صحيفة ليبراليّة تركيّة تواجه العسكر بمخطط انقلابهم
هوشنك أوسي
في 20/1/2010، استيقظت تركيا على خبر نشرته صحيفة “طرف” التركيّة، يشير، وبالوثائق، إلى مخطط انقلاب عسكري، كان سيقوده القائد السابق للجيش الأول (مقرّه اسطنبول)، الجنرال تشتين دوغان. ويذكر تقرير صحيفة “طرف” بهذا الصدد، إنّ بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا سنة 2002، تمّ وضع ذلك المخطط، سمِّي بـ”باليوز”. ولتهيئة الأرضيّة لذلك الانقلاب، كان يستمّ استهداف جامعين، من أهمّ الجوامع في اسطنبول وتركيا، هما جامع بيازيد، وجامع السلطان أحمد، بالقنابل، وقت صلاة الجمعة. وبعدها، سيتمّ خلق أزمة حادّة مع اليونان، عبر التحرّش بها. حتّى لو اضطر الأمر الى إسقاط طائرة حربيّة تركيّة، في بحر إيجا، واتهام اليونان بذلك. كل هذا، في مسعى إحراج حكومة العدالة والتنمية، وتأزيم الأوضاع الداخليّة، ما يشرعن القيام بانقلاب عسكري. وذكرت “طرف” أن بين يديها 5 آلاف صفحة من الأوراق، وأصوات مسجّلة، وأفلام فيديو على أقراص مدمجة “سي دي”، وصور ومخططات وحرائط أوليّة، بالإضافة إلى لاوئح بأسماء الذين سيتمّ اعتقالهم، والذين سيتعاونون معهم. وبموجوب تلك اللوائح، نشرت “طرف” أسماء 137 كاتب وصحفي، ممن سيكونون على علاقة وطيدة بالانقلابيين، وأسماء 36 كاتب وصحفي، سيعتقلهم الانقلابيون، جلُّهم محسوب على التيار الليبرالي، اليساري الديمقراطي، كأحمد آلتان (رئيس تحرير طرف)، جنكير تشاندار، أورال تشالشلار (صحيفة راديكال)، حسن جمال (صحيفة ملليت)، وكتّاب إسلاميين مقرّبين من أردوغان كفهمي كورو. وفي اليوم التالي، نشرت “طرف” اسماء أعضاء الحكومة التي كان يشكِّلها الانقلابيون، والحقائب المسندة لهم.
ومنذ نشر صحيفة “طرف” لتلك المعلومات والوثائق، انطبل الرأي العام التركي بها، وصارت “طرف” وأخبارها، وجرأتها، محلّ ثناء وتقدير وتبريك، حتّى الصحفيين العاملين في صحف منافسة لها. وصار الحديث عن “طرف”، جزءاً هامّاً، من الحديث عن ذلك الانقلاب. ولم يطرح الرأي العام التركي أسئلة على “طرف”، من قبيل: كيف حصلت على هذه العلومات الخطيرة، عن أفعال المؤسسة العسكريّة، التي لا زالت هي “الصندوق الأسود”، وأسرار الدولة كلّها في عهدته؟!.
نفي وتهديد
وفي ردٍّ حاسم، انطوى على تهديد واضح، صرَّح قائد هيئة الأركان التركيّة الجنرال إلكر باشبوغ يوم 25/1/2010، حيال ما نشرته صحيفة “طرف”، بخصوص مخطط “إنقلاب باليوز (المطرقة الضخمة”، نافياً وجود هذا المخطط، ومعترضاً بشدّة على اتهام الجيش بأنّه كان سيستهدف مساجد، وقال: “الأنباء المغلوطة الخاطئة، تثير الفتن والكوارث. اليوم، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، نحن بحاجة للحقيقة. ذلك الجيش الذي يصرخ؛ الله.. الله، يستحيل أن يستهدف المساجد بالقنابل. حذاري أن تدفعوا بصبرنا الى النفاذ”. وبدلاً من أن يذكر باشبوغ شيئاً حول تلك الوثائق، اكتفى بالإشارة إلى أنها، ربما تكون مخططات لمناورات عسكريّة للجيش، كان سيقوم بها قبل سبع سنوات، وأضاف: “قد تكون تلك الوثائق التي وصلت للصحافة، قد تمّ تحويرها. نحن الآن ندقق فيها ونحللها. وهذا لا يعني قبول صدقيتها”.
ورداً على تصريحات باشبوع، صرّح ضابطان كبيران، كان مجلس الشورى العسكري التركي قد أحالهما على التقاعد المبكّر، صرّحا لجريدة “الوقت” التركيَّة، مفنِّدين أقوال باشبوغ، جملةً وتفصيلاً. حبث قال الضابط مصطفى حاجي مصطفى أوغلو: “لأنني ذكرنا اسم الله، طردونا من الجيش. أنا واثق مائة بالمئة أن مخطط الانقلاب الذي اسمه باليوز، حقيقي. وسبق لي، أن حضرت اجتماعات، جرى الحديث فيها عن هكذا مخططات. الاجتماعات التي من هذه النوعيّة، هي استخباريّة، وفي غاية السريّة. وإذا استمع شخص عاقل لما يدور في هذه الاجتماعات، يظنّ أن هذه الأحاديث تجري في مستشفى الأمراض العقليّة. ينظرون إلى السلطة المدنيّة بعين العداء. ولا يملأ أعينهم إلاّ العصابات المتطرِّفة كآتابيلار”. ويلفت حاجي مصطفى أوغلو إلى أنه، “بدون دعم ومساندة جمعيّة “فكر أتاتورك”، وجمعيّة “الحياة العصريّة” (القوميتين المتطرفتين)، لا يمكن لأحد أن يصبح موظّفاً في الجيش. وأي شخص يوجد في أسرته امرأة محجّبة، لا يمكنه ذلك أيضاً”. أمّا الضابط الآخر، المُقال، ياووز آي، صرّح لنفس الصحيفة بالقول: “ليس فقط أن يأتي المرء على ذكر اسم الله وحسب، بل إذا أطلق أسماء من قبيل سميّة، شيماء على أولاده، سيطرد من الجيش. وإذا كان قائد هيئة الاركان صميميّاً في تصريحاته، فليعتذر أولاً من الضبّاط الذين قام مجلس الشورى العسكري بتسريحهم لأسباب تشبه التي أتيت على ذكرها”.
هذا ليس الفصل الأول، من المكاسرة بين الجيش والحكومة. فهذه الأخيرة، تريد تمرير قانون يقضي برفع يد هيئة الأركان عن شراء صفقات الأسلحة. وهذا ما كان ولا زال حكراً على الجيش، وغير قابل للرقابة والمساءلة. وبتمرير ذلك القانون، فستكون “مناجم الذهب”، قدّ تمّ إغلاقها أمام بشوات المؤسسة العسكريّة التركيّة، وتصبح هذه المناجم، التي تدرّ مليارات الدولارات من عمولات عن تلك الصفقات، برسم حكومة أردوغان. وما كان يذهب لجيوب الجنرالات، سيذهب لجيوب أركان الحكم المدنيين. لكن ثمّة آراء أخرى، مفادها: إنّ ما يجري حاليّاً، خلاف ظاهري، بين العسكر والحكومة، ينطوي على تحالف خفي، غير معلن. وكل ما تناوله الإعلام التركي مؤخّراً حول مخطط الانقلاب، هو لصرف الانظار عن تفاهمات بين الحكومة والمؤسسة العسكريّة، حول قضايا داخليّة عدّة، في مقدِّمها، تراجع أردوغان في انفتاحه على الأكراد وقضيتهم، بالإضافة إلى التغطية على حملات الاعتقالات الواسعة النطاق التي تطال سياسيين وحقوقيين وصحفيين ورؤساء بلديات أكراد جنوب شرق تركيا، يقوم بها الجيش، بإيعاز من الحكومة. بالإضافة إلى إلهاء الرأي العام التركي بأمور، تنسيه مطالبة الحكومة بوعود الدستور المدني، ومحاكمة أرغاناكون، والزيادة الكبيرة في أسعار الوقود، وبعض المواد الاستهلاكيّة، ناهيكم عن إظهار أردوغان على أن “المقدام الجسور” المكافح للفساد في المؤسسة العسكريّة، وكسر شوكة العكسر. وبالعودة لصحيفة “طرف”، التي فتحت على نفسها قوساً كبيراً، وعلامات أستفهام أكبر وأكثر، منها:
ألهذه الدرجة صارت مؤسسة أتاتورك، هشّة، وقابلة للاختراق؟!. وإذا كان ذلك، والأمر متاح لكلّ من ذي جرأة، فهل خلت الصحف التركيّة كلّها، وفي مقدِّمتها الصحف الإسلاميّة (صباح، زمان، يني شفق) من هذه الجرأة؟!. ولماذا “طرف”؟!. كما لم تجب “طرف” على أسئلة، عبر سلسلة تقاريرها، ومقالات رئيس تحريرها، من قبيل: من أبطل مفعول الانقلاب؟! وكيف؟!. ولمصلحة من؟!.
شائعات
إذا كان أداء صحيفة “طرف” مثيراً للإعجاب والتقدير، فبالقدر نفسه، مثير للاسئلة كما أسلفنا، وتحوم حوله الشائعات، ومنها: إنّ هذه الصحفية، هي اليد الخفيّة لأردوغان التي يضرب بها العسكر. وما يعجز أردوغان عن نشره في الصحف المقرّبة منه كـ”صباح”، “زمان”، “يني شفق”، يمررها من تحت الطاولة لـ”طرف”. وشائعة أخرى، إن هذه الصحيفة، هي من ضمن مشروع أميركي يقضي بلبرلة تركيا ونمذجتها في الشرق الاوسط والعالم الإسلامي. وأميركا، هي الداعم والساند الخفي للعدالة والتنمية، وملاحقه الإعلاميّة الإسلاميّة، والليبراليّة، ومنها “طرف”. ويستند أصحاب هذه الشائعة، إلى أن ياسمين تشوتغار، نائب رئيس تحرير “طرف”، كانت مديرة مكتب صحيفة “ملييت” القوميّة التركيّة، في واشنطن، ولعشرين عام. وعليه فأنّ تشونغار، وتحظى بشبكة علاقات واسعة مع صنّاع القرار في أميركا.
أيّاً يكن من أمر، الكثير من التحليلات تشير الى أن تركيا، بأمسّ الحاجة للتغيير الباطني، الجذري، لصيانة وتغزيز التغيير الخارجي، حتّى ولو كان التغيير الداخلي بتأثير ودعم وتفعيل خارجي. ويبقى القول: على “طرف” والحال هذه، الكشف عن أسرار الانقلاب على أربكان سنة 1997، والدور الخارجي فيه، وانقلاب 12 أيلول سنة 1980، والدور الخارجي فيه، إذا كانت أيادي “طرف” تطال هذا القدر من الوثائق والمعلومات الخطيرة، وصفحاتها تمتلك هذا القدر من الجرأة في كشف المستور، من الحياة العسكريّة والسياسيّة التركيّة!.
اسطنبول
ايلاف