تجارب عراقية
امين قمورية
بحكم الجيرة وأشياء اخرى، تأثر العراق الجديد بالايرانيين. ومن فرط هذا التأثر على ما يبدو اعتمد العراقيون الجدد الطريقة الايرانية في “غربلة” المرشحين للانتخابات والتقرير نيابة عن الناخب قبل فتح الصناديق، اذ استبعدت “هيئة المساءلة والعدالة” في العراق اكثر من 500 مرشح لانتخابات آذار المقبل بتهمة الانتماء الى حزب البعث او الترويج له، تماما مثلما يفعل مجلس الخبراء في ايران عندما يقضي على الحظوظ السياسية والانتخابية لمن يعتبرهم اعداء الثورة والنظام ويرمي بهم خارج الحلبة السياسية.
وبما ان النظام الجديد في العراق لا يزال هشا وممسوكا وغير متماسك، على عكس جاره الايراني القوي، فان اجراء “هيئة المساءلة” اثار احتمالين احلاهما مر: الاول، الانذار بموجة عنف مذهبية جديدة ربما تكون اسوأ مما سبقها، بفعل شعور السنّة العرب، وهم مكون رئيسي من مكونات العراق، بأن المستهدف بهذه الاجراءات دور الطائفة كلها في العراق وليس البعث.
اما الثاني، فهو الخوف من عرقلتها الانتخابات وتاليا ارجاء المرحلة الاولى من الانسحابات الاميركية في آب المقبل ومن ثم عودة الامور في البلد الى المربع الاول الذي اعقب الغزو.
وبحكم التركيبة الطائفية ونظام المحاصصة والاعجاب العراقي بالصيغة اللبنانية “الفريدة” و”الموديل” اللبناني للديموقراطية التوافقية، فان الحل المتاح امام العراقيين لهذه المعضلة القانونية والسياسية الحساسة هو “العلاج” على الطريقة اللبنانية بأحد امرين: الاول، الالتفاف على القانون الذي ينبذ البعث بـ”الزعبرة” السياسية، اي بايجاد مخرج يحفظ ماء الوجه القانوني لهيئة المساءلة ويفسح في المجال سياسيا امام اعادة ترشيح بعض الرموز المبعدة التي تشكل حساسية خاصة، كصالح المطلك مثلا، حتى لا يظهر إبعاده وكأنه إبعاد لمكون عراقي. اما الثاني، فهو الاصرار على إبعاد جميع الرموز المبعدة وعدم السماح لها بخوض الانتخابات. وهكذا تكون النتيجة ايضا تكرارا لتجارب لبنانية سابقة جعلت المبعدين والمغيبين قسرا أبطالا في طوائفهم ومجتمعاتهم حتى وإن كانوا مدانين فعلاً، لا سيما وأن المحاسبة تقتصر على فئة دون اخرى وتنظر الى مرتكبين سابقين من لون واحد وتغض النظر عن آلاف الارتكابات من كل الانواع التي تجري كل يوم على مرأى من العراقيين ومسامعهم، وهي الى زيادة وليس الى نقصان مع كل خطوة الى الامام على طريق “الديموقراطية التوافقية”.
وبين الطريقة الايرانية التي تأثروا بها والطريقة اللبنانية التي اعجبوا بها، غابت عن انظار العراقيين طريقة ثالثة متاحة ومجربة، هي التجربة الالمانية بعد الحرب.
واذا كانت المقارنة لا تجوز بين العراق والمانيا لألف سبب وسبب، الا انها تجوز في حال القيادات النازية وحال القيادات التي تسلقت الهرم البعثي، والتفريق بين هذه القيادات والقواعد النازية والبعثية الشعبية التي تتشابه في المانيا والعراق. هناك عقدت محاكمة نورمبرغ التي طاولت رؤوس القادة الهتلريين. وهنا لا تزال اعمدة المشانق ترتفع للقادة الصداميين (حسب التقسيم العراقي الرسمي الجديد للبعثيين السابقين).
لكن بدلا من اقتباس التجربة الالمانية كاملة، انتقى الحكام الجدد في بغداد من هذه التجربة العقاب وحده دون غيره من المستلزمات الضرورية للتخلص من الارث الثقيل الموروث. ففي برلين، حيث خاض الشعب الالماني نفسه الحرب التي دمرت المانيا والعالم، اطلقت الديموقراطية الجديدة يده لإعادة بناء دولته بعد الحرب وجعلها اكثر الدول تقدما. اما في بغداد، وبعد مرور سبع سنوات على الحروب العراقية المدمرة، فلا يزال الشعب العراقي يبحث عن طريق للخلاص لم يجدها وقد لا يجدها ابدا وسط الطائفية السياسية والعنصرية القومية وسهولة الارتماء بالاحضان الاجنبية، تارة باسم الديموقراطية وطورا باسم الدين او المعتقد. وهكذا صار على العراقيين ان يحلموا بالمانيا مقصدا لمنفى طوعي جديد وليس نموذجا يحتذى للحكم والتنمية والتقدم.
النهار