صفحات الحوار

الشاعر منذر مصري: ما زلت وفياً لفكرة القصد والمعني في قصائدي

null


رائد وحش

دمشق ـ القدس العربي : علي العكس مما يظنّه الكثير من قرّائه، منذر مصري شاعر محيّرٌ ومقلقٌ، وما يبدو في نصّه من سهولة وبساطة ليس سوي خداع، ففي الحقيقة ثمّة حربٌ مع اللّغة، ما يزال يخوضها للتنكيل بها، وجعلها تنصاع لمشيئة عصيانه.

أهمية تجربة صاحب الشاي ليس بطيئاً تكمن في اختراعاته ـ أفضّل استخدام هذه الكلمة ـ الشعرية علي صعيد المفردة والجملة والتقنية والأسلوب، إضافة إلي رفده المشهد الشعري بالكثير من الأفكار الشعرية كاشتغاله علي تأليف قصائد من قصائد الآخرين؛ منذر مصري وشركاه ، أو كتابة مجموعة كاملة انطلاقاً من إهدائها إلي شخص؛ دعوة خاصة للجميع .

تقول في إحدي قصائد كتابك (الشاي ليس بطيئاً): (كرستُ حياتي أبحث عن شيء أكرس له حياتي).. هل ينطبق هذا العبث علي علاقتك بالشعر؟

نعم ينطبق.. نعم ينطبق هذا العبث علي علاقتي بالشعر انطباقه علي علاقتي بالحياة والموت.. غير أن كلمة كهذه تسمح لنفسها بلبوس العديد من المعاني، منهاـ إذا وضعت عليها مؤشر الماوس الآن ونظرت لمفرداتها لقرأت ـ: (لعب، مجون، هزل…). تعلم، الفن، من زاوية ما، لعب، والبعض يقول: لعب جدي، وهذا ربما أسوأ ما فيه، ولكن عليه أن يكون مثيراً مثل كلّ لعب! وعليه أن يكون ممتعاً مثل كل لعب.. ثم بعد هذا تأتي من كلمة عبث فكرة العبثية، أي أننا نحيا عبثاً. كل شيء قبض ريح كما يردد سفر الجامعة، وهي ليست فكرة بسيطة كفاية كي يدير لها شخص مثلي ظهره، فأنا لا ريب رغم أني أفضل بريخت كمعلم علي الجميع، أكن بعض الإعجاب لكامو وسارتر ويونيسكو وبيكيت. ولكن جملة كهذه في شعري، أجد أنها تسمح للتفكير بها علي صعيدين، الأول، وسأفاجئك بهذا، اللغة! اللغة التي يظنّ الجميع أنّ لا عمل لي بها إلا أن أحمل علي ظهرها المعاني، فـ (كرست حياتي أبحث عن شيء أكرس له حياتي) تُظهر استخدام قدرات اللغة في حدودها القصوي، فهي مؤلفة من تناظرات وتكرارات وإشارات وتحويلات لتشكل معادلة شديدة الالتباس، في الطرف الأول منها هي جملة يغلب عليها الشكل، الأسلوب، الافتعال، التذاكي وهذا ما يجعلها لافتة، ولكن لولا أنها في الطرف الثاني، تتضمن فكرة حقيقية ساذجة حتي الإلغاز، لما وجدتها تستحق أن تكتب!؟ نعم أنا واحد من أولئك الذين قضوا حياتهم يبحثون عن شيء يكرسون له حياتهم، ما هو هذا الشيء، هل عرفته، هل حصلت عليه لأعمل لأجله طوال حياتي، أهو الحب، أم الشعر، أم الوطن!؟؟ ولكن هذا كله ليس سوي معني ظاهري بدوره، مما يسمح لجملة كهذه بأن، يتذكرها القراء ويتناقلوها حتي تغدو قولاً مأثوراً، كأقوال أوسكار وايلد أو برنارد شو، أو حتي المسيح حين يقول: لا تحزنوا كثيراً فالمصلوب علي يميني سيدخل الجنة، ولا تفرحوا كثيراً فالمصلوب علي يساري سيدخل النار! فلا نعلم إذا كان علينا أن نفرح أم نحزن، ثم ماذا عنه نفسه ماذا سيحل به، أليس هو، وليس سواه، من أتينا لأجل أن نفرح له أو نحزن عليه!؟ أي أنها من ذلك الصنف من الكلام الذي تسمح لنا بقوله معرفتنا وقدراتنا الشديدة علي التحكم بلغتنا، وهذا أمر لا تخفي خطورة الوقوع بحبائله، بحال استخدامه الدائم عن قصد أو غير قصد، الأمر الذي أدي بصموئيل بيكيت لأن يكتب بلغة أخري أقل دراية فيها، ليكون أقل سيطرة عليها!؟.

إلام تعزو كثرة الأفعال، بمختلف أزمنتها، في شعرك، مع أنك تعتبر نفسك، بل تري الشاعر أيضاً، رجل أقوال؟ ألا يعني هذا بأنه رجل أفعال أيضاً؟

كان محمد علاء الدين يقول لي وأنا أحدثه عن الزمن: يا منذر.. إن للشاعر زمناً آخر غير زمن الآخرين ولا أدري منذ عشرين سنة إن كنت أصدقه أم لا أصدقه!؟ لكني بتقدم العمر صار لي مصلحة أكبر بتصديقه!؟ أما عن كثرة الأفعال في شعري، فيمكن له أن يتأتي لأسباب عديدة، منها أني أُكثر من الروي والسرد في نصي، أنا شاعر سردي، يخطر علي بالي الآن أن أطلق علي نفسي، وذلك خضوعاً لمشيئة البعض في أنه لا يجب جمع كلمتي شعر ونثر معاً، كأن أقول أنا شاعر نثري مثلاً!؟ غير أن هذا لم يكن أبداً صحيحاً علي نحو إطلاقي. أستخدم السرد بمقدار ما أستخدم الوصف، والحوار، والجمل التقريرية، ذلك بحكم أني منذ البداية اخترت النثر لكتابة شعري، اخترته لأدواته هذه، وليس فقط كرهاً بالوزن والقافية!؟ لكن هذا بدوره تبسيط آخر، في شعري أستخدم أكثر ما أستخدم أدوات الشعر، الاستعارة والتشبيه والطباق وغيرها من أدوات البديع، ولكن ليس بالكثرة التي يملأ بها البعض أشعارهم، باقتصاد، أستطيع القول، وذلك لأنها بنظري أدوات ثمينة، بل باهظة، ينبغي استخدامها بأشد حرص ممكن.

نعم أري الشاعر رجل أقوال، الشاعر تقع عليه مهمة الأقوال وعلي غيره تقع الأفعال. الله قال عن الشعراء هكذا: يقولون ما لا يفعلون ، فعل الشاعر، هو القول، فيكون كما أنت تقول: رجل أفعال، أي تصير الأقوال أفعالاً. ففي الصفحة قبل الأخيرة من كتاب تيري إيجلتون (فكرة الثقافة) يقول ـ وأهدي هذه المقولة للصديق ياسين حاج صالح ـ : وذلك في وقت غدت فيه الثقافة، في أنظمة الحكم السلطوية التي كانت منضوية في الكتلة السوفياتية السابقة، شكلاً أساسياً من أشكال الخروج والتمرد السياسي، حيث انتقلت عباءة المقاومة من المناضلين السياسيين إلي الشعراء .

أنت متهم بالثرثرة داخل الشعر،تكتب حوارات أدرتها، كما هي، وتلف وتدور، هل الثرثرة جزء من اهتمامات قصيدتك؟

إذا أردت تصنيف الشعراء بين الناس، فهم بالتأكيد من صنف الثرثارين، لا الصامتين. ولو كانوا كذلك لأبطلوا، ببساطة، الشعر. وإلاّ ماذا تقول عن ملاحم هوميروس ودانتي ومعلقات العرب ودواوين البحتري وأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي، ماذا تقول عن أبي العلاء!؟؟. أنا، كما الجميع يشكو، الثرثار الأول في الاجتماعات والسهرات وحتي في العمل، رغم أنه يحصل أحياناً أن لا أنبس ببنت شفة في جلسات طويلة، وهكذا بما أني ادعيت دائماً بأن علي شعري أن يكون صورة لحياتي، فأنا بالتالي، ثرثار بالشعر. الأمر الذي تعتبره عناية جابر شبهتي الوحيدة، بينما تعتبره أمل محمد لعياً، تخبرني بهذا كصديقة. بالنسبة لي تعلمت الثرثرة من أساتذة كبار، ساعدني الظرف الزمكاني. ـ أقسم إني أستخدم هذا التوليف لأول مرة ـ أن أتتلمذ عليهم، الياس مرقص ومحمد سيدة وميشيل كيلو. كان إلياس يقول لي: (ماذا أفعل إن لم أكن أستطيع كتابة مقالات قصيرة!؟) ولما قلت لميشيل إني دعوت إلياس للسهرة معنا عند بوعلي ياسين، ليأخذ عنه كتفاً في الكلام، ردّ علي بما يعرف عنه من سرعة البديهة: (البركة فيك يا زلمة!).

ولكن بالعودة للشعر، فقد كتبت في البداية، ورافقني ذلك زمناً، وتستطيع أن تجدها في (آمال شاقة) و(بشر وتواريخ وأمكنة)، قصائد قصيرة كثيرة، ثم راحت قصائدي مع الأيام تزيد عن صفحة، ثم صارت صفحات!؟ حدث الأمر بشكل طبيعي. وأنا علي كل حال لا أري أن الشعر آلة مخصصة لعصر الكلام وتكثيفه وجعله إكسيراً. ولو كانت هذه غاية الشعراء لاكتفوا بعنوان القصيدة، أو بسطر يمكن اعتباره العبرة منها!؟ولكنهم علي حد قول ابن سينا: الشعراء أمراء الكلام يقصرون طويله ويطولون قصيره!؟ .

تلعب كثيراً مع اللغة، مع أن لغتك الشعرية بسيطة، ورقيقة، وسهلة التناول، إلا أنك تعمد إلي ملئها بالألاعيب، أتراها، هذه النزعة، نوع من التأكيد علي مقدرات بلاغية لردّ اتهامات الرافضين لوجود كائن اسمه قصيدة النثر؟ أم هي حالة تخصّك شخصياً لتبدو أمامنا كشاعرٍ كهاوٍ..أم للأمر أسباب أخري؟

تعود لفكرة اللعب، أإلي هذه الدرجة تري في شعري حيلاً!؟ ولكني هذا المرة سأجيب علي نحو معاكس، بأني ألعب بكل شيء ولا ألعب مع اللغة! فأنا بسبب علاقتي غير الطيبة معها، أحاول ما أمكنني الوقوف بجانب الشعر في دفاعه عن نفسه أمامها!؟ في شعري هناك بدل اللعب حرب مع اللغة!؟ ثم إذا وافقت معك علي توصيف لغتي بأنها بسيطة، وسهلة التناول، فإني لا أستطيع موافقتك علي أنها رقيقة. عموماً أقصد، وليس وقت أكتب قصائد حب مثلاً، رغم أن قصائدي عن الحب لم توصف يوماً بأنها كذلك، فأنا ألام دائماً علي تفضيلي استخدام الكلمات غير الشعرية.

أما عن تعمدي إلي ملئها بالألاعيب، فذلك يستدعي أن أستشهد بما قاله عباس بيضون عني يوماً: سنجد مفاجأة أكبر، حين نري أن منذر، وربما أكثر من كثيرين، اشتغل علي شعره وشعر غيره بدقة صائغ يتظاهر بأنه لاعب أكروبات انتبه هنا لقوله بأني أتظاهر بأني لاعب أكروبات، الذي عمله هو التظاهر ذاته! ربما كان قصد عباس هنا الرد علي في وصفي له بقصيدتي عنه: التفاتة قاسية من فوق الكتف : يشدّ الأبصار إلي يدٍ/ ليخفي ما يفعله باليد الأخري/ مخرجاً من قبعته/ ما كان قد سقط فيها / دون أن ينتبه له أحدٌ/ من فتحةِ كمه/ كل هذا وأعمال الحواة/ بعرفه/ لا تحتاج لمعذرة..) ولكن لا عباس، ولا أنا، أو لا أي شاعر يأخذ نفسه علي محمل الجد، يفعل ذلك للرد علي اتهامات الرافضين لوجود قصيدة النثر، لأن اتهامات من هذا النوع ما عادت تحتاج بذل كل هذا الجهد للرد عليها، ولا أقصد بهذا أي نوع من التحقير أو الاستخفاف!؟ ثم اني لا أحاول أي شيء آخر بشعري إلا أن أكون حقيقياً.. إنساناً حقيقياً، وُلد وعاش ومات، رأي وسمع وقال.. رغم كل ما في هذا من توهم. أعترف.

الرسم، وأنت رسام لمن لا يعرف، حاضر بقوة في قصيدتك ذات النزوع البصري، ويمكن النظر إلي الكثير من شعرك علي أنه تصوير، بالريشة أو الكاميرا.. ما المسافة بين التي تريد جسرها ما بين الكلمة والصورة؟

كما تقول أنا رسام، في البداية أعددت العدة كاملة، تقريباً كاملة، لأكون رساماً، رسمت وأقمت معارض في حلب ودمشق وحمص وطبعاً في اللاذقية، ولكن ولكن، جاء الشعر وأفسد علي كل شيء غير أني أعود له دائماً، أعود له كما أعود للبحر. يحررني الرسم من المعاني والقواعد كما يحررني البحر من اللباس والأرض.. حيث لا شيء يقودك إلا الإحساس، في الرسم أكثر من الموسيقي كل شيء يقال بلغة الحس، فلا معيار ولا قانون سوي إحساسك بما تقوم به. هل ميلان الخط هنا، هل سماكته، هو الأفضل، هل اللون هنا غامق أم فاتح كما يجب!؟ هل وضع البقعة الصفراء الصغيرة في هذه الزاوية هو الأشد ملاءمة!؟ هل ترك فراغ بهذه المساحة هو ما أريده!؟ الأفضل وما يجب والأشد ملاءمة وما أريده لا يقاس هنا سوي بالإحساس، أنت رسام جيد أو سيء لأنه لديك إحساس جيد أو سيء تستطيع الحكم بواسطته. كان محمد سيدة يعيد ويكرر أمامي بأني يجب أن أترك الشعر وأركز علي الرسم: الشعر يستطيع أن يكتبه الجميع، كل من يستطيع أن يقرأ ويكتب يستطيع أن يكتب شعراً، لكن لا أحد يستطيع أن يرسم ما لم يكن يستطيع أن يرسم!؟ والقليلون يستطيعون هذا وخاصة كما تفعل أنت!؟

لذا حقاً، إن النزوع البصري قوي في قصيدتي، فالوصف، والإكثار من التفاصيل، وحضور الأشياء من خصائص كتابتي!؟ لا ريب أن ما يقع في محيط النظر أحد مكونات الصورة الشعرية، قديماً وحديثاً، بل مكونها الرئيسي، خذ بيت عنترة مثلاً، يا له من مثل: (فوددت تقبيل السيوف لأنها/ لمعت كبارق ثغرك المتبسم)، أو امرئ القيس (مكرّ مفرّ مقبل مدبر معاً/ كجلمود صخر حطه السيل من علٍ)، كل الصور هنا بصرية. ما أحسبه أني أضيف إلي هذا، هو استخدامي له علي نحو: (كلما رأيت غراباً طائراً تذكريني) وهو عنوان لقصيدة لي، وكذلك ما كتبت تحته: (إنه نورس أسود هذا ما كان يعنيه لي دائماً)، فطُبع خطأً في (مزهرية علي هيئة قبضة يد): (إنه نورس أبيض… )، مما اضطرني لإرفاق ورقة تصحيحات مع كل نسخة من الكتاب. ولكن نورس أسود صار العنوان الذي اختاره صالح دياب لأنطلوجيته عن الشعر السوري مؤخراً. كما أني كتبتُ منذ ثلاثين سنة تقريباً قصائد كثيرة عن لوحات سيزان وفان كوخ ومونش وبيكاسو وكليمت وشيلي و.. كما كتبت مجموعة من ست وعشرين قصيدة عن كتاب صغير عن الرسم الهندي، أهدتني إياه ذات يوم فتاة بولونية فلم آخذه منها، ثم أعادت إهداءه لي بمناسبة أخري، فقبلته، معللاً سبب ذلك بأني أحببت أن تعطيني إياه مرتين. وقد استطعت أخيراً أن أقوم بتوليفة، أخشي أن تكون ملفقة، بين رسمي وشعري! وذلك بأن تكون مشاركتي بالمهرجانات والأمسيات الشعرية بواسطة تقديم عرض باور بوينت، كما فعلت في كافالا وجرش، ولكن ليس في لوديف حيث عليك أن تقرأ تسع مرات في تسعة أيام.

كثيراً ما تكتب الشعر انطلاقاً من جمل تدونها في مفكرتك الشخصية، تسميها الإحضارات، ومن يقارن بين ما نشرته من هذه المفكرة (رجل الأقوال) يجد الكثير من شعرك في جمل متناثرة، هنا وهناك؟ هل الشعر مجرد جمل؟

ما لارميه يقول إن الشعر كلمات. إذا قبلتُ منك أن شعري جمل، أكون قد تقدمت خطوة ما بالنسبة له. نعم أباشر بكتابة قصيدة ما عندما تتوفر عندي الإحضارات اللازمة لكتابتها،إلا أني كثيراً ما فعلت هذا وكتبت قصيدة دون استخدام أي من إحضاراتها، كما أني كتبتُ قصائد كثيرة وليس لدي عنها سوي فكرة غامضة!. لا يمكن حصر كيف للمرء أن يكتب قصيدة. في كل تجربة، في هذه المرحلة أو تلك، تتغير طريقتك في الكتابة، وربما تتغير كتابتك بالكامل..ما أقوم به هذه الأيام هو تجربة كتابة شعر يتخفف من المعني، بل ضد تلك العظة الفظة : (المعني أولاً ثم المتعة.. هكذا الإنسان)!؟ وهذا خلاف كل ما كنت أؤمن به وأدعو له طوال حياتي، مختلفاً مع فكرة الجاحظ الشائعة: (بأن المعاني موجودة في الشارع وكل عمل الشاعر أن يأخذ منها ما يشاء ويصوغه) بأن الشاعر خلاق للمعاني، ولكن كل شيء يتغير ويختلف، حتي ربما لا يعود هو هو.

الآخرون حاسمون في وجودك..تتحدث عن أصدقائك بإفراط، وتلعب بقصائدهم كشريك، هذا ما فعلته في (منذر مصري وشركاه). كما كتبت مجموعة كاملة انطلاقاً من فكرة الإهداء (دعوة عامة للجميع).. هل أنت مضافة؟

ألا تريد أن ينافسني أحد في دور البطولة في شعري؟ حتي ولو كنت بطلاً ألا أحتاج لأعوان، لمن يقومون بالأدوار الثانية والثانوية. مع أصدقائي أحاول أن أشكل مشهداً ما، سكوب وملوناً، بل بانورامياً إذا أمكن. أما ما قمت به في (منذر مصري وشركاه) فأعتبره بدعة لا سابق لها في الشعر. هل تعرف شاعراً كرّس سنوات لكتابة قصائد من قصائد الآخرين!؟ مرة قلت عنها أنها تجربة قراءة الشعر بالشعر، كأن يقوم موسيقي ما بتوليف مقطوعة من ألحان موسيقي آخر! وهذا جداً طبيعي في الموسيقي العالمية!!؟ ثم اني بـ (منذر مصري وشركاه) خبرت خلاف الآخرين عني بالأدوات والأفكار، كما بالأحاسيس. خبرته بتقليبه علي كل وجوهه بالعين واليد، كما خبرته بتجربته ووضعه في غير مكانه!. أوصلني إلي مطارح لم أكن أتوقع وجودها، خارجاً عني وبداخلي. أما عن كوني مضافة، أحسب أن هذا ليس من باب السؤال علي الإطلاق!.

هل جربت أنواعاً أدبية غير الشعر،كما يفعل معظم الشعراء الآن؟

أكتب مقالات.. أنت تعلم، ولكن لا شيء آخر لحد اليوم.

هل كُتبت دراسة جادة عن تجربتك؟

كتبت عن مجموعاتي، وبعض قصائدي المنشورة هنا وهناك، مقالات ومراجعات لا بأس بها، بالعدد والنوع، حتي أن (بشر وتواريخ وأمكنة) كانت محل اهتمام بعض الدراسات الجامعية المتواضعة. إلا أني بالتأكيد، لم أحظ بناقد يكرس من الوقت والجهد ما يكفي ليكتب دراسة جادة، علي حد تعبيرك، عن تجربتي. لا أحد من شعراء جيلي أو ما بعده، حصل له شيء كهذا. هناك كتاب كامل يدرس قصيدة واحدة لأدونيس، وهناك كتب وأطروحات جامعية لنيل درجة الدكتوراه كثيرة عن هذا وذاك من الشعراء، الرواد عادة، ولكن لا يوجد دراسة جادة واحدة عن بندر عبد الحميد مثلاً، ولا عن عادل محمود أو نزيه أبو عفش، أعددت هذه الأسماء لأنها ذات تجارب تكاد تكمل دائرتها، لا بل لا يوجد، علي حد علمي، دراسات جادة عن شعراء قصيدة الستينات، لا عن أحدهم بالتخصيص، كممدوح عدوان أو علي كنعان مثلاً، ولا عنهم جميعاً كظاهرة شعرية مميزة، كانت لها تلك السطوة ذات يوم.

أنت شاعر شهواني، لديك أيروسية خاصة، خصوصاً في قصائد لم تظهر للقراء، ما رأيك بالجدل الدائر حول الأدب والجنس مؤخراً؟ ومن هم الشعراء الأيروسيون في العربية الذين نجحوا في هذا المجال؟

في جانب ما أنا كذلك، وفي جوانب أخري كثيرة لست. أما في القصائد التي لم تظهر للقراء، فبعضها يمكن أن تعتبره جنسياً مثل (بولينيزات) إلا أنها تتحدث عن الجنس دون أي نوع من الإثارة، يجب الانتباه لهذا الفرق. وفي النهاية بالتأكيد أنا لست شاعراً أيروسياً، ولم أعمل يوماً لأكون كذلك، وقد كلفني الكثير منع صدور مجموعتي (داكن) بعد طبعها من قبل وزارة الثقافة السورية، بسبب قصيدة (ساقا الشهوة). ولكن بخصوص الجدل الدائر حول الأدب والجنس، فأنا لا أتابع حيثياته، وأظنه، مثل كل القضايا التي تثار عندنا، انتهي إلي لا نهاية، لا شيء تم تحديده.

من هم الشعراء العرب الأيروسيون، حصراً؟ أنا لا أعرفهم. هناك شعراء عرب كتبوا قصائد أيروسية نجحوا ببعضها ولم ينجحوا بأخري، اعتبر أختي مرام من أجرئهم، وهناك عبدو وازن في (حديقة الحواس) الذي منع في لبنان، تصور!؟ وسعدي يوسف أيضاً، وآخرون ليسوا قلة، لست في وارد تعداد أسمائهم.

أليست مفارقة أنك بعد كل هذه السنين كرّست مجموعة كاملة عن الحب؟

لدي جواب واحد علي هذا السؤال: هذا ما أوصلني إليه الشعر!. ليس فقط الارتماء في هكذا مشاعر بل.. آليات كتابتي نفسها!؟ كل شيء لدي هذه الأيام مرتبك لا شيء أبحث عنه أجده في مكانه، وإن وجدت شيئاً من ذلك أجد أنه ليس ما كنت أحتاجه. أدواتي ومواضيعي ومفرداتي كلها في حالة فوضي كاملة، وكذلك مشاعري. من هذا الارتباك والفوضي، جاء عنوان (من الصعب أن أبتكر صيفاً) وكذلك أغلب قصائد المجموعة (سطر علي خوائه يحسد) والقصيدة الأخيرة (معاناة لاهية) التي تتضمن بدورها خمس قصائد منها: أحتفظ بكَ كـ (علبة فارغة تذكرني بما كانت تحتويه)… فأنا رغم كل شيء طرأ علي، ما زلت وفياً لفكرة القصد والمعني الشعري في قصائدي!. لأنه أقول: (في العتمة أستطيع رؤية عظامك) كما عنوان قصيدة أخري في المجموعة.

الشاعر السعيد يقولون عنك. هل هي حقيقة أم إشاعة، خاصة وأنك كتبت مرة: (تعطي العالم دروساً عامة بالسعادة، وتأخذ لنفسك دروساً خاصة بالحزن)؟؟

كتبت هذا في بداية السبعينات، أظن وربما ما زلت أحاول أن أعطي العالم دروساً عامة بالسعادة، أما الدروس الخاصة بالحزن، فقد أبطلتها بعد أن اجتزت بنجاح كل مراحلها منذ زمن. أرجو..

عباس بيضون هو من أطلق علي لقب (الشاعر السعيد)، وكنت دائماً أرد عليه بأنه هو ـ المستوحد والمفؤود ـ أكثر سعادة مني، ولكن هل تصدق أن أياً منا، في الوقت وفي المطرح، يمكن له أن يكون حقاً سعيداً!؟. مجرد سؤال، سؤال من نوع تلك الأسئلة التي لا تحتاج أن يجيب عليها أحد..

هناك سطر لإليوت، يردده صديقي إبراهيم قعدوني: ( الحياة التي أضعناها بالعيش) تري لماذا شعرت أنه يصلح لختام هذه المقابلة!؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى