إضاءة لماض أنتج الحاضر ..
2-2
بدر الدين شنن
لم يكن قيام ” الجمهورية العربية المتحدة ” في 22 شباط ا ستحقاقاً قومياً مشروعاً ، تمتد جذور مكوناتها سوريا ومصر ، إلى انتماء قومي مشترك .. وتاريخ مشترك .. وحسب ، بل كان ا ستحقاقاً مصيرياً فرضته الظروف التي كان يمر بها كل من مصر وسوريا في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي . فمصر تعرضت لعدوان ا ستعماري ثلاثي مدمر عام 1956 وهي تواجه مهام إعادة بناء ذاتها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ، وذلك تحت التهديد باعتداءات جديدة على أراضيها ومقدراتها . وسوريا تتصدى لحصار ا ستعماري شامل من الجهات الأربع ، ومهددة بالاجتياح والتمزيق من قبل الدول العميلة المجاورة ومن خلفها دول ا ستعمارية عريقة بالعدوان . يضاف إلى ذلك ، أن ” الجمهورية العربية المتحدة ” أسست كمكافيء عربي بمواجهة المشروع الصهيوني ، الهادف للاستيلاء والهيمنة على المجال العربي الممتد من النيل إلى الفرات ، أي من مصر والسودان إلى سوريا ولبنان والأردن والعراق . وليس هناك مجال للشك ، أن خلفية معظم الذين تحمسوا وعملوا لقيام الوحدة السورية المصرية ، وخاصة الطبقات الشعبية والمثقفين والعسكريين والقوميين الشرفاء ، كانت ترتكز على هذه الحقيقة ، وهذه الحقيقة قد صاغت القيمة التاريخية والعملية لقيام الجمهورية العربية المتحدة .
بيد أن العقلية الفردية اللاديمقراطية لدى عبد الناصر في الحكم ، الذي ا ستبدل الشعب المنظم بحرية وبقناعة ديمقراطية بأطر سياسية ، تحمل برامج سياسية معبرة عن مصالحها ومصالح الوطن وعن حلول لمسائل الحاضر والمستقبل ، من أجل ماهو أكثر تطوراً وعدالة على كل الصعد ، ا ستبدله بالتنظيم الهيولى الأوحد تحت ا سم ” الاتحاد اقومي ” ، الذي اخترقته قوى الاتجاه المعاكس للوحدة ، كما ا ستبدله بأجهزة المباحث التي جردت بلا هوادة القمع ضد القوى والأحزاب التي لم تقبل بحل نفسها وفي مقدمتها في سوريا الحزب الشيوعي ، الذي تعرض لضربة قاصمة ” كعدو للوحدة ” مازال يكابد آثارها المدمرة على بنيته التنظيمية والشعبية حتى الآن . وبذلك نقل عبد الناصر فعلاً أنموذج حكمه القائم في مصر إلى سوريا . ما أدى إلى إشاعة النقمة السياسية على حكم الوحدة .
من طرف آخر ، طرح الحزب الشيوعي بعد قيام الوحدة النقاط ” 13 ” لتحويل كيان الوحدة الاندماجية إلى كيان اتحادي فيدرالي . وبالعودة إلى النقاط ” 13 ” يمكن القول أنها كانت مقبولة للنقاش ، لو أنها طرحت قبل قيام الوحدة الاندماجية ، لكنها لم تعد واقعياً مقبولة رسمياً وشعبياً للنقاش ، بعد أن ا ستكملت دولة الوحدة مؤسساتها الدستورية ، مما حولها إلى ذريعة لاتهام الحزب بالعداء للوحدة ، ولتشديد القمع ضد الحزب وأصدقائه .
وخلال بناء الدولة الوحدوية ، تمت إجراءات متسرعة ومؤلمة ، جرى تسريح عدد من كبار الضباط في الجيش السوري وفي مقدمتهم رئيس الأركان الفريق عفيف البزري ، كم جري نقل الكثير من الضباط السوريين إلى مصر وتم تعويضهم في قطعاتهم بضباط من مصر ، وكذلك جرى نقل العديد من المعلمين والمدرسين المصريين إلى سوريا للاشتراك في المهام التدريسية ، وبدأت أنشطة اقتصادية مصرية تزحف في الأسواق والصناعات السورية . وقد كانت نسبة كبيرة من المصريين المنقولين إلى سوريا تتعامل باستعلاء لامبرر له مع الوسط السوري المنقولة إليه . فضلاً عن أن ا سم سوريا قد طمس وا ستبدل بالإقليم الشمالي .
وبدأ السوريون ، بعد سنة ونيف ، يتململون من هذه الإجراءات ومن القمع المباحثي الذي بات مهيمناً على المجتمع السوري بكامله ..
ومثلما كان الوقت قياسياً في إجراءات قيام الجمهورية العربية المتحدة .. كان الوقت قياسياً أيضاً في عملية تفكيكها . وقد بدا خلال مدة وجيزة على قيام الوحدة ، أن الأطراف الوحدوية في مصر وسوريا لم تعد ، عبر ممارساتها اليومية ، تتمسك بالقيمة التاريخية لقيام دولة الوحدة القومية القوية والمكرسة بالدرجة الأولى لمواجهة الكيان الصهيوني ، بل تتمسك بنشر نفوذها وسلطاتها ومصالحها . وقد جاء عدوان إ سرائيل على قرية ” قبية ” السورية في ذلك الحين ، وعجز الدولة الوحدوية في التصدي الحازم لإسرائيل ، جاء ليكشف عدم صحة أن المتحدة تملك أقوى جيش في الشرق الأوسط .
وبدأت البورجوازية السورية تتحرك لحماية نفوذها الاقتصادي والسياسي ، خاصة بعدما دب الخلاف بين عبد الناصر وحزب البعث العربي الشتراكي وا ستقالة أكرم الحوراني من منصبه كنائب لرئيس الدولة وا ستقالة وزراء الحزب من مناصبهم الوحدوية .
في هذه الفترة كان قد مر على ” ثورة يوليو 1952 ” في مصر عشر سنوات ، دون أن تحقق الثورة من خلال الاقتصاد الموروث أي تطور ملموس في المجتمع المصري ، بل ازداد الفلاحون بؤساً ، وزادت أعداد العمال العاطلين عن العمل ، حيث شكل كل ذلك مع الهيمنة المباحثية على المجتمع شكل ثقلاً كبيراً على الإنسان المصري ، ودفعه للتطلع إلى أفق حلول بديلة . وقد أدرك عبد الناصر خطورة تفرد البورجوازية والملاكين الاقطاعيين في الهيمنة على الاقتصاد وعلى الآمال الشعبية بحياة أفضل ، بل وخطورة ذلك على ” الثورة ” ذاتها . بمعنى أن إجراءات الاصلاح الزراعي وتأميم المعامل الكبرى ، لم تكن ا ستحقاقاً اقتصادياً اجتماعياً وحسب ، وإنما كان ا ستحقاقاٌ سياسياً بامتياز . على أن هذه الإجراءات كانت ناقصة أهم عامل من عوامل نجاحها ، وهو الجماهير الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في مثل هذه الإجراءات . ما أدى إلى نتائج محدودة اقتصادياً واجتماعياً ، وإلى انسداد الآفاق بأن تعطي هذه الإجراءات ا ستقراراً ونهوضاً وقوة للجمهورية العربية المتحدة ، وأن تمكنها فعلاً من أداء دورها القومي التحرري في التصدي للكيان الصهيوني .
وهكذا أثبتت التجربة أن المباحثية ” الديكتاتورية ” والتحولات الاجتماعية التقدمية لاتلتقيان . إذ أن هذه التحولات تتطلب تحولات سياسية ديمقراطية .. تتطلب حكماً يعتمد على الشعب المؤطر ديمقراطياً في أحزاب ومنظمات تتيح عبرها للمواطنين جميعاً حق التعبير بحرية في تقرير التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وليس الاعتماد على أجهزة أمنية لايهمها أمن وا ستقرار النظام الذي تزعم أنها تخدمه بقدر ما يهمها الارتزاق عبر السلطات الممنوحة لها ، وهي تنقلب ضد التحولات التقدمية وتصبح أداة تصفيتها كما حدث بعد رحيل عبد الناصر وتسلم السادات الحكم عام 1970 .
وهذا التناقض الصارخ بين المباحثية والتحولات الاجتماعية التقدمية قد انفجر في سوريا خلال مدة وجيزة بعد قرارات التأميم ، التي تلت إجراءات الإصلاح الزراعي . فمن تموز 1961 إلى ايلول 1961 كانت المدة الي تم فيها إنجاز مؤامرة الإنصال . وبذا لم يكن الإنفصال يمثل قيمة تاريخية إيجابية ، لاسيما فيما يتعلق بمواجة المشروع الصهيوني في الوطن العربي ، وإنما مثل المصالح البورجوازية السورية الضيقة الأفق . وإذا كانت المباحثية في عهد الوحدة من جهة ، والتحولات الاجتماعية التقدمية الناقصة ديمقراطياً من جهة أخرى ، تتحمل حيزاً لايستهان به من مسؤولية الإنفصال ، إلاّ أن البورجوازية السورية ، التي تمتد اتصالاتها إلى الخارج المتحالف مع المشروع الصهيوني ، تتحمل المسؤولية التاريخية الأساس في إ سقاط المشروع القومي الوحدوي .. وفي الوقوف بوجه التحولات الاجتماعية المحققة لمصلحة الطبقات الشعبية . وقد توجت ذلك بتوقيع ممثليها السياسيين بما فيهم حزب البعث على وثيقة في نادي ضباط حامية دمشق مؤيدين لجريمة الانفصال .
لم يحضر ممثلون عن الحزب الشيوعي لقاء توثيق شرعنة الإنفصال ، فقيادات الحزب إما في السجون أو في المنفى ، على أنه عبر عن موقفه من حدث الإنفصال ببيان قال فيه ، إن الوحدة لم تسقط بل إن الذي سقط هو الديكتاتورية . لكن الحقيقة أن الذي سقط هو المشروع القومي ، الذي لم ينطلق مرة أخرى حتى الآن .
وهكذا ، تقدم البورجوازية مرة أخرى على تقديم مصالحها الطبقية على مصالح الوطن ، فهي لم تأت بالديمقراطية على ظهر الإنفصال كما زعمت ، فقد أبقت الشيوعيين وغيرهم من المعتقلين في السجون إلى ما بعد إجراء الانتخابات البرلمانية 1962 . ووجهت ضربة ضد الإصلاح الزراعي وقرارات التأميم ، ما دفع الطبقات الشعبية إلى المبادرة ضد الإنفصال ، من أجل ا ستعادة الوحدة وتحولاتها التقدمية ، حيث شهدت المدن السورية الكبرى وخاصة حلب ودمشق مظاهرات وإضرابات وا سعة .
لم تستطع البورجوازية التقليدية الحفاظ على جمهوريتها الثانية .. وكان عمرها فقط .. من 28 أيلول 1961إلى 8 آذار 1963 . فقد نخرها تخلفها وضيق أفقها . وأجهز عليها الضباط البعثيون والناصريون بانقلاب 8 آذار 1963 ، الذين عملوا معاً من أجل إعادة الوحدة السورية المصرية إلى سابق عهدها . بيد أن الضباط البعثيين قاموا ، بالتواطؤ مع حكم البعث الذي نشأ في 8 شباط من العام نفسه في العراق ، باعتقال الضباط الناصريين في الوفد المرسل إلى بغداد لضم العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة التي ” ستتجدد” ، حسب زعمهم ، باتفاقهم المشترك . وا ستفرد حزب البعث العربي الاشتراكي بالسلطة .
ومنذئذ بدأت مرحلة جديدة على الصعد كافة ، اتسمت بالديكتاتورية ، وبانحسار البنى السياسية الحزبية التقليدية بالاحتواء والاعتقال والمنفى ، وبإلغاء السياسة في المجتمع ، وبالتمايزات الاجتماعية الاقتصادية المؤلمة ، التي ستلعب لاحقاً دوراً مغايراً وخطيراً في بنية المجتمع ، كما اتسمت بالقطع المتدرج شبه المطلق مع المشروع القومي ، حيث لم يتواصل العهد الجديد مع مفاوضات العودة إلى الجمهورية العربية المتحدة ، ولم يتوصل حتى مع نظام البعث المماثل في العراق إلى إقامة وحدة أو اتحاد بين سوريا والعراق . وبدا أنه من الحقيقة بمكان رؤية بورجوازية طفيلية سلطوية حديثة تتشكل من خلال القطاع العام وا ستثمار مؤسسات الدولة ، وباتت بالغة السطوة في الحياة الاجتماعية الاقتصادية ، حيث تمكنت بمدة قصيرة نسبياً من احتواء البوجوازية القليدية ، وحولتها إلى أداة لصنع قاعدة اجتماعية اقتصادية لنفوذها ومصالحها .
بالمحصلة ، لعبت البورجوازية التقليدية ، ما بعد الاستقلال ، لعبة سياسية بشعة . ضربت الديمقراطية بالمشروع القومي .. ثم ضربت المشروع القومي وتحولاته الاجتماعية بالإنفصال بالعودة إلى الاندماج بمشروع سايكس – بيكو والمشروع الصهيوني في الشرق الأدنى .. ثم إلتحقت بالنظام الديكتاتوري الجديد في زواج غير مقدس .. بينما الطبقات الشعبية كانت دائماً وبمصداقية تامة مع الديمقراطية والمشروع القومي ، وكانت القوة العظمى في المقاومة الشعبية قبل الوحدة مع مصر ، وكانت مع مصر بكل طاقاتها ومطامحها الاجتماعية ، وكانت ناقمة على ا ستغلال المباحثية وأعوانها لدولة الوحدة .. تألمت وتظاهرت من أجل ا ستعادة مصر لسوريا وا ستعادة سوريا لمصر ، ووقفت ضد الانفصال اللاوطني .. واللاقومي واللاإنساني .
الحوار المتمدن