حوار مع برهان غليون
كيف يقدم الدكتور برهان غليون نفسه لقراء المجلة؟
ـــ أحد المهتمين بفهم تحولات المجتمعات العربية في العصر الحديث, وانتقالها من نظم تقليدية الى نظم حديثة, والمصاعب والتحديات والمشكلات التي تواجهها في اطار هذا الانتقال. استاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون, ومؤلف لبعض الكتب، فيما يتعلق بتاريخ التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية في العالم العربي, منها: بيان من أجل الديمقراطية, اغتيال العقل، المحنة العربية: الدولة ضد الأمة، مجتمع النخبة، نقد السياسة: الدولة والدين، حوارات من عصر الحرب الأهلية، الاسلام والسياسة: الحداثة المغدورة، حوار الدولة والدين، ثقافة العولمة، النظام السياسي في الاسلام، الخيار الديمقراطي في سورية، العرب وتحولات العالم. وهي تعطي صورة لمساري العلمي والسياسي.
من مؤلفاتكم المبكرة (اغتيال العقل)
أول مؤلف كتبته هو: بيان من اجل الديمقراطية, ثم اتى اغتيال العقل, فكان الكتاب الثاني, وكان هدفه بالضبط نقد نمط التحديث والحداثة العربية. وطورته فيما بعد بفكرة: ان الحداثة أو ما نسميه بالحداثة العربية هي نوع من الحداثة الرثة, التي لايمكن الاّ ان تثير الإحباط والغضب والعنف ايضا.
* أجري هذا الحوار في منزل الاستاذ الدكتور برهان غليون بباريس في مساء يوم 13/10/2007، وتم نقله على الورق ثم تحريره، ومراجعته من قبل الاستاذ غليون.
بمعنى انها حداثة مفتعلة وليست حداثة حقيقية.
لا, هي ليست مفتعلة, هي تطور طبيعي لنوع من الحداثة المشوهة جاءت ضمن علاقة غير متساوية, وفي معظم الاحيان غير مفهومة, غير مسيطر عليها مع التحولات المعرفية والسياسية والاقتصادية والتقنية التي شكلت مسار الحداثة منذ نشوئها. وهي حداثة رثة لأنها منحصرة في الموضوع والغرض المادي الذي يرد على حاجات الاستهلاك. وهو استهلاك لبقايا ما ينتجه الآخرون، لا إعادة إنتاج له ولا تجديد فيه ولا إبداع. هي علاقة مع الناتج والجاهز والمستهلك من الحداثة المصنوعة في الخارج، لا بناءا لسيرورات العمل والتفكير والانتاج التي تشكل جوهر الحداثة وخاصيتها. فهي اقتداء وتشييء واستلاب لا إبداع وتكوين للذات والذاتية وتأسيس للحرية الشخصية والإنسانية.
ان مركز الحداثة في نظري هو الانسان, أي تمثله القيم الجديدة التي تعبر عن انعتاق الانسان وتحريره من قيوده وأقماطه ليتحول إلى فاعل مستقل وحر ومسؤول وقادر على التدخل في التاريخ، تاريخه، والمشاركة في صناعته. والحرية هي مفهوم جوهري ورئيسي في كل عملية تحديث, حرية الفرد, حرية الفكر, حرية الايمان, حرية الضمير, كل هذه امور تدخل في جوهر الحداثة, لأنها أساسية في إعادة تثمين الانسان, ودفعه إلى النظر بصورة ايجابية لنفسه، وهو شرط التصرف والسلوك من منطلقات أخلاقية ومبدئية، وبالتالي شرط الارتقاء إلى مستوى تحمل المسؤولية. وعندما يصبح الانسان على مستوى تحمل المسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه، يصبح فاعلا ومبادرا وصانعا للتاريخ، أي لذاته وللنظام الذي يعيش فيه، لا عالة على الغير ولا استسلاما للأقدار. وهذا على عكس ما كان سائدا في الماضي, عندما كانت الفردية تعني النشاز، والحرية الشخصيةالخروج على الجماعة، وكان التسليم والخضوع والانصياع شرط البقاء الجماعي والانسجام. لم يكن من الممكن للفرد أن يكون حرا. وحتى ايمانه كان مفروضا عليه من قبل جماعته, بنوع من الولاء الآلي الذي نسميه عصبية. كانت العصبية القبلية أو القومية أو الدينية هي أساس الاجتماع وشرطه الرئيسي، وهي تعني اندماج الفرد في جماعته وفنائه فيها، دينية كانت أم قومية، من دون نقاش ولا تفكير ولا جدال وبالتالي من تجديد أو تغيير أو بدع أيضا. وكانت إدارة الجماعة وتقرير مصيرها موكولين لفئة محدودة، منتخبة حسب القانون الطبيعي, قانون البقاء للأقوى. وكانت السلطة مرتبطة بالعصبية، أو بالعصبة الأقوى شوكة والأقدر على توفير وسائل القوة والمنعة والعنف.
ولأنها كانت حداثة رثة، لم تدخل في عمق الانسان, في نظام تفكيره, وفي نظام اعتقاده, وفي نظام اجتماع وفي نظام عمله وانتاجه وفي نظام معرفته وفي نظام علاقاته مع الآخرين أفرادا وجماعات، بقيت حداثة آلية استعمالية أداتية، ولم تنجح في تغيير المجتمعات وتحقيق تقدمها وازدهارها كما كان ينتظر منها، وبالتالي في تمكينها من التحكم بشكل أكبر بمصيرها. ولا تزال مجتمعاتنا ت تخبط في نمط من الحداثةالرثة، او ما تحت الحداثة، التي لا تفضي إلى أي مكان، وتسد علينا أفق الاندراج في العصر، مثل ما تحرمنا من الانغراس في التراث والتموقع في التاريخ. وهي تبدو لي أكثر فأكثر كمأزق وطريق مسدود بدل أن تكون أفق تحرير وانعتاق.
مما لاشك فيه ان هناك عنفا دفاعيا، وهو مشروع, حينما يكون الوسيلة الوحيدة للدفاع عن النفس، والدفاع عن البلد، والدفاع عن الكرامة. وهناك عنف عدواني، يتم فيه التجاوز على حق الغير. ماهو تعريفكم للعنف؟ ومتى يتحول العنف الى عنف عدواني؟ وما هو الفرق بين العنف الدفاعي والارهاب؟
لنبدأ بالعنف, ثم ننتقل إلى الارهاب. العنف هو جزء من الطبيعة. الطبيعة عنيفة. والطبيعة قائمة على العنف. والحياة قائمة على العنف. وقانون الطبيعة هو قانون العنف، أي قانون البقاء للأقوى, الذي يعني أن الكبير يأكل الصغير, والحيوان الأشرس يأكل الحيوان الأضعف. هذه سنة الطبيعة. ولم يتحول الانسان الى انسان الاّ لأنه أبدع, يعني اخترع معايير وقيم ومفاهيم وطور عواطف وأذواق وحساسيات, أي اخترع ثقافة تمكنه من الارتفاع على شرطه الحيواني. بالثقافة والتثقيف والتأهيل انتقل الانسان من حالته الطبيعية الحيوانية الى حالته الانسانية – والأنسنة آتية من هنا، من الانسان, من الأنس والألفة والتعاطف والتقارب. فبالثقافة أصبح الإنسان أليفا وأنيسا، أصبح أقل توحشا, قابلا للتفاهم مع الآخر على أسس غير أسس العنف. العنف هو الشيء الطبيعي وليس الاستثنائي. وكل الحضارة الانسانية, وكل الثقافة في كل المجتمعات هدفها ان تضبط هذا العنف عند الانسان, ان تصعد هذا العنف الفطري، بمعنى الطبيعي، الكامن في كل حياة – أو حيوان – وان تتسامى به، حتى تمهد التربة لنشوء وتطوير علاقات ألفة, مودة, تفاهم, تواصل, تفاعل بين الافراد. فالإنسان لا يولد إنسانا وإنما يؤنسن بالثقافة بالتربية والفكرة الصائبة والكلمة الطيبة والعاطفة النبيلة التي تعنى بتهذيبها آداب الشعوب وفنونها.
بالتأكيد لا يزول العنف كليا في المجتمعات، وإلا فقدت أحد محركاتها الرئيسية. لكن الثقافة التي تعلم الألفة والمودة والتواصل والحب والفهم، تحول العنف أيضا إلى عنف رمزي، يمكن استبطانه وتذكره وتخيله، وبالتالي التعامل معه كعامل من عوامل الضبط الاجتماعي. هكذا تحل العقوبات الرمزية محل العقوبات المادية. كما أن تقنين استخدام العنف، أي إخضاعه إلى قواعد وأصول إجرائية وشروط، هو ايضا جزء من ضبط استخدام العنف وتعبير عن نجاح الثقافة في تحقيق مهامها، والارتفاع بالانسان عن شرط الحيوانية الطبيعية.
الآن، عندما يعود العنف فيتفجر في مجتمع من المجتمعات, فهذا يدل على أن نظام الثقافة، أي نظام الأنسنة والتأهيل الانساني، لا يعمل كما ينبغي، أو أنه يعاني من عطب ما. وينطبق هذا على المجتمع الواحد, كما ينطبق على الثقافة التي تؤلف بين المجتمعات الانسانية على مستوى نظام العلاقات الدولية. يتفجر العنف داخل المجتمعات, لأن نظام التأهيل الثقافي والتربوي والاجتماعي – بناء ثقافة التواصل والتفاهم والتفاعل والألفة، نظام المعرفة والتفاهم، تطبيق القانون, تنظيم العلاقات بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية, إنتاج الحياة المادية للبشر – تعرض لصدمة وأصابه الخلل فلم يعد قادرا على ضبط القوة العنفية الكامنة في الحيوان الطبيعي الذي هو الانسان والتأثير ايجابيا عليها.
ولا يختلف الأمر عن ذلك عندما يتفجر العنف على صعيد العلاقات بين المجتمعات. فهو يعبر هنا أيضا عن عطب في اشتغال نظام القيم الجامعة الحضارية، أو الثقافة العالمية، ومنها ما نسميه اليوم القانون الدولي الذي يضبط العلاقات بين الدول، وذلك إما بسبب سوء استخدام القانون, أو بسبب استخدام قوانين مزدوجة في التعامل مع الظواهر ذاتها والكيل بمكيالين، حسب ما يفيد الطرف الأقوى ويزيد من حجم مصالحه على حساب الأطراف الأضعف.
وبشكل عام، عندما يغدر بالقيم والمواثيق والقواعد التي يقوم عليها تآلف البشر وتفاهمهم وتواصلهم، ينفجر العنف وتتغلب الفطرة الطبيعية على الثقافة المبتدعة.
باختصار، العنف هو الحالة الطبيعية التي نعود اليها عندما يفشل نظام الثقافة/ الأنسنة, بما تشمله من نظم فرعية معرفية وتربوية وعقائدية وفنية وأدبية ودينية وأخلاقية في إعادة بناء وعي الانسان وضميره وذوقه وحسه بما يمكنه من تجاوز الحالة الطبيعية التي تخضع سلوك الأفراد لمنطق الغريزة : الأنانية، رد الفعل, السيطرة بالقوة, القتال والاقتتال من حول موضوعات استهلاكية ترد على الحاجات العضوية.
لماذا نعد المجتمعات الاوربية اليوم أكثر تقدما مقارنة مع المجتمعات المتخلفة؟ وما هي المعايير التي تدفع الناس للاعتقاد بذلك؟ هي ببساطة توفر شروط أكبر في هذه المجتمعات للسيطرة على العنف الداخلي، والدولي أيضا، وضبط استخدامه عند الفرد والمجتمع معا، وإقامة نظام من التضامن الاجتماعي يعزز ثقافة التواصل والتراحم والتفاهم والتعاون. فهي مجتمعات تلعب الثقافة في تنظيم شؤونها، أي الاختيارات الواعية للسياسات،والتنظيم الشفاف لشؤون الجماعة ومصالح كل فرد أو فئة فيها، دورا أكبر بكثير مما تلعبه في المجتمعات المتأخرة التي يتحكم بأفرادها منطق الغريزة بصورة أوسع، وتستسهل فيها الأطراف اللجوء إلى العنف، بل تنظر إليه كوسيلة طبيعية لحل المنازعات، وجزءا لا يتجزأ من قانون الحياة الاجتماعية. ينطبق هذا على العلاقات داخل العائلة كما ينطبق على الدولة وجميع المؤسسات العمومية. وتتعدد في إطاره أشكال العنف التي يمارسها أصحاب السلطة في الأسرة والدولة والمعمل والمصنع والمتجر والحزب والنقابة والورشة والحقل، من الضغط إلى القسر إلى الإكراه إلى القهر إلى العقوبة البدنية القاسية إلى السجن إلى القتل والاغتيال.
عندما تترقى المجتمعات في درجة المدنية، وهذا هو شرط المدنية ومضمونها أصلا، تزيد قيمة الثقافة وأثرها في سلوك أفرادها، ومع تضاعف قوة هذا الأثر ينمو منسوب التضامن أيضا بين أفرادها وفئاتها. فيزداد حجم التكافل الاجتماعي وتضعف مشاعر الحسد والغيرة والغل والحقد والضغينة الغريزية وتنشأ في مواجهتها ثقافة التسامح وحب الخير للغير والاحسان والكرم والتضحية ونكران الذات. وهذا ما يمكن المجتمع من معالجة قضايا الفقر والضعف وايجاد حلول سلمية لها بصورة أسهل. وبقدر ما يزيد الانسجام داخل المجتمع نتيجة ذلك يتضاءل نزوع الأفراد والجماعات إلى استخدام العنف في علاقاتهم فيما بينهم. لذلك لا تتميز المجتمعات المتقدمة والمتحضرة بتراكم أكبر في ثرواتها المادية، ولكن برأسمالها الاجتماعي أيضا، أي بمنسوب أعلى من القيم الإنسانية الايجابية، من التسامح والألفة والانسجام والثقة والاعتراف المتبادل والتفاؤل والأمل وبالتالي من السعادة.
اذن انقاذ المجتمع من العنف يتوقف على انقاذ النزعة الانسانية في الدين والثقافات، أو تكريس النزعة الانسانية في الواقع واحيائها.
بالفعل أكثر ما يتم تجاهله في مجتمعاتنا هو الإنسان. الناس يتنازعون على المنتجات، على المنازل والسيارات والأسفار وأدوات الرفاهية المادية، لكن ليس هناك إلا قلة ضيئلة تفكر بمصير الانسان، بكرامته وحريته واستقلال ضميره ورعاية مشاعرة وتكوينه وتأهيله. السعادة أصبحت مرادفا للملكية، بقدر ما يملك الفرد من أعراض وأشياء يكون سعيدا في نظره ونظر المجموع. هذه ثقافة بدائية لا يمكن أن تقود سوى إلى التنافس الأعمى والتنازع والغش والسرقة والاحتيال والاقتتال. وكل من يفكر في شروط حياة مجتمعاتنا العربية يعيش على أعصابه ويدرك نتائج هذه الثقافة ودورها في وحشنة مجتمعاتنا ودفعها نحو البربرية.
ما نحتاجه في مجتمعاتنا هو التخلص من الاستلاب للبضاعة، لموضوعات الاستهلاك، للسلطة والقوة المادية، والعود إلى الانسان، والتركيز عليه والاهتمام بمصيره، أي العناية بتوكين ذاته وذاتيته. وهذا ما يستدعي التركيز على تجديد الثقافة الانسانية, اكتشاف معنى الانسان أو ما يجعل منه إنسانا اليوم، في عصرنا، وشروط تحقيق إنسانيته، معرفة معنى الفرد والفردية المسؤولة، ومتطلبات وجودها، تأهيل الضمير، أي السلوك حسب مباديء لا اندفاعا وراء حاجات وغرائز. ويستدعي مساعدة الأفراد والشعوب على الارتفاع في نظرهم وسلوكهم إلى مستوى الحياة القانونية والاخلاقية السامية. وهو ما يتطلب إعادة بناء النظام الاجتماعي, وإصلاح آلية عمل النظام الدولي الذي يضم المجتمعات جميعا على قاعدة تعزيز التضامن الداخلي والعالمي، بين أبناء المجتمع الواحد وبين شعوب العالم ككل.
لا شك عندي في أن مجمتعاتنا فقدت نواة ثقافتها الانسانية, وأصبحت مجتمعات متوحشة، أي مستسلمة للعنف وقابلة به كقاعدة للتعامل. وأكثر فأكثر يتضاءل وزن الثقافة والدين والقانون والأخلاق في توجيه سلوك الأفراد، وفي صوغ مصالحهم والتعبير عنها. وهذا هو الذي يفسر انتشار العنف، ويجعل من القوة المعيار الرئيسي واحيانا الوحيد لحسم الخلافات وتأسيس التراتبية الاجتماعية والسياسية. وهذا ما يحكم نظمنا السياسيةالتي تنتمي جميعا لصنف النظم التسلطية والقهرية، والتي كثيرا ما تسن فيها الدساتير وتعدل القوانين حسب مشيئة الحاكم القوي، ولخدمة مصالحه ومصالح الفئات القليلة المرتبطة به.
على المستوى العالمي ايضا هناك تدهور خطير في شروط التعامل وعودة إلى سياسة العنف والقوة. فبعد فترة طويلة من النقاش والنضال من أجل اعادة بناء النظام الدولي على اسس عادلة, تتمثل في توزيع أفضل للموارد الدولية, توزيع أفضل للسلطة الاعلامية, تحديد أفضل لأسعار لأسعار المواد الأولية – هذه كانت معركة الخمسينات والستينات – بعد هذا الامل الكبير باعادة اصلاح النظام العالمي, من أجل ادخال عناصر عدالة ومساواة أكبر بين الشعوب, وتحسين شروط الحياة لدى المجتمعات الفقيرة، التي كانت مستعمرة لفترة طويلة, عدنا الآن الى مناخ لا يختلف كثيرا عن المناخ الاستعماري الذي شهدناه في أواخر القرن التاسع عشر, بمعنى ان من يملك القوة من الدول الكبرى يعتقد ان له الحق في ان يفرض ارادته, وان يتقاسم الموارد الموجودة على الارض, حتى في مواجهة حلفاء سابقين. لم يفعل الأمريكيون غير ذلك في الشرق الأوسط. حاولوا ان ينتزعوا لأنفسهم السيطرة على موارد الطاقة في وجه الاوروبيين, واليابانيين, والصينيين, واستعدادا لمعارك كبرى قادمة في إطار الحرب الاقتصادية. وبدل أن يتطور نظام العلاقات الدولية في اتجاه فرض قانون دولي اكثر عدالة, سرنا في اتجاه خرق القانون وتقويضه. وتشكل الحروب التي شهدها العراق منذ سنة 1991 مرورا بـــ 2003, الى اليوم, تعبيرا واضحا عن المسيرة التي قوضت فيها فكرة القانون الدولي. الامريكان خاضوا حربا لوحدهم, ابتداءً خاضوا حربا بتكتل غربي الى 1991, ثم خاضوا حربا لوحدهم, حتى بدون النظر لمعارضة الامم المتحدة, واعتراض حلفائهم في حلف الأطلسي. وهذا دليل على انه لم يعد هناك فعلا قانون دولي. وهو السبب العميق باعتقادي في تفجر العنف الدولي انطلاقا من مناطقنا.
ليس العنف اسلاميا وليس عربيا. منذ عشرين أو ثلاثين عاما كان العنف الارهابي، أو ما يسمى كذلك، مركزا في امريكا اللاتينية, وفي أفريقيا وآسيا. وكانت المنظمات الارهابية مقتصرة تقريبا في وجودها على أوروبة واليابان. وبالمقابل لم يكن هناك ارهاب اسلامي. السؤال اليوم لماذا يخرج الارهاب في معظمه من بلداننا؟ ولماذا تخرج أكثر المنظمات التي تمارس الارهاب من منطقتنا؟ ليس بسبب الاسلام الذي لم يتغير موقعه في المنطقة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وإنما لأن منطقتنا شهدت في العقود الثلاث الأخيرة، أكثر من اي منطقة اخرى في العالم ،انهيارا خطيرا في الثقة وتفجرا للنظم الاخلاقية والقانونية الفاعلة على المستوى الوطني, وعلى المستوى العالمي معا، بسبب عوامل محلية ودولية متضافرة هي التي ينبغي التركيز على تحليلها.
يقال: ان كل ارهابي مسلم أو كل مسلم هو ارهابي، فالعمليات التي تجري في العالم الآن، مع الأسف الشديد من ورائها مسلمون، خصوصا العمليات ذات الطابع الفاشي العدواني، تقتل أبرياء، تمارس عملية تدمير وقتل وحشي، اين تكمن الأزمة؟
العنف المتفجر هو نتيجة طبيعية لانهيار نظم المدنية الثقافية والقانونية والسياسية، الذي يشكل أحد نتائج الأزمة التاريخية الشاملة التي تعيشها المجتمعات العربية. وأقول العربية وليس الاسلامية لأنها متركزة بالفعل في منطقتنا، وفي المشرق العربي خاصة، قلب الأزمة. فالعنف يقل كثيرا في المناطق الاسلامية المستقرة أو شبه المستقرة. وهو ضعيف بين المسلمين الأتراك والأسيويين. لكن في المشرق والشرق الأوسط، يشكل العنف اليوم السمة البارزة في الحياة المدنية والسياسية للشعوب.
أصل هذه الأزمة ليس الدين، ولو أنها اكتملت بتفجير إزمة دينية. إنه نتيجة ما شهدته ولا تزال تشهده البلدان والشعوب منذ خمسين سنة من اضطهاد وظلم وترويع، وما يتولد عن ذلك من احتقان وتوتر ونزاع، في ظل نظام عالمي أفرغ حركة التحرر من الاستعمار من مضمونها، دفاعا عن مصالح الدول العظمى النفطية والاستراتيجية، وكذلك على أيدي نخب محلية فقدت مقومات الشرعية، ولم يعد لها أمل في الحفاظ على السلطة والثروة إلا بالتحالف مع القوى الأجنبية الاستعمارية. وتحت سلطة هذا التحالف عرفت الشعوب في الخمسين سنة الاخيرة ممارسة للعنف على الأفراد والمجتمعات : العنف الرمزي, والعنف الديني, والعنف السياسي, والعنف المادي، من قتل, واغتيال واختطاف وسجن وحروب طاحنة ومستمرة للدفاع عن الاستيطان الاستعماري وانتزاع الأرض ومصادرة الملكية الخاصة، كما لم يحصل في أي منطقة أخرى من العالم. فانهارت تحت وطأته النظم المدنية والثقافية التي تكونت خلال قرن على الاقل من التحديث الفكري والسياسي والاجتماعي. وتم اختطاف الدولة وتحويلها من أداة لاعادة بناء المجتمعات على اسس وطنية، كما كنا ننتظر منها, يعني على اسس المساواة والحرية, الى اداة لسلب الأفراد ارادتهم, وانتهاك حقوقهم, وتكبيلهم واخضاعهم من أجل الانصياع الى ارادة الحاكم الواحد والمطلق.
هذه أزمة حقيقية حصلت في اجتماعنا السياسي والمدني في العالم العربي, وتفسر وجود الأرضية أو التربة الصالحة لتنامي العنف, والعنف المضاد.
منذ أربع سنوات كتبت مقالا, قلت فيه: ان الارهاب هو ملخص حياة الشرق الأوسط الراهن. والقصد أن الارهاب لا يقتصر على ما تقوم به بعض الحركات الاسلامية في الخارج. فمن يتعرض للارهاب اليومي هي شعوب الشرق الأوسط, سواء من قبل حكامها ونظمها السياسية, التي هي نظم قهرية, او من قبل قوى السيطرة الاسرائيلية والدولية. فما تقوم به إسرائيل هو إرهاب ليس للشعب الفلسطيني فقط ولكن لشعوب المنطقة بأكملها. وما تقوم به الأنظمة الاستبدادية والقمعية، هو إرهاب منظم لهذه الشعوب نفسها، وما تمارسه بعض الدول الغربية وقطاعات من الرأي العام المعادي للاسلام من استفزازات وتحرشات بالمسلمين وإهانة لهم هو إرهاب أيضا وعنف.
ولا يمكن ان نفهم كيف تحول العنف الذي انفجر في البلاد العربية منذ السبعينات, وكان محصورا فيها وموجها نحو الداخل الى عنف موجه نحو الخارج من دون ان نرى الرابط, من دون ان نشدد على هذا الرابط الذي حصل في التاريخ والواقع, بين العنف الذي استخدمته النظم المطلقة الاستبدادية, والعنف الاسرائيلي الذي مورس على هذه الشعوب, والعنف الدولي الذي دعم هذه الأنظمة وكان وراء تكريسها.
فقد كانت معظم الحركات الاسلامية تنزع الى تغيير النظم وليس الى ضرب أهداف خارجية. ولكنها بدأت تتوجه نحو الخارج بقدر ما اكتشفت بالعمق، وبالممارسة العملية, ان هذه النظم المستبدة والمطلقة, الفتاكة والقاهرة, لها جذورها وحمايتها ومظلتها الحقيقية في الخارج, وفي الولايات المتحدة بالدرجة الاولى, التي تشكل الحاضنة لجميع هذه النظم الاستبدادية التي ترى فيها كلاب حراسة لها في منطقة استراتيجية تسعى إلى الاحتفاظ بها ضمن دائرة النفوذ الغربي وسيطرته.
فبقدر ما اختارت هذه الدول هذه السياسة، أصبحت طرفا في الصراع الداخلي ايضا, وأصبحت مصالحها مستهدفة بالتساوي مع مصالح القوى العربية الرسمية.
ألا تعتقدون ان هذا الكلام ينطوي على شيء من اختزال العنف واحالته الى عوامل خارجية، أو هو احد أشكال التبرير لسلوك الجماعات التكفيرية التي تمارس الارهاب، بالرغم من ان هناك مجموعة من الاسباب الاخرى التي تنتج العنف وتمده بأسباب الحياة، ومنها اسباب ترتبط بالموروث، واسباب تتمثل بالوضع الاقتصادي، واسباب تتعلق بالأزمات التي تعيشها بلداننا، ومنها اسباب تتصل بما يتغذى به المخيال الاسلامي، فضلا عن انه ليست الشعوب او المجتعات الاسلامية هي الوحيدة التي تتعرض الى قمع من حكوماتها وأنظمتها، فهناك مجتمعات في افريقيا وامريكا الجنوبية وامريكا اللاتينية وآسيا ايضا فيها انظمة شمولية قمعية، وهذه الانظمة هي بشكل أو بآخر على صلة وثيقة بالولايات المتحدة، او حتى ببعض الدول الاوروبية الكبرى، وبالتالي لم تنفجر فيها مثل هذه الازمات، التي تصدر العنف الى الخارج، وتتحول الى واحدة من الظواهر الاسلامية المرعبة في هذا الوقت.
الا تعتقدون ان الموقف التعبوي المبتني على رفض كل ماهو غربي، ومناهضة المعرفة الغربية، والثقافة الغربية، والعلوم الغربية، والتكنولوجيا الحديثة، جذوره راسخة في العقلية السلفية ، وهو يفضي الى تكفير الآخر وشن الحرب عليه؟
التراث الذي تتحدث عنه كان موجودا منذ اربعين سنة, ومنذ خمسين سنة, وموجود منذ قرن, والتراث لم ينشأ في الثلاثين سنة الاخيرة. تراث السلفية لم يتبلور في هذه الفترة. نفس هؤلاء العرب المسلمون الذين ناضلوا منذ القرن التاسع عشر من أجل تأكيد الاستقلال والوطنية وأشعلوا ثورات من أجل الدستور في كل المناطق, وقاتلوا تحت شعارات حديثة, من أجل التحرر والاستقلال, مثل كل شعوب العالم الثالث, يناضلون ويقاتلون ويشعلون حرب العداء للغرب كما لم يحدث مسبقا. وقبل عقود قليلة لم تكن هناك ايديولوجيا اخرى مسيطرة على المنطقة سوى ايديولوجيا التحرر الوطني, وبناء دولة قومية واشتراكية أو ديمقراطية. كيف تحول هؤلاء أنفسهم اليوم وما الذي يفسر تغير مزاجهم الفكري والسياسي، وتحولهم عن معركة التحرر والتحديث إلى معركة التأكيد على الهوية والتشبث بالخصوصية والخوف من كل ما هو بدعة أو صرعة أجنبية؟ كيف انتقلنا من فتنة الحداثة التي سيطرت على شعوبنا لأكثر من قرن ونصف إلى فتنة التراث والخصوصية والأصالة، أي إلى مناخ اصبحنا نرفض فيه كل النظم و المؤسسات والقيم الحديثة, باعتبارها اجنبية معادية, ينبغي التخلص منها؟ يمكن الاجابة بسرد عدة نقاط:
النقطة الاولى: هذا لايفسره التراث, التراث كان موجودا من قبل, هذا يفسره الظرف التاريخي الذي وجدنا فيه, والذي دفع البعض الى اعادة تأويل التراث بطريقة مختلفة عن السابق, تبيح استخدام العنف إن لم تجعل من عبادته رديفا للايمان بالتساهل في تفسير معنى الجهاد. وهذا يعني أن العنف لا يوجد في التراث, حتى لو انطوى هذا التراث المكتوب والمسموع، الذهني والعملي التاريخي، على تبجيل العنف. العنف موجود عند الاشخاص الذين استعادوا التراث من زاوية ما فيه من عنف أو أعادوا تأويله لينسجم معه. لماذا أعاد بعض الاشخاص أو بعض الفرق, أو بعض قطاعات الرأي في العالم الاسلامي النظر في تراثهم, لينتزعوا منه كل مايؤكد على العنف؟ هذا لايفسره التراث, تفسره حياة الناس, يفسره الحاضر والتحديات التي يواجهها الناس في الحاضر. أنا اعتقد انه لايمكن ان نفهم العنف أبدا اذا اعتبرناه ترجمة طبيعية لما هو موجود من قيم وأفكار في تراثنا تدعو للعداء او الشدة مع الآخر، أو تعبيرا تلقائيا عنها. وهذا مايسعى إلى تأكيده القسم الأعظم من المحللين الغربيين بقصد التغطية على المفجرات التاريخية، أي الراهنة للعنف، بإلحاقه بعوامل ثقافية ودينية وتاريخية بعيدة وعمومية. ثم إنه لا يوجد دين, لا الاسلام ولا المسيحية ولا غيرهما، يخلو من العنف المادي والرمزي، ولا يشتمل على عناصر المواجهة والكفاح والتحدي، كشرط لبناء روح المقاومة وإرادة الكفاح عند أعضائه لتأكيد الذات أو لمواجهة القوى المناهضة له. لكن الأديان والثقافات الكبرى التي تبيح جميعها العنف تنزع إلى التركيز بشكل أكبر على قيم الرحمة والتسامح والمودة. وهي العناصر الأقوى عادة. وهذا ما يجعل منها أديانا وليس طوائف صغيرة مغلقة. وهذا نابع من هدف الأديان الكونية ووظيفتها الرئيسيين، أعني تأليف القلوب وجمع الناس وحثهم على تجاوز تناقضاتهم وخلافاتهم وتوحيد كلمتهم. ولا يشذ الاسلام عن ذلك فهو دين مفتوح على العالمية, وليس دينا قوميا, بمعنى العصبية القومية. هذا هو وضع الثقافة الحديثة أيضا التي تنظر للحرب وتبني استراتيجياتها الأكثر عقلنة ومضاءا، من دون أن يمنعها ذلك من أن تدافع عن رسالة الحرية والعدالة والمساواة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد، بل بين البشر بصرف النظر عن أصولهم وأديانهم. يوجد الوجهان في الثقافة الحديثة تماما كما هما موجودان في الثقافة القديمة أيضا. السؤال الصحيح هو : ماالذي يدفع المجتمعات أو أقساما من الرأي العام، في لحظة من اللحظات, في مجتمع ما, الى ان تركز على جوانب الحرب وليس على جوانب السلم, على جوانب العنف, وليس على جوانب المودة والرحمة، على حقوق الانسان وليس على المصالح القومية الأنانية التي أنجبت عنف الاستعمار والنازية؟ هذا هو السؤال المطروح.
يرجع انفجار العنف في نظري إلى انهيار النظم الثقافية والقانونية والسياسية والأخلاقيةالتي تؤطر المجتمعات وتنظمها وتؤنسن الفرد. وقد حصل الانفجار نتيجة الضغوط القوية والمستمرة التي تعرضت لها. فقد أدت الحروب والصراعات المستمرة، الداخلية الاهلية والخارجية والاخفاقات التي عرفتها الشعوب، إلى تفاقم التناقضات والتوترات داخل المجتمعات، وعمل جمود الفكر وتراجع القيادة السياسية والإدارة المدنية معا، على تراكم العجز عن مواجهة التحديات والنزاعات التي لا حل لها، والتي ضاقت النظم الثقافية والسياسية والمدنية الأخرى عن احتمالها. كانت مساهمتنا نحن أنفسنا كبيرة في هذه الحروب والصراعات والإخفاقات، أعني نخبنا ودولنا وشعوبنا من دون شك. لكن كانت مساهمة أطراف خارجية، بسياساتها العدوانية هامة وكبيرة أيضا لا يمكن تجاهلها.
وهذا ما يفسر لماذا كان تفجر العنف أقوى بكثير في المنطقة العربية، وفي البؤرة التي تقع في قلب الأزمة، أي في المشرق العربي، ولم يحصل في كل العالم الاسلامي، لم يحصل مثلا في تركيا, ولم يحصل عند المسلمين الهنود. فظروف حياة المنطقة في العقود الخمس الماضية هي التي أنتجت التربة الملائمة لنمو العنف, لانفجار العنف في الداخل وانتشاره إلى الخارج.
النقطة الثانية: التي يدور حولها النقاش, كيف ولماذا انتقل العنف الداخلي, الذي يفسره تحلل النظم المدنية والثقافية, بما في ذلك تفكك وحدة الرؤية الدينية, الى الساحة الدولية, فأصبح عنفا موجها نحو الخارج وليس نحو التغيير في الداخل؟ انا اقول: توجه نحو الخارج بقدر ما كان الخارج, وليس أي خارج, وإنما أوروبة والولايات المتحدة الأمريكية أو الغرب عامة، شريكا في المسؤولية عن الخراب الداخلي للمجتمعات. فهو حتما ليس موجه للصين, و لا للهند, ولا لروسيا أو البرازيل بالرغم من أنها جميعا دولا كبرى، ولا لأفريقيا بالتاكيد. هذا يطرح سؤالا جديدا : اذا كان الاصل في هذا العنف هو كره الأجنبي كما يريد لنا منتقدو الاسلام الاقتناع به, لماذا يتركز هذا الكره كله على القوى الغربية؟ ألا توجد هناك علاقة بين اتجاه هذا الكره، وسيطرة هذه القوى بالفعل على الشرق الأوسط، من ضمن استراتيجيتها للحفاظ على موقع السيادة في المنظومة الدولية؟ لا أحد يستطيع ان ينكر ان الشرق الأوسط خاضع لنفوذ مباشر أمريكي-أوروبي, وان الصينيين, والهنود, والأفارقة, والامريكيين اللاتينيين, لاناقة لهم ولاجمل في مايحصل في هذه المنطقة. اذن لايمكن ان نفهم العنف على أساس انه ناتج طبيعي وثمرة طبيعية لتراث يدعو الى العنف، ونجعل العنف صفة لهوية وماهية إسلامية. هذا مايريد بعض المحللين الغربيين ان يقنعونا به ليهربوا من مسؤولياتهم الخاصة في انتاج هذا العنف. بالتأكيد، لم ينتجوه هم, لكن مسؤولياتهم في انتاجه كبيرة جدا، سواء أكانت مباشرة أو غير مباشرة. عن طريق توكيل الأطراف المحلية وحمايتها، وتكليفها بمهام السيطرة والقمع والقهر، وبسبب عدم احترام هذه الدول القوانين الدولية التي كانوا في أساس صياغتها وفرضها.
فلاأحد ينكر اليوم ان الاوصياء على النظام الدولي والمتحكمون في مجلس الأمن هم الامريكيون والاوروبيون. وهم أول من انتهك مباديء القانون الدولي في المنطقة وضربوا ثقة الشعوب به وبنجاعة العمل السياسي والسلمي لاسترجاع حقوقهم المشروعة. وقضية اسرائيل ليست قضية سهلة ابدا, ليست قضية ثانوية في فهم انتقال العنف نحو الخارج. لاينبغي ان نقلل من مغزى الحرب المستمرة والنزاع المستمر في المنطقة العربية بين العرب واسرائيل منذ اكثر من نصف قرن, وأصداء حركة الاستعمار الاستيطاني اليهودي المستمر، ومضاعفات تدمير شروط حياة الشعب الفلسطيني ومستقبله في المنطقة، على بقية الشعوب المحيطة بها, والتي هي اليوم حاضنة العنف في المنطقة. من أين يأتي العنف؟ من مناطقنا, مناطق المشرق العربي المحيطة باسرائيل, التي كادت تضيع معنى القانون بسبب الانتهاكات الصارخة والمستمرة في الداخل, القانون الوطني, والقانون العالمي. انتهك القانون الدولي لصالح السيطرة الغربية, وفجر أمامه انتهاكا مقابلا للقانون. لان القانون الدولي والحياة القانونية بأكملها لم تعد ذات مدلول أو معنى، لم يعد هناك ما يردع بعض الأفراد أو الفئات التي فقدت الثقة بالإرادة الدولية والأمل بخلاص من خارج دائرة العنف، عن الانخراط في العنف من دون حساب، بما في ذلك ضد النفس، اعتقادا بأنه الطريق الوحيدة لانتزاع الحقوق العربية أو الاسلامية. ولذلك كان المسلمون أنفسهم هم الضحية الرئيسية للعنف، وهدف العنف المتفجر على يد الجماعات المتطرفة الارهابية.
النقطة الثالثة: لا يعني تفسير أسباب نمو الظاهرة ابدا تبريرها, ولاإضفاء الشرعية عليها. وليس الهدف من تحديد المسؤوليات توزيع التهم على هؤلاء وأولئك ولكن فهم الظاهرة التاريخية. كما أن الإقرار بقسط من المسؤولية على السياسات الغربية، وليس الغرب كثقافة وحضارة وشعوب، لا يعني بالضرورة إعفاء الآخرين، ونحن منهم من المسؤولية. نحن مسؤولون عن العنف كمثقفين عرب ومسلمين. الفقهاء مسؤولون عن العنف, لأنهم بدل ان يساعدوا المجتمعات على ضبطه وإدانة التطرف الذي يقود إليه، غالبا ما كانوا ولا زالوا يسايرونه وأحيانا يؤيدونه علنا، وفي أهم وسائل إعلام سمعية بصرية. الحكومات العربية والنظم التسلطية والنخب السياسية والمدنية، الحاكمة والأهلية، مسؤولة هي أيضا، بسبب سياستها الفاسدة التي لا تراعي سوى مصالح أصحابها، أو تقاعسها، أو استهتارها بالقانون والحق والعدالة، عن تفجر العنف, وعن ايصال الأوضاع الى ماهي عليه. ومع ذلك لا يقلل هذا الاعتراف من مسؤولية الحكومات الغربية الكبرى، وهي صاحبة السلطة المطلقة على الصعيد الدولي, وفيما يتعلق بتوزيع الثروة وتوزيع السلطة, واحترام حق تقرير الشعوب لمصيرها. والذين أرادوا ان يجيبوا على تفجر الارهاب العربي بحرب عالمية ضد الارهاب, يعني بارهاب العالم الاسلامي كله, سياسيا, وثقافيا, وعسكريا, هم ايضا مسؤولون بصورة مباشرة عن امتداد العنف وانتشاره في العالم، ربما أكثر من أي طرف آخر. لأن الرد على الارهاب ومقاومته لا يتحققان من خلال تعزيز الأسباب التي أدت اليه, أعني بخرق اكبر للقانون, واحتيال أكثر عليه، وتسويق التعسف والعنف، والالتفاف على القضاء كما حصل في غوانتانامو وابو غريب وغيرهما، وكما يحصل في موضوع حرمان الفلسطينيين من استرجاع حقوقهم وتحقيق مطالبهم المشروعة. لا يكون الرد على العنف إلا بنزع فتيل العنف, أي بإزالة الاسباب التي تدفع إليه.
ينبغي ان نميز بين مستويين للاسلام, المستوى الأول هو الوحي والنص، والمستوى الثاني هو التمثلات التاريخية. لاشك ان الحديث ليس عن اسلام الرسالة، اسلام النص، واسلام الوحي، وانما الحديث عن اسلام التاريخ، عن التمثلات التاريخية والاجتماعية والسياسية للاسلام. وان هذه التمثلات لاتخلو من الصراعات، ولاتخلو من الكثير من الالغام والمشاكل التي تراكمت على طول التاريخ. ما حصل في العصر الحديث، ان الجماعات الاصولية استطاعت ان تقرأ التراث قراءة ارهابية، وتعيد تأويل الدين بطريقة عنيفة، وتعمل على تعبئة الجمهور باتجاه مناهضة كل ماهو غربي. صحيح ان الموقف من الآخر فيه تمييز بين الآخر الامريكي، والغربي، والآخر الآسيوي، والآخر الافريقي، لكن الموقف الداخلي الذي حصل فيه شحن وتجييش هائل له أثر حاسم في تفجر العنف والانتقال به الى المجال الدولي؛ يعني لو لم يكن هنالك استعداد لما تفجرت الظاهرة بهذا الشكل. المسلمون الآسيويون وغيرهم من الأقليات والجماعات الاخرى الموجودة في البلدان الاوروبية، أو أمريكا، أكثرهم مندمجون في هذه المجتمعات, ولايكفرون الجميع, مثلما تفعل الجماعات السلفية التكفيرية. وأود ان أشير الى اني لاأتهم التراث أو الدين كدين بانتاج العنف لان منطق الدين وجوهره هو التراحم والسلام والمحبة، ولكن تلك الجماعات تكرس قراءة عنيفة للدين، وتقرأ التراث قراءة ارهابية.
بالضبط، حاجة الأفراد إلى العنف هي التي ولَّدَت تأويلا عنيفا للاسلام, وهذا التأويل صار بمثابة الدين. لا يكمن الحل في إدانة التأويل الجديد والخاطيء للدين فحسب، ولكن بالذهاب في ما وراء الدين نفسه والتأويلات الدينية، أي بحل المشاكل السياسية والاجتماعية والقانونية والثقافية التي تدفع إلى العنف وإلى التأويل العنيف للدين. ليس هناك تناقض ولكن تكامل بين العملين. البقاء في إطار الإدانة الفقهية أو الدينية لا يوقف العنف. لكن الحديث عن الأسباب الفعلية، القائمة في واقع حياة الناس وشروط وجودهم المأساوية لا ينبغي أيضا أن يغيب عنا أهمية إدانة العنف وتفكيك خطابه وتأويلاته الخاطئة. فهما ضروريان لحماية الاسلام نفسه والمسلمين من خطر الانخراط الموسع في العنف والتماهي معه، وكذلك في منع العنف من إضفاء شرعية دينية على نفسه، وتحويل الاسلام إلى ايديولوجية عنف تبرر إعادة إنتاجه. لا يمكن للعنف ان يستمر فقط إذا بقي عملا ماديا مفتقرا للشرعية. حتى يتجدد ينبغي أن يعيد إنتاج نفسه في الوعي, في الايديولوجيا, كفعل مشروع ومحبذ أو مطلوب.
لكن أعود فأقول لا ينبغي أن نفكر، كما نفعل منذ سنوات طويلة، بأن أصل العنف هو هذا التأويل الخاطيء أو أنه ثمرة الايديولوجية الاسلامية. بالعكس, الايديولوجيا هي تبرير للعنف يكمله ويدعمه لكن لا ينتجه. لماذا اعتبر هذه الملاحظة مهمة؟ لأنه لن يجدي نقد ايديولوجيا العنف فقط لوقف العنف, اذا لم نستكمل ذلك, بتغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المنتجة للعنف. والدليل ان معظم الدول العربية التي لجأت إلى سلاح التكفير وإدانة التأويلات الخاطئة للاسلام، ووظفت من أجل ذلك مشايخ ومثقفين كبار لإرشاد الناس وهدايتهم، لم تحصل على نتيجة، بالرغم من أن الحركات المتطرفة كانت لا تزال حركات شعبية بعيدة عن العنف. عقود طويلة ونحن نسمع هؤلاء ونقرأ لهم. لم يؤثر هذا على من يتبنى العنف, لان أصل الموضوع وجوهره لا يتعلق بالدين وإمما بشيء آخر. والمتطرفون لا يستمعون إلى خطاب النقد والتصويب لأنهم يعيشون خارج الخطاب أصلا، دينيا كان أم غير ديني، وما يحركهم أقوى من الخطاب والايمان الديني. وهو قائم خارج نطاق التأويل. هم يتأولون لانهم يريدون غطاءا لممارسة العنف, لا تطبيقا لشعائر الدين، ولا بحثا عن التقوى والورع الروحي. وانسداد الآفاق يجعلهم يشعرون أنه لا خيار آخر أمامهم سوى العنف. لقد وضعوا في مكان يحتاج الى ايديولوجيا العنف. لذلك من الخطأ أن نركز كباحثين اجتماعيين على مسألة النصيحة الدينية والتأويل الصحيح. هذه مهمة رجال الدين وواجبهم الرئيسي. لكن نحن مهمتنا الذهاب إلى ماوراء ذلك، والبحث عما لا يمكن لرجال الدين أنفسهم، ولا لمن ينصتون إليهم أن يتأولوه، أقصد الشروط المجتمعية الاقتصادية والسياسية والثقافية لظهور التاويلات والأفكار وتكوين سلوك الأفراد.
لا أعتقد مثلا انه يمكن السيطرة على العنف الفلسطيني وانهائه ان لم يعط الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه. هناك دولة وحكومات ونظم تنتهك حقوق الجماعات والأفراد وتستهتر بمصالحهم، تستعمر أرض بعضهم وتحرم آخرين من حرياتهم وحقوقهم الطبيعية وتجرح كرامتهم كل يوم، وهناك بالمقابل بشر تعاني من خرق القانون, ومن الاضطهاد والقهر الواقع عليها يوميا. هذا هو الأصل الأول للعنف والعنف المضاد في الشرق الأوسط. ولا يمكن تجاوزه من دون إزالة عوامل إنتاجه وتحسين شروط حياة الناس وحفظ حقوقهم ومصالحهم.
لقد ذكرت في آخر مقال كتبته: اننا لانستطيع تجاوز الأزمة التي نعيشها الاّ ب متجهدين متوازيين:
الأول: عودة كثيفة للعمل التثقيفي والفكري والتربوي للشعب وللرأي العام. وهذا ما افتقرنا إليه في الفترة الماضية, لاننا سلمنا أسلحتنا واستسلمنا مقتنعين كمثقفين ان الشعب جاهل ومستعد للالتحاق بالحركات الاسلامية المتطرفة، وليس هناك أي قدرة على مقاومة هذا الاتجاه أو تبديله بالوسائل الفكرية والسياسية. فقبلنا بما اقترحته الأنظمة الفاسدة من الحلول الأمنية واعتقدنا أنها أهون الشرور. والحال إن هذا النوع من الحلول هو الذي طور المشكلة وفاقمها، وحول التطرف الاسلامي السياسي إلى عنف، وأنتج حركات الارهاب السياسي، كصدى مباشر لسياسة الارهاب الرسمي التي مورست في كل مكان.
الثاني: فصل مسائل الأمن العربي عن الأمن الغربي والأطلسي، وتمييزه كأمن وطني عن سياسات التبعية والالتحاق. فمن دون تغيير العلاقة القائمة الآن بين المنطقة ككل وبين التحالف الغربي, لصالح علاقة مختلفة قائمة على الندية والاحترام, والمساواة, والاحتكام إلى القانون, أي رفض قاعدة الكيل بمكيالين, ومراعاة مصالح الشعوب, من دون ذلك لن نستطيع ان نتقدم في ايجاد مخرج من الأزمة. واذا استمر الغربيون في فرض مصالحهم بالقوة, لن نستطيع، مهما فعلنا على المستوى الثقافي، نحن كمثقفين،ان نضبط العنف المتولد عن تفاقم التناقضات والتوترات وردود الفعل اللاعقلانية والمتفجرة الناجمة عن الظلم والخديعة والإذلال. ولو تنازل الغربيون وغيروا نمط العلاقة الوصائية وشبه الاستعمارية التي يقيمونها مع مجتمعاتنا, من دون ان نقوم نحن بالجهد الضروري ايضا لتثقيف الرأي العام, فلن نخرج من المأزق أيضا.
اذن هناك جهدان متوازيان يجب ان يتحققا: عملية تثقيف, وعودة الى العمل الثقافي والفكري والديني. يعني التجديد الديني في داخل المجتمعات العربية والرأي العام العربي. وبموازاة ذلك اقناع الحلفاء الغربيين, اقصد القوى الديمقراطية, والقوى المؤمنة بالقانون الدولي, والتضامن الانساني, بضرورة الضغط على حكوماتها لتغيير السياسة الشرق أوسطية, التي لاينكر احد في الغرب انها خلال العشرين سنة الماضية كانت سياسة عدوانية من الطراز الأول, في فلسطين, وفي العراق, وفي الصومال, وفي السودان, وفي افغانستان. وبقدر ما كانت عدوانية قائمة فقط على استخدام القوة واظهار التفوق العسكري, فجرت ينابيع العنف المقابل في منطقتنا. لذلك اقول اننا لاينبغي ان ندخل في مناخ جلد الذات, ونقول: وحدنا المسؤولون عن مايصيبنا, لاننا لم نفسر الاسلام التفسير التسامحي الصحيح, واننا خُنا مبادئ الاسلام. لقد كان التفسير المسيطر على المسلمين في بداية القرن الماضي وخلال أكثر من نصف قرن تفسيرا تسامحيا, وعقلانيا. وهذا ماعبرت عنه حركات الاصلاح في الاسلام جميعا، بشيعته وسنته، على حد سواء. وهذا التفسير هو الذي سمح بانتشار أفكار الدستور, والمواطنة, والقانون, وتبنيها من قبل المسلمين، رجال دين ومؤمنين عاديين.
هذا لا يعني أننا لا ينبغي أن نتابع مسألة التجديد الديني، وبالأحرى إصلاح المنظومة الدينية بأكملها، وعلى رأسها السلطة الدينية وممثليها الرسميين. ولعل من أكثر التحديات المطروحة في هذا المجال انهيار السلطة الدينية التي فقدت في المجتمعات العربية اليوم وحدتها وانسجامها، وأصبحت غير قادرة على أن تلهم المسلمين أو أن تزودهم برؤية متسقة وموحدة للإسلام. وهذا جزء من التدمير الذي أصاب النظم المدنية والثقافية الحاملة للاجتماع العربي كما ذكرت. فليس من المؤكد أن شيخ الأزهر يحظى اليوم بالصدقية نفسها التي كان يتمتع بها من سبقه في النصف الأول من القرن العشرين. ولا ندري من هو الموجه الفعلي للمسلمين اليوم في مجال دينهم، وإلى من يتجهون لتكوين وعيهم الديني وضبط مواقفهم واختياراتهم. وبدل التجديد يعيش المسلمون، بسبب تفكك السلطة الدينية وانهيارها، حالة من الفوضى الروحية والانقسام في الرأي الديني لا يختلف كثيرا عن الفوضى والانقسام الذين يعيشونهما في المجالات الأخرى ويحرمانهم من الحد الأدنى من التفاهم والتعاون ووحدة الموقف والاتجاه. وتخدم هذه الفوضى بالدرجة الأولى تيارات الاسلام السياسي والحركي الذي لا يهمه الدين بقدر ما تهمه السلطة. ولا شك أن استخدام السلطات السياسية لرجال الدين أو للعديد منهم كأدوات لتعزيز سلطات لا شعبية، وإضفاء الشرعية على سياساتها، لا يساعد على تكوين مثل هذه المرجعية الدينية. وهكذا أصبح الدين سببا في تنامي الخلاف بدل أن يشكل أساسا للوحدة والاتحاد والتجانس والانسجام.
وما ينطبق على الدين ينطبق على الثقافة العربية بأكملها. بل لا ندري في ما إذا كان من المشروع الحديث عن وجود ثقافة واحدة وفاعلة بالفعل. هناك بالتأكيد تراث عربي عظيم نعيش عليه، لكن الثقافة بما تعنيه من طرح للأسئلة المصيرية وسعي للتفكير فيها وبلورة إجابات لها، لا تعيش من دون حرية. بينما يشكل قتل الحرية وتحريم الناس من التفكير الحر والاختيار، في ميدان الدين والدولة والمجتمع معا، السمة الرئيسية للحياة العربية الراهنة. ويشارك في التآمر على الحرية النخب الرسمية التي تريد أن تؤبد حكمها بحرمان الشعوب من أي مقدرة على المشاركة السياسية، ومعظم النخب الأهلية التي ترى في حرية الفرد واستقلاله تهديدا لنظم سيطرتها التقليدية.
باختصار، إن التدمير المنهجي لنظم الحياة المدنية الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية في البلدان العربية, هو الذي يفسر الفوضى الفكرية والسياسية والاقتصادية التي نعيشها، وضياع الفرد العربي وإحباطه ونزوعه إلى العنف الموجه إلى نفسه وإلى الغير معا.
هل يقتصر العنف على استخدام القوة, أو انه يتجاوز ذلك الى هتك الكرامة، والتشهير، والاهانات. كما يمكن ان يكون العنف الرمزي له آثار قاسية ، سواء كان مصدر العنف الغرب، أو السلطات داخل مجتمعاتنا؟
معك حق مئة بالمئة. لا يقتصر العنف على استخدام القوة. فهناك أشكال لا تقل حدة وحطا للكرامة الإنسانية، ربما كانت العنصرية، بما تتضمنه من معاملة تمييزية وتحقير للشعوب والجماعات، أحد أهم أشكاله السياسية والفكرية. ولا شك أن الشعوب العربية تتعرض إلى معاملة عنصرية،عبر التصريحات والمطبوعات والافلام التي تصدر, هنا وهناك، لاظهار العرب أو المسلمين بمظهر شرير, وسيء, ولاأخلاقي. هناك حرب ثقافية يشنها قطاع يميني متطرف من الرأي العام الغربي على المسلمين, تحت شعار الحرب على الارهاب أو كبح جماح النزوعات الهيمنية الاسلامية. وهو ما يدفع إلى تعميق شعور المسلمين بأنهم مستهدفين, وموضوع اضطهاد وقهر. وتساهم هذه المواقف العنصرية بدورها في تغذية قوى التطرف داخل البلدان العربية, وتضفي شرعية أكبر على قوى الارهاب, وتعزز لديها روح المواجهة والعداء بدل إضعافها.
تتعرض مجتمعاتنا اليوم لكل أشكال العنف، المادي واللامادي، الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والوطني، الداخلي والخارجي. وتشهد أكثر من أي مجتمعات أخرى ظواهر الحرب والقتل والاغتيال السياسي والفكري، وقمع الرأي الآخر، وتقييد الحريات الفردية والجماعية، ومحو الشخصية، وردع الأفراد للحصول على إذعانهم وخضوعهم الأعمى لصاحب السلطة والمال. ينتشر العنف فيها في المنزل بين أعضاء الأسرة، وفي الشارع حيث تندلع الصدامات والمنازعات لأدنى شعور بالإساءة، وفي المكاتب والمصانع والمتاجر والدوائر الحكومية، ويجسده أفضل تجسيد التضخم السرطاني لأجهزة الأمن والمخابرات وتعدد السجون والمعتقلات، وتنامي ظاهرة الميليشيات الطائفية والإتنية، وتوطن النزاعات الأهلية في أكثر من مكان
في مجتمعاتنا التي تتوطن فيها الأنظمة الشمولية، تتفشى السجون وأقبية التعذيب، ويزجها الدكتاتور باستمرار في حروب، مثلما حصل في العراق، عادة ما تسود لغة عنيفة، يعني اللغة تضج بمفردات عنيفة, احيانا الألفاظ والمقولات المستخدمة في وصف الأشياء الجميلة يعبر عنها تعبيرات عنيفة، كما نلاحظ في العراق، يعبر الناس عن الفتاة الجميلة بأنها: رهيبة، تقتل، كارثة… وحتى الايقاع الصوتي نبرته حادة.
الا توجد علاقة جدلية بين عنف اللغة والعنف البشري بشكل عام؟
نعم بالتأكيد. سأروي لك حادثة حصلت لي في إحدى البلدان العربية. كان الناس يتزاحمون في إحدى الدوائر الرسمية للحصول على وثيقة عادية، كشهادة ميلاد أو بطاقة شخصية. يدوس الكبير على رجل الصغير من دون أن ينتبه حتى إلى ما يفعله. وكان الموظف ينادي على الحضور بالاسماء ليعطيهم وثيقتهم. وعندما يتأخر بعضهم قليلا بسبب عجزه عن اختراق الازدحام والتقدم لاستلام الوثيقة، سرعان ما تتغير لغة الموظف فيصرخ فيه: أين أنت يا حمار أو يا حيوان، ثم يرمي بها من فوق رؤوس المتحلقين حوله. هذا مثال لمجتمع فقد كل أشكال التربية, وانهارت فيه أبسط القيم الانسانية وأعظمها معا، أعني الاحترام. لقد اصبح العنف اسلوب التعامل الرئيسي بين الافراد الذين يسعى كل منهم إلى تخويف الآخر وسبعه بالعنف. أصبحت لغتنا نفسها تنتج العنف وتضج بالعنف.
حتى لغة الجسد ايضا لاتخلو من عنف، العيون جائعة، شرهة، النظرات حادة، عدوانية، حركات الايدي وتعبيرات الوجه قاسية، كأنما عملية افتراس، تسود الروح الذئبية.
تكاد القاعدة أن تكون اليوم في مجتمعاتنا كما ذكرت قاعدة الغابة. وقاعدة الغابة هي الافتراس: القوي يفترس الضعيف, يفترسه بالكلام, بالسرقة، بإخضاعه وتحويله إلى أداة في خدمته، بتشويه سمعته. فعندما يفقد المجتمع اتساق الثقافة التي تؤنسنه, يتحول الى حشد من الحيوانات المفترسة. تزول الروابط والقيم المشتركة ولغة التفاهم بين الناس، ويحل محلها لغة التنافس والخصومة والنزاع والحرب. يبدو لي أننا فقدنا فعلا الثقافة المدنية. الثقافة ليست انتاج قصص وروايات وشعر وموسيقى. الثقافة هي خلق الانسان من الداخل, الانسان الذي يحترم نفسه والآخر, لديه قيم, ومبادىء, ورؤية, ومشروع حياة. وهذا ما يمكنه من التواصل مع الآخر, والتفاعل معه، أي من بناء علاقة متوازنة وايجابية قائمة على الأخذ والعطاء، وبناء المشاريع المشتركة، أو المشاركة في الإنتاج والإبداع. هذه هي الثقافة, وأخشى أن نكون فقدناها مع الأسف او في طريقنا لفقدانها.
ثورة المعلومات وانتشار الفضائيات وحضورها في كل بيت، وتخصيص الناس في مجتمعاتنا ساعات طويلة لمتابعة هذه الفضائيات، وماتعرضه من مشاهد, لها دور في تحول العنف الى ظاهرة شاملة عامة. أي ان تحول العالم الى عالم افتراضي, واختزال الصورة للواقع في الفضائيات، وتقلص المكان واندماج الزمان، كل ذلك عمل على تعميق نزعة العنف وتعقيدها .
تعمل ظاهرة عولمة الإعلام في اتجاهين. الاول خلع المجتمعات والجماعات عن مرجعياتها القديمة الثابتة، وتعريضها للعوم في الفراغ. وهو ما يقود إلى المزيد من القلق والتخبط والضياع. والثاني فصل البشر عن واقعهم المادي، وتحويلهم هم أنفسهم إلى واقع افتراضي، بقدر تعلقهم بالعالم الافتراضي وتكريس معظم وقتهم له. ونستطيع أن نقول أن العالم الافتراضي هو الذي يحكم العالم المادي اليوم. حتى المرتب الذي نتقاضاه لم نعد نلمسه. لقد أصبح راتبا افتراضيا، نشاهده على شكل أرقام في الحاسوب. ثورة المعلوماتية تغير من شروط وجود الفرد وتسمح له أن يعيش في عزلة كاملة من دون أن يشعر بالعزلة. فهو يعيش وحده أمام الشاشة الصغيرة والكبيرة، ولا يدرك أنه كي ما يعيش على الفرد أن يبنى جسور تواصل مع الآخرين ويجتهد لفهمهم والتعامل معهم. الفرد يعيش في شقاء وفي حلم في الوقت نفسه. فهو داخل المجتمع الذي يشاهده عبر الشاشةوبعيدا عنه. وسائل الاتصال الجديدة, التلفزيون, الاعلام…الخ, تسمح للفرد ان ينطوي على نفسه ويعيش عالمه الخاص.
انه يقوض النسيج الاجتماعي
هو يساهم في تكوين نسيج اجتماعي مختلف مركز حول الوحدة والفرد والاستقلالية. وبهذا المعنى فهو يقوض النسيج الاجتماعي القديم. لكن بالتأكيد في مجتمعات لم تنجح في استيعاب الحداثة ولم تحقق تراكما أوليا هاما في ميدان العلاقات الاجتماعية الحديثة وقيمها، لا يقود تقويض النسيج القديم إلى ولادة مجتمع معلوماتي جديد، وإنما نحو الفراغ والفوضى. منتجات ثورة المعلوماتية والإعلام تتحول هنا إلى أدوات استلاب مضاعف بدل أن تعزز استقلال الفرد وقدرته على التواصل عبر الزمان والمكان مع أمثاله.
العمليات الانتحارية لها تاريخ طويل، لكن في المرحلة الراهنة تفشت بشكل واسع، وتحولت الى ظاهرة، خصوصا في العراق، حتى الآن سجلت مئات العمليات الانتحارية، وهي ظاهرة مدهشة، ماهي الميكانزمات التي تجعل العنف يرتد الى الذات وتتغلغل ظاهرة الانتحار بهذا الشكل؟
الاحباط العميق الذي أوصلت النظم السياسية الاجتماعية الفرد العربي إليه، بحيث فقد أي شعور بالجدوى والقيمة، يجعل الموت في نظر قسم من الشبيبة أرحم من الحياة. على الأٌقل، الموت بهذه الطريقة يزيد من تقدير الانسان لنفسه، يشعره بأنه أعطى لحياته العبثية معنى وقيمة، عمل شيئا في حياته, ضحى بحياته مقابل شيء يؤمن به. الانتحار يساوي هنا السعي إلى الارتقاء بالنفس إلى مستوى حياة المباديء الأخلاقية في مواجهة عالم المصالح والمنافع والمنافع المادية والأنانية السائد. الشعور العميق بالعبث والخواء, وانعدام الافق والأمل, كل ذلك يدفع الانسان الى ان يجعل من الموت مصدر قيمة ومبرر للحياة.
لا يعيش الأفراد فعلهم هذا كفعل انتحار، ولكن كتعبير عن الفداء والتضحية بالذات, في خدمة قضية، بصرف النظر عما إذا كانت صائبة بالنسبة لنا أم لا. وهؤلاء عادة لا يبحثون عن مصالح, وليسوا انتهازيين, وانما غارقون كليا في المشروع الذي انخرطوا فيه. هم يعيشون حالة مافوق طبيعية، ينفصلون عبرها كليا عن الواقع. يعتقدون انهم ينجزون عملا بطوليا.
مايجري لدينا في العراق مثلا، شاب يفجر نفسه وسط مصلين في مسجد، وهذه الظاهرة موجودة في مناطق شيعية ومناطق سنية، أويقتحم انتحاري موكبا لمراسم دينية. عندما يهاجم شاب محتلا، يمكن تعقل الكلام الذي تفضلتم به, لكنه عندما يهاجم هذا الشاب ابناء جلدته المصلين فهل دوافعه دينية وبطولية، وهل تعتبرون ذلك تضحية وفداء؟
أنت تتحدث هنا عن ظاهرة أخرى تنتسب إلى روح العصبية القبلية. والطائفية ليس لها علاقة بالدين من حيث هو ايمان، وإنما هي تقوم على تحويل الايمان والانتماء الديني إلى عصبية قبلية، يصبح الفرد فيها أداة في يد المجموع، ويفقد أي استقلال فكري أو إرادة ذاتية. ولنا نحن العرب تراث كبير في القبلية والعصبية التي تقضي على روح الفردية. لا يعيش الفرد بنفسه، ولا يشعر بقيمة في ذاته، وهو مستعد بالفعل للتضحية بنفسه في خدمة القبيلة التي يشكل الانتماء إليها والولاء لها كل عالمه الروحي والفكري. ومعظم العمليات الانتحارية التي تتحدث عنها مرتبطة بهذه الآلية. وهي في اعتقادي ثمرة ترتيب أجهزة أمنية متنازعة تستخدم روح العصبية واستعداد الأفراد للتضحية بأنفسهم في سبيل مجد قبيلتهم/طائفتهم أو الانتقام لها، أكثر من أن تكون ثمرة تصميم فردي أو حتى طائفي محض.
هذا الشاب تعرض الى عمليتي تخدير وتنويم للعقل وغسيل للمخ, وجرى اعداده بملء دماغه بمفاهيم وأفكار ومعتقدات تكفيرية بنحو حتى يمكن ان يكون مستعدا للاعتقاد بأن قتل مصلين مثلا هي قضية مقدسة؟
لايوجد أحد ينفذ عملية انتحارية من دون ان يمر بعملية غسل دماغ, مباشر أو غير مباشر. ولا يفترض ذلك بالضرورة ان يأتي احد فيغسل دماغه. هو نفسه يغسل دماغه لوحده احيانا. بدون تنويم العقل, لا يمكن الاقدام على التضحية. وكل انتحار هو تضحية بالنفس. ويعتقد المؤرخون أن فرقة الاسماعيلية كانت تستخدم الحشيش لإعداد انتحارييها، ومنه جاء اسم الحشاشين للاشارة إلى بعض فرقهم. لكن لتنويم العقل وسائل عديدة أخرى، والايمان العميق بمباديء سامية يمكن أن يكون أحدها. والواقع كل ايمان يفترض تنويما ما للعقل, ذلك أن شرط الايمان هو التسليم, وعدم تشغيل الحس النقدي. اذا بدأ المؤمن بتشغيل حسه النقدي بموضوعات الاعتقاد معناه بدأ يشك.
عقل الايمان عقل استسلامي
عقل تسليم وخضوع لإرادة إلهية عليا، وعدم التفكير في ما تطلبه أو تهدي إليه. في الاسلام الامور واضحة. اسم الاسلام يعني التسليم لله ولرسوله. الايمان هو التسليم, عندما تناقش قضايا الايمان بحجج عقلية تخرج المسألة عن منطق التسليم, وتدخل في حدود الشك. لذلك كان المسلمون في عصور الانحطاط يخافون جدا من الجدل في الدين. فهو ينطوي على مخاطر الكفر والزندقة.
هذه سمة الايمان, بما في ذلك الايمان في العصر الحديث, وبالمباديء غير الدينية. فالذين آمنوا بالشيوعية مثلا نوّموا العقل, واصبحوا يتصرفون كمؤمنين يقاتلون ويُقتلون في سبيل القضية. وقتل منهم الكثير. في بلداننا قدمت الحركات الشيوعية في الماضي ضحايا كثر, في سبيل مبدأ, تعتقد الانسانية كلها اليوم، أو جزء كبير منها، أنه كان خاطئا. فلا شيء يمنع الانسان من ان يضحي من أجل قضايا خاطئة, بل شريرة. ولذلك لا تبرر التضحية بالضرورة القضية التي تفديها، وتضحية الإنسان بنفسه لا يعني أن قضيته أخلاقية وسليمة وعادلة. نعم، عندما يموت إنسان من أجل الحرية, من أجل الدفاع عن وطنه, عن قيم ومبادىء انسانية يؤمن بها, تكون لتضحيته في نظرنا قيمة ايجابية, لأنها تبدو لنا قضية أخلاقية ومشروعة. لكن عندما يموت من أجل قتل اناس آخرين, فقط لانهم مختلفون في الدين, أو في المذهب, أو في العقيدة، فهو يضحي من أجل قضية فاسدة، وتضحيته لا تجعل منها قضية عادلة.
مجلة قضايا إسلامية معاصرة