقة العميقة المفترض أن تعبر عنها، ثم حجبت غياب الحقيقة العميقة، لم يعد أحد يعرف أن ثمة حقيقة عميقة مغيبة، ثم أصبحت الرموز نفسها آلهة مستقلة عن الحقيقة التي أنشأتها، أصبحت هي الإله، هكذا هي قصة بعل وفينوس وهداد وإيل وأشمون ويارا وسين وزيوس…
المشهد الذي يعد لأجل الكاميرا، التحول الفوري في السلوك والنظرة والانفعال بمجرد اتجاه الكاميرا نحو المشهد، هذه «البعد واقعية» ماذا فعلت بنا؟ ماذا فعلت بالعالم؟ هذا الواقع الافتراضي الذي تسعى وراءه الأنشطة المختلفة، حتى المظاهرات فيمكن أن تكون افتراضية، ويجري موقع الإسلام أون لاين مظاهرات وتجمعات وحروباً على الموقع «سكند لايف» يمكن أن نتبرع وننتقم وندمر، نهتف ونبكي وننتصر، تلفزيون الواقع، هل هو واقع التلفزيون أم واقع الأرض المفترض أن يبثه التلفزيون؟.
يقول جون بودريار: «إنه ليس الواقع المنظور، وليس الواقع الذي تعكسه مرآة، فعدسة التلفزيون ليست نظراً مطلقاً في الكون والحياة والأحداث، ولكن ثمة تعارضاً/ تلاعباً بين النظر والمنظور، أنتم لا تشاهدون التلفزيون، هو الذي يشاهدكم». فليس التلفزيون وسيطاً بيننا وبين المشهد الغائب عنا ونريد رؤيته، أو بعبارة أقرب إلى الصواب ليس وسيطاً بالمعنى الحرفي، «هذا التدخل للوسيط، وحضوره الوبائي والمزمن والمرعب هو ذوبان للحياة في التلفزيون، وذوبان للتلفزيون في الحياة، نحن جميعاً مثل عائلة لود (العائلة التي كانت تبث حياتها اليومية على نحو دائم في التلفزيون)، محكوم علينا بفيض وسائل الإعلام ونماذجها وضغطه وابتزازها، بل وبتشكلنا بها، وتغلغلها فينا، وبعنفها غير المقروء».
هذا التدفق الهائل للمعلومات، الصور والأخبار والأصوات يضيع المعنى، كأننا كسبنا المعلومات وخسرنا المعنى، كأن الإعلام يدمر المعنى أو يزيله، كأن الأحداث والوقائع نفسها مجرد سديم من الرموز والأرقام، أو كأن التلفزيون في تشفيره للمشاهد وتحويلها إلى رموز وأرقام (صفر وواحد) ثم إعادة تشكيلها تفعل على طريقة (أي.دي.إن) فتتغلغل في الناس وتشكلهم، هل الرسالة التي صدرت عن وسائل الإعلام هي الرسالة التي استقبلها المتلقي، أم أنها رموز وشيفرات تعمل على نحو أقرب إلى الفوضى والصدفة، الفوضى والصدفة بمعنى عدم اكتشاف القواعد المنظمة لها، لأن ما لا نعرفه نسميه فوضى.
كأن التلفزيون أداة ضبط وتوجيه وتلق وقمع هائلة وفعالة، أو هي اكتساب «اللاوعي» الذي يقود باتجاه ومتطلبات من الضبط والتشكيل الواعي والمقصود.
الوعي يبدأ بأن يشكل المرء ذاته ومواقفـــه بنفــسه، ينظر إلى ما حوله بعينـــه وليس بواسطة «الميديا»، يكتشف قدرتـــه على التعلم والإصغاء، فالإصغاء فقط هـــو مـــصدر التحليـــل والفهم، ولذلك فــإن إريك فروم أحد أهم علماء النفس يسمــي علم التحليل النفسي «فن الإصغاء».
وبالطبع فإن الإرهاب يمثل تحدياً رئيسياً للعالم وهاجساً لا يجوز إغفاله، ولكن الهاجس الأكثر أهمية، هل أدت عمليات مكافحة الإرهاب الجارية إلى القضاء عليه او محاصرته او التقليل منه أم أنها زادته حدة وخطورة، أو ليكن السؤال كيف يمكن محاربة الإرهاب.
محاولة تفجير طائرة ديترويت تذكر بعمليات (أو مخططات عمليات) كثيرة جداً يعلن عنها في أنحاء كثيرة من العالم تشجع على القول بأن الإرهاب أصبح متاحاً وسهلاً، ويمكن باستخدام المواد المتاحة في السوق والبيئة المحيطة تنفيذ عمليات تخريبية وتدميرية تودي بحياة الناس ومصالحهم، وهي أنواع من الإرهاب لم تعد الجيوش والحكومات والأجهزة الأمنية والاستخبارية قادرة على مواجهتها بالوسائل السابقة والمتبعة من قبل.
وكمــا أن الإرهاب لم يعد يحتاج إلى دول وإمكانـات فنية نادرة وتمويل كبير، ولكن ما يحتاج إليه فقط هو الكراهية والشعور بالإهانة والإحباط، فلا يمكن مواجهته أو القضاء عليه في الحالة هذه إلا بالعدالة الاجتماعية، ونزع أسباب الإحباط، وإذا نجحت الأجهزة الأمنية في اكتشاف عمليات تفجير هائلة كان يخطط لها، فكيف تكتشف كل عملية، وكيف تعرف كل حالات اليأس والكراهية التي تمثل مشروعاً لقنبلة كيماوية هائلة، فحين يتساوى الموت والحياة في نظر الناس يتحولون إلى مشروعات «تفجيرية» تدمر كل شيء.
المعالجة الإعلامية والسياسية الجارية للأحداث تبدو وكأن أزمة الإرهاب ستحل بالطريقة الإعلامية، والكرنفالات التي تبدو أفضل ما يمكن تقديمه للجمهور المشغول كما لو أنه يتسلى في سيرك عظيم، أو يشارك في شيء من قبيل التلفزيون الواقعي.
وبعد هذه المهرجانات يضع المواطنون حجراً على بطونهم، فزيادة الضرائب والأسعار، والفساد المتمكن والمتمأسس، وعدالة الفرص، وتأهيل المجتمعات والموارد، والأزمة الدائمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والخصخصة المصحوبة بالاحتكار على نحو يشبه التحول إلى إقطاع فظيع، والبطالة، والتلوث، وأزمة الموارد، وترهل المؤسسات التعليمية والصحية، والتصحر، وانتهاك الحريات والحقوق العامة، وضعف نمو الناتج المحلي والمدخرات المحلية والوطنية، وعجز الموازنة العامة، واتساع مساحة الفقر والمرض، وتزايد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وتهميش فئات واسعة من المجتمع، كلها قضايا لا تستحق الشغل والعناء.
* كاتب أردني.
الحياة