تساؤل سوري حول الفرحة اللبنانية
د. عبد الباسط سيدا
وأخيراً تنفسّ اللبنانيون الصعداء، بعد ورود أنباء سارّة من الدوحة، أفادت بتوصل الزعامات اللبنانية – التي كانت مجتمعة هناك- إلى اتفاق تصالحي أقرب منه إلى التسوية منه إلى الحل التعاقدي الوطني، القائم على أساس الثقة المتبادلة والإرادة المشتركة. وإذا ما نُفذ هذا الاتفاق على الأرض بحذافيره، وفق البنود والحيثيات المتفق عليها؛ فإنه سيعيد الحياة نسبياً إلى مؤسسات الدولة اللبنانية، من رئاسة الجمهورية وبرلمان وحكومة وغيرها، الأمر الذي سيمكّن اللبنانيين من التقاط الأنفاس بعض الشيء، والاستعداد لترميم قسط من الانهيارات المادية على الأرض، والروحية في دواخل الناس؛ تلك الانهيارات التي سبّبتها حالات الشد والجذب والاصطفاف الطائفي البغيض؛ فضلاً عن الحروب العبثية التي فرضتها القوى الإقليمية على لبنان، لتحصيل مكاسب تخصّها أولاً وأخيراً، ولا تتقاطع من قريب أو من بعيد مع مصالح الشعب اللبناني بكل مكوّناته الوطنية.
وباعتبارنا لا نعيش زمن الأنبياء والمعجزات، يحق لنا جميعاً أن نتساءل من موقع حيادي موضوعي، يبغي معرفة الحقائق الواقعية من أجل التمعّن فيها، والبناء عليها، في قراءة استشفافية تصبو تلمس أبعاد الآتي. والتساؤل المعني هنا يتمحور حول البواعث التي ذللت كل العقبات في لحظة انتشاء صوفية، اختلطت فيها العوالم جميعها، من حالمة وواقعية وسحرية وغيرها، ليكتشف الجميع بحدس عرفاني أن المصلحة الوطنية هي فوق الجميع؛ وأن مقتضيات، بل ومقدسات، العيش المشترك تستوجب الاتفاق والتواصل والتفاعل؛ وتحرّم التنابذ والتباعد والتقاتل. إن اكتشاف أمر مقدس نبيل – ولو متأخراً – بعض الشيء هو انجاز بذاته. كما أن الاتفاق اللبناني الوطني يظل موضع ارتياح كل من عرف لبنان من غير اللبنانيين، وأحب طيبة وأصالة أهله، وسحر جمال الطبيعة فيه؛ فما بالك باللبنانيين أنفسهم من أبناء الوطن المعذّب الذي لم يجدوا الأجمل منه؛ ولم تتوفر لهم الفرصة بعد منذ عقود وعقود للاستمتاع بما منحته الطبيعة لهم، وبالجهود المثابرة التي بذلها الآباء والأجداد في سبيل بناء وطن يحق لهم الاعتزاز به، وطن هو بحق جنة من جنان الله على الأرض.
إن اكتشاف الحتمية اللبنانية التي تقضي بالتعايش المشترك من قبل الجميع هو أمر محمود في ذاته؛ وموضع رغبة واحترام كل أبناء وأصدقاء لبنان؛ إلا أنه مع ذلك يجد المرء نفسه ملزماً بالتساؤل حول المقدمات التي أدت إلى الاكتشاف البدهي؛ في أجواء تصعيدية توتيرية، دفعت بغالبية الناس نحو الهلع من مصير سوداوي، مصير ربما قضى على وطن جميل صغير بمساحته، كبير بريادته الحضارية، بالتفجر من الداخل، وربما التلاشي في معمعان الاستقطابات والصراعات الإقليمية الحادة، العلنية منها والمستورة.
أليس من حق اللبنانيين وغير اللبنانيين أن يستفسروا عن الذي دفع بحزب الله إلى الموافقة -الظاهرية على الأقل- على العودة إلى أحضان الوطن، والتغني بمآثر العيش المشترك، بعد النبرة النارية للاتهامات التخوينية التي وجهها المسؤول الرسمي الأول في حزب الله إلى أقطاب الصف المعارض للتدخل السوري- الإيراني في دقائق التفصيلات اللبنانية؛ هذا بينما كان الواجب يلزم السيد حسن نصر الله بأن يظل بمنأى عن التجاذبات اليومية، ليكون مهيئاً لأداء دور علاجي تواصلي؛ لكنه على النقيض من المطلوب، بدا – خاصة في مؤتمره الصحفي الأخير الذي أعطى بموجبه الأوامر لاجتياح بيروت- مجرد زعيم ميليشيا، يريد فرض إرادته بقوة السلاح على كل من يخالفه الرأي؛ ولعلّ اقتحام عناصر حزبه للمؤسسات الإعلامية الخاصة بتيار المستقبل، وإقدامهم على إرغام العاملين فيها بالمغادرة بعد تسليم المعدات، أو مواجهة التفجير والقتل هو خير مثال في هذا المجال. كل هذه الأمور توحي بمدى ما وصلت إليه الأوضاع من جهة عدم الانسجام ما بين الايديولوجيا والأدوات التنفيذية التي يتبناها حزب الله وطبيعة المجتمع اللبناني، وهي طبيعة ابرز سماتها التعددية، والانفتاحية، والقدرة على التواصل الفاعل مع الآخر المختلف.
هل كان الدافع إلى الاتفاق اللبناني في الدوحة مجرد صحوة ضميرية، ورضوخ لإرادة القطاع الأوسع من الشعب اللبناني الذي أُرهق بما يفوق طاقته بكثير، وقد تم التعبير عن ذلك بوضوح عبر مختلف النشاطات التي قامت بها جملة من فعاليات المجتمع المدني في لبنان؟ أم أن ما تم كان حصيلة تقاطعات إقليمية قضت بتهدئة الأجواء في لبنان، مقابل تسوية إسرائيلية- سورية، تنص على تحجيم حزب الله، إن لم نقل الالتفاف على مشروعه الوظيفي بالكامل؛ مقابل تأكد الزمرة المتحكمة بسورية من البقاء في الحكم؛ وذلك بعد أية اتفاقية سلام سورية-إسرائيلية؟ هذا إذا ما أخذنا بالحسبان ما صرح به الرئيس السوري نفسه في أكثر من مناسبة بأن الجولان سيعود، ولكن المشكلة تكمن في مرحلة ما بعد العودة. فالأسد الثاني يدرك أكثر من غيره أن الذريعة الوحيدة التي كان وما زال نظامه – نظام الزمرة – يلوذ بها كانت هي مسألة معاداة إسرائيل، والتصدي لمشاريعها التوسعية. ولكن ماذا بعد انتفاء هذه الذريعة؟ وما هي الضمانات التي يمكن أن يحصل عليها بخصوص إمكانية عدم حدوث انتفاضة داخلية، ترغمه على التنحي ومواجهة المحاسبة.
ومن أجل بلوغ الضمانات المعنية المطلوبة، عملت زمرة الحكم في سورية على جبهات عدة، خاصة على صعيد جبهة الداخل التي تظل الأساس. فقد لجأت بخبرتها المخابراتية الشمولية إلى تفتيت إرهاصات ربيع دمشق عبر مختلف وسائل الترغيب والترهيب والقمع، مستغلاً في ذلك ضعف المعارضة على مستوى الطرح والممارسة ووحدة الموقف والقاعدة التنظيمية، وإخفاقها في التحرر من المنظومة الفكرية لحزب البعث نفسه، وشعاراته الهلامية غير الواقعية. هذا بالإضافة إلى عجز المعارضة المعنية عن استلهام وتمثّل نزعة التبرم وعدم الرضا الواسعة من قبل القسم الأغلب من الشعب السوري بكل مكوناته.
بالاضافة إلى ما تقدم، لجأت الزمرة المشار إليها ذاتها إلى استخدام كل أوراقها في العراق وفلسطين ولبنان، استعداداً لعقد صفقة جديدة مع الإدارة الأمريكية وإسرائيل تحديداً، تتمكّن بموجبها من الاستمرار في الحكم والتحكم، مقابل أداء الأدوار المنوطة بها، وهذا كله يدخل في باب معادلة ضرورة تعديل السلوك التي اشترطتها الإدارة الأمريكية، كمقدمة لأي تعامل جاد مع الزمرة المعنية.
وانسجاماً مع ما تقدم، يمكننا أن نتأمل ضمن هذا الإطار في أبعاد الزيارة التي قام بها أمير قطر إلى سورية قبل اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة الذي خصص للموضوع اللبناني، بعد هجوم حزب الله على بيروت – ذاك الهجوم الذي ربما كان توريطاً للحزب نفسه، ومقدمة متكاملة مع اغتيال مغنية، للحد من سطوته – كما يمكن في الوقت ذاته أن نربط بين ذلك وطريقة تشكيل اللجنة العربية، وإسناد رئاستها إلى قطر، ثم أخذ سائر القيادات اللبنانية إلى الدوحة، من أجل التباحث والاتفاق. ولعل الأمر اللافت في اللوحة برمتها هو التزامن بين إعلان الاتفاق اللبناني، والاعتراف السوري الصريح بنبأ المفاوضات السورية-الإسرائيلية عبر وساطة تركية. تُرى هل هي المصادفة وحدها التي جمعت بين الخبرين في يوم واحد؟ أم أنها خبرة مخابراتية تعرف كيف تسوّق البضاعة الفاسدة، وكيف تتحكّم بردّات فعل السوريين الذين يعيشون هذه الأيام فاقة لم يشهدوها من قبل. غلاء غير معهود، وبطالة تثير الرعب. والأخطر من هذا وذاك هو عدم وجود أية تباشير مستقبلية تلوح في الأفق من شأنها أن تطمئن النفوس، وتمكنها من تحمّل لا معقولية الواقع المعاش.
لقد فرح السوريون بالوفاق اللبناني واستبشروا خيراً، ومن واجبهم أن يفعلوا ذلك؛ ولكن من حقهم في الوقت عينه أن يطالبوا بتسوية وضعهم هو الآخر، وذلك عبر رفع الغطاء العربي والدولي عن زمرة فاسدة مفسدة، تكتم أنفاسهم، وتتدخل في أبسط دقائق حياتهم منذ عقود طوال آن لها أن تنتهي. الأمر الذي يفرض على النخب السورية الثقافية والسياسية من جميع المكوّنات، إلى جانب الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية، مهمة التحرك الجاد والسريع الفاعل من أجل الاتفاق على برنامج وطني عام، يدعو إلى تحقيق العدالة للجميع على مستوى الأفراد والجماعات، في إطار مشروع وطني متكامل، يوفر للشعب السوري العزيز المغلوب على أمره مقوّمات العيش الكريم؛ ويمكّن سورية من استعادة دورها الحضاري المتميّز الذي من شأنه الإسهام في استقرار المنطقة؛ وتهيئة الأرضية لتحقيق تمازج حضاري منشود بين مختلف شعوبها، وذلك عوضاً عن أن تكون سورية – كما هو الحال راهناً – رمزاً للقمع والمؤامرات والإرهاب الداخلي والإقليمي.
مهمة التغيير الديمقراطي المطلوب في سورية، تبدأ بالسوريين وحدهم؛ فأهل مكة أدرى بشعابها كما يُقال؛ ولن يحك أي كان جلد المرء أفضل منه؛ ولن تتحقق الأهداف الواقعية، خاصة الكبرى منها بالآهات والتحليلات النظرية المعقدة، أو التمنيات؛ وإنما بالأفعال، والأفعال وحدها شرط أن يعرف أصحابها إمكانياتهم ومواقعهم من المعادلات الإقليمية والدولية، ويلتزموا في الوقت ذاته بالبوصلة الوطنية.
كاتب كردي سوري – السويد
أخبار الشرق – 26 أيار/ مايو 2008