صفحات الحوار

المفكر السوري طيب تيزيني [1ـ2]: التغيرات العالمية جعلتني أعيد النظر في مشروعي عن التراث والثورة!

null
أجرت الحوار: فاطمة عطفة
يمتاز الدكتور الطيب تيزيني بأنه صاحب مشروع فكري تنويري على مستوى الأمة، إضافة إلى كونه أستاذا مخضرما في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة دمشق. مفكر ينفرد عن غيره من أعلام الفكر العربي المعاصر بأنه يمتلك الشجاعة لمراجعة أفكاره كلما رأى أن المتغيرات المعاصرة قد تجاوزت الأطروحات السابقة، فهو يتجدد دائما دون أن يفقد جذوره المعرفية الأصيلة. إنه أحد الموسوعيين بين كبار المثقفين والمفكرين العرب، رغم تواضعه الآسر، وهو يذكرنا بمقولة غاندي عن بيته المفتوح لجميع الرياح، ولكنه لا يسمح لأي ريح باقتلاعه. قراؤه وطلابه وأصدقاؤه يعرفونه بمشروعه الأول ‘من التراث إلى الثورة’ الذي اشتغل عليه ما يزيد عن ثلاثين سنة. لكننا سنرى في هذا الحوار أنه يعيد النظر فيه بعد أن أخذت أخطار العولمة تمسح ثقافتنا وتجتاح كل بيت.
وأمام العديد من الأسئلة التي تفرضها المتغيرات ويطرحها الواقع العربي المتردي، فضلا عن الهجوم الأميركي المتوحش، كان لا بد من لقاء هذا المفكر العربي الجليل الذي استقبلنا في بيته بدمشق وتفضل وخصنا بالحديث في أهم هواجـس المرحلة وقضاياها:
كان لك مشروع فكري من ‘التراث إلى الثورة’، إلى أين وصل هذا المشروع؟
هذا السؤال يأتي تماما في حينه، أنا الآن في معرض إعادة النظر في ما كتبته، على امتداد ثلاثين عاما، والأمر يتصل هنا في التحولات التي أخذت تجتاح العالم، بدءاً من تساقط الاتحاد السوفييتي، وثورتي المعلومات والاتصالات، ونتائج حرب الخليج الثانية، ومن ثم مع العصر الجديد الذي سيطلق عليه عصر النظام العالمي الجديد. تحول من هذا النمط الكبير لا يصح أن يمر هكذا دون أن يترك بصمات عظمى لكل من أنجز كتاباً أو بحثاً، بحيث ان ما أنجز سابقاً لا بد أن يقرأ من جديد ويعاد النظر فيه. فأنا أشتغل على هذه المسألة، وبالتالي فالمشروع الذي بدأته في بداية السبعينات بكتاب من ‘التراث إلى الثورة’ أجد نفسي مدعواً إلى أن أعيد النظر فيه، بدءا بعنوان الكتاب، نظراً إلى أن سمات المرحلة المعاصرة، العالمية والعربية، أخذت تجد اختراقات كبرى. إننا لم نعد مخولين بالتحدث عن مرحلة ما قبل النظام العالمي الجديد، وكأنها مرحلة أسست لما بعدها، وكأن المرحلة التالية ليست أكثر من امتداد لسابقتها. إننا نعيش الآن مرحلة جديدة. أدركت في البداية ضرورة إعادة النظر في ما كتبناه، وإعادة النظر أيضا بالأدوات المعرفية والمفاهيمية التي انطلقنا منها من قبل. التغير بدأ بتغيير العنوان كما قلت، فالكتاب الذي بدأت به مشروعي هذا وهو من ‘التراث إلى الثورة’، أسعى الآن إلى إخراجه مجدداً بصيغة جديدة هي من ‘التراث إلى النهضة’، فمن الثورة إلى النهضة هي مرحلة جديدة. لا يكفي أبداً أن نضع اليد على هذا التحول الذي واجهنا بقوة، ولكن من الضروري أن نقوم بأعمال واسعة كبيرة على الصعيد الأكاديمي المعرفي كما على الصعيد الإيديولوجي والسياسي. لماذا؟ كي نؤسس لفهم هذا الذي أخذ يطرح نفسه في إطار النظام العالمي الجديد. لقد لاحظت أن قضية الثورة، وبالتالي مشروع الثورة الذي هيمن في الفكر العربي السياسي عقوداً مديدة حتى تساقط الاتحاد السوفيتي.. وجدت أن هذا المشروع لم يعد محتملاً الآن، نظرا إلى أن النظام العالمي الجديد أتى بزعم أنه سيهيمن على العالم تحت قبضة واحدة هي قبضة السوق الكونية السلعية. ومن ثم توصلت إلى أن أي إصلاح أو تغيير في العالم العربي، أو ربما في العوالم غير الأوروبية، أي عمل من هذا القبيل لم يعد محتملا إلا بحدود تحافظ على نمط العلاقات الاجتماعية الاقتصادية، وتعيد النظر فيها إصلاحاً وتعميقاً وتحديثاً. بتعبير آخر: إن مشروعا للثورة لم يعد الآن محتملاً ضمن الشروط الجديدة التي تهيمن في العالم كما في العالم العربي، إنما هناك شروط جديدة ربما تسمح بمشروع نهضوي تنويري قابل للتحقيق بقدر أو بآخر. لماذا؟ في الحقيقة اضطررت الى الرجوع إلى حيثيات ومرجعيات كثيرة من الاقتصاد إلى السياسة إلى التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إضافة إلى التاريخ العام، كي أجيب عن سؤال وجدته أمامي وهو: أما زال مشروع الثورة محتملاً في العالم العربي أم أن هناك احتمالاً آخر بدأ يطرح نفسه؟ لقد وضعت يدي على فكرة حاسمة هي أن أي عمل تغييري إصلاحي في العالم العربي لم يعد قادراً على أن يضع استراتيجية له تؤسس لإعادة النظر في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، إنما أن تعمل على إعادة بناء هذا الذي يوجد راهناً عبر مفاهيم قديمة ولكنها تكتب أبعاداً جديدة، في مقدمتها مفهوم الإصلاح الوطني الديمقراطي والتحديثي، ومن ثم وصلت إلى المفهوم الذي أراه حاسما الآن بوصفه بديلاً عن مفهوم الثورة، وهو مفهوم ‘النهضة والتنوير’. إن مفهوم النهضة والتنوير، يختلف اختلافا حاسماً عن مفهوم الثورة، انطلاقا من ثلاثة حوامل: الحامل الاجتماعي، والحامل السياسي، والحامل الثقافي.
فبدلاً من القول إن حامل الثورة الاجتماعي يتأسس على الوجود الطبقي في المجتمع العربي، وعلى التحالفات الطبقية، بحيث ان هذا الحامل يكون هو الذي يقود عملية التغيير الثوري.. أقول: بدل ذلك، وضعت يدي على أن الحامل الاجتماعي الجديد يتأسس على كل الأطياف الاجتماعية العربية من أقصى اليمين الوطني والقومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي. أنا أشدد هنا في كلتا الحالتين على الوطني الديمقراطي. إن الحامل الاجتماعي يمثل الآن الرهان الجديد على إحداث تحول عميق يفضي إلى مشروع للنهضة والتنوير. فإذا كان الأمر كذلك على صعيد الحامل الاجتماعي، أي أن الأمة كلها ما عدا من يخرج عن الطوق ويرفض ذلك رفضاً إيديولوجياً وسياسياً ومعرفياً، أقول إن هذا كله يمثل القوة التاريخية الحيوية التي يمكن أن تكون وطنية وقومية وديمقراطية، ولكنها متأصلة في نزعات دللت على كونها أصولية الاتجاه، بالمعنى الإسلامي أو المسيحي أو غيره. أقول حتى هذه القوى لا بد من إعادة بنائها وفق استحقاقات المشروع الجديد، لأنه مشروع نهضة أمة برمتها، وليس مشروع ثورة تقوم بها مجموعات تقدمية كما كان الأمر مطروحاً، تقدمية بالمعنى الاشتراكي التاريخي.
أما الحامل الثاني فهو الحامل السياسي. وهنا نواجه إشكالية تتمثل في الإجابة عن السؤال التالي: من يقود هذه العملية، هذا المشروع النهضوي، سياسياً؟ هنا أجدني مدعواً إلى التأكيد على أن هذا الحامل السياسي هو كذلك تلك القوى المنبثقة عن الحامل الاجتماعي، أي الممتدة من أقصى اليمين الوطني والقومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي، بما في ذلك القوى الإسلامية، بعد أن تكون قد أدركت أن هناك حالة جديدة وامتلكت بمقتضى ذلك وعياً تاريخياً يفضي بها إلى القول إن هذه الحالة يجب أن تندمج فيها، وهي الاندراج في مشروع نهضة جديدة للأمة برمتها، ونحن قد لاحظنا وجود مثل هذه القوى. هناك قوى إسلامية أخذت تطرح أفكارا جديدة، لكن النظم العربية، النظم الأمنية حتى الآن ترفض ذلك بدعوى أن الإسلاميين أصوليون، وهذه كلمة زائفة لأنهم لم يدركوا التحولات البنيوية التي أخذت تطرأ على القوى الإسلامية، هذه التحولات التي يمكن إذا ما حُميت ورُعيت بشكل دقيق من القوى الأخرى عبر حوار ديمقراطي وطني وقومي، يمكن أن يعاد النظر فيها وتؤسس لمفهوم الحامل السياسي. من هنا الحامل السياسي، مشروع النهضة والتنوير، هو مشروع الأمة كلها بقواها السياسية المنظمة وغير المنظمة، أي المجتمع السياسي والأحزاب بكل أنماطها، أعني تلك الأنماط التي تدرك أن مصير الأمة ينطلق الآن من هذا المشروع القادر بحالات كثيرة على مواجهة ما يحدث من تحديات.
أما الحامل الثالث، وهو الثقافي، فهو يقوم على التعددية الثقافية الموجودة أساساً في الفكر العربي. الفكر العربي ليس نسقاً واحداً، إنما هو حالة تقوم على تعددية ثقافية وإيديولوجية وسيكولوجية متعددة، وبالتالي فإن من مهمات النهضويين التنويريين العرب الآن، المنطلقين من الحاملين الاجتماعي والسياسي المذكورين، من مهماتهم أن يبدؤوا بحوار شامل معمق على صعيد الثقافة بحيث إننا ننجز مهمة تتمثل في إيجاد ثقافة جديدة هي ثقافة النهضة والتنوير، لا الثقافة الاشتراكية، ولا الإسلامية، ولا القومية، لا أقول بأي واحدة على انفراد. أقول بحالة جديدة تأتي نتيجة لهذا الحوار الذي أدعو إليه. إنه حوار شمولي ويتأسس على وجود كل القوى الثقافية التي أدركت أمرين اثنين: أولا، الضرورة القصوى للإقرار بالتعددية السياسية، والإقرار بالضرورة القصوى للتعددية الثقافية، وبهذا المعنى نجد أن هذه التعددية رغم الأطياف الكثيرة التي تصنعها، هناك إطار عام يجمعها، هو إطار الثقافة النهضوية التنويرية.
هذه الحوامل الثلاثة تجعلني الآن أعيد النظر في معظم ما أنجزته من كتابات على مدى ثلاثين عاماً، وبالتالي فأنا الآن في طور الفعل الأول، وهو إعادة النظر في كتاب من ‘التراث إلى الثورة’ بعنوان آخر من ‘التراث إلى النهضة’.
في غياب المشروع الفكري المستنير وعلى مستوى الأمة، ما هي أولويات هذا المشروع؟
ذكرت في حديثي إجابة على السؤال السابق، أن هناك مشروعاً ناظماً عاماً، أسعى إلى الانطلاق منه وتحديداً الحيثيات الأخرى الكثيرة التي أعرفها، والتي لا أعرفها بعد، أي التي علي أن أكتشفها وبالتالي فإن الأولوية في هذه الحال أظن لا يمكن أن نكتشفها أو نستنبطها، من البناء الفكري الذهني الذي أنجزته كتابة، وإنما كذلك من واقع الحال المشخص في العالم العربي. واقع الحال المشخص هذا، إضافة إلى الموقف الفكري الذي أسسوا له، وهو جديد كما أشرت، يشير إلى أن المنطلق الحاسم يكمن في أمرين اثنين: الأمر الأول الدعوة إلى حوار عقلاني ديمقراطي.
وبالمناسبة طرحت على وزير الثقافة هنا في سورية في اليوم الأول الذي استلم فيه عمله، وبالمصادفة كنت هناك أقدم كتاباً للنشر، طرحت عليه فكرة، هي أن يدعو هو كوزير للثقافة إلى مؤتمر ثقافي لعموم المثقفين السوريين وفق الحامل الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي أشرت إليه قبل قليل. قلت له، وهو الصديق د. رياض نعسان آغا، إن الذي سيدعى ينطلق من كل تلك القوى الحية الفاعلة في العالم العربي والتي تنطلق من أقصى اليمين الوطني القومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني الديمقراطي، أي الجميع، وليس مؤتمرا للنخبة، كما كنا ندعوها، وربما كان في ذلك الحين أمراً محقاً. لكن الآن هذه القوى، أعني القوى التقدمية، لم تعد مهيأة لأن تفعل وحدها. الآن المشروع النهضوي التنويري العربي الجديد الذي أدعو إليه لا بد أن يتأسس على جهود كل من يسعى إلى إيجاد هذه الحالة، رغم الاختلافات الإيديولوجية، التي لا يجوز أن نغيبها، بل أن نظهرها تماما كي نكتشف مَنْ وراءها ومَنْ يمكن أن ينطلق منها. إذاً، نعلم تماماً أن هذا وذاك وذلك لهم مواقع إيديولوجية ولكنهم جمعاً يشتركون في رؤية مستقبلية أولية جديدة، هي التأسيس للمشروع النهضوي التنويري. من هذا الموقع طرحت عليه هذه الفكرة، فكرة الحوار الشمولي، على أساس يأخذ بعين الاعتبار كل من مارس التنسيق الثقافي أو الكتابة أو التنهيج، أو مارس عملا ما يدخل في حقل الثقافة. طبعاً حتى تحديد هذه الأطياف التي يمكن أن تدعى، كما قلت له، يمكن أن يدرس من خلال لجنة تؤسس لمثل هذا الحوار، يعني من هو الذي سيدعى إلى هذا الحوار الذي يتم بين المثقفين ثم ينطلق باتجاه البلد كله، وكان حديثي على سورية. حوار شمولي في العمق على المستوى الثقافي السوري.
الخطوة الثانية تكمن في الدعوة إلى إعادة النظر بالبنية السياسية في سورية، انطلاقاً من أن العمل الثقافي لا شك هام جدا، ولكنه سوف يبقى هزيلاً وغير فاعل إن اقتصر على ثقافيته، أي إن لم يرق إلى مستوى التأسيس السياسي، والتأسيس السياسي يعني هنا البدء باستعادة المجتمع السياسي، باستعادة السياسة التي أخرجت من المجتمع السوري، والمجتمع العربي عموماً، إعادة هذه السياسة، والمجتمع السياسي، والأحزاب السياسية، وكان كلامي واضحاً، وقد تمثل في الدعوة إلى النظر في المادة رقم (ستة أو ثمانية) أظن تلك التي تنظم العلاقة بين الحزب الحاكم والمجتمع والسلطة. وقد كتبت مقالة بعنوان: (سحبوا السياسة وأدخلوا الكرة). المجتمع العربي الآن كي يستعيد وهجه وفاعليته يحتاج العمل السياسي، لأول مرة نكتشف نحن العرب في العالم العربي الأهمية التأسيسية الكبرى للفعل السياسي. ولعلي أشير هنا إلى خطأ خطير حدث في تاريخنا القريب، حين بدأ التأسيس للوحدة بين سورية ومصر، وكان البدء بأن اتفق على إلغاء الأحزاب والمجتمع السياسي في سورية ومصر، واتضح
لاحقاً وقريباً، ليس بفترة طويلة، اتضح أن هذا الذي منع كان هو الذي عليه أن يحمي الوحدة السورية المصرية، لذلك تصدعت لأنها لم تعد تجد من يحميها ويؤسس لها. إن السياسة هي الفعل الهائل الذي ينتج تحولات كبرى، وهذا يمكن تعميمه من الفكر الأرسطي إلى الفكر الماركسي، وحتى إلى الفكر الراهن الذي يقول إن العمل الاجتماعي هو بأساسه عمل سياسي، يقوم على الحراك القائم على التعددية. فالأولوية بهذا المعنى، إذاً، تكمن في هذه العملية السياسية، كما في الحوار الفكري العقلاني الديمقراطي على مستوى القوى المثقفة التي عليها أن تعمم الحوار في أوساط المجموعات والوحدات والطبقات الاجتماعية. أنا أرى إذاً إجابة على السؤال المطروح، أن الأولوية تكمن في هذه الثنائية، دون أن أقول هذا قبل ذاك أو ذاك قبل هذا، إن الأمر يتصل بمعطيات الواقع الذي تملي على الباحث وعلى السياسي، من أين يبدأ من السياسي أم من الفكري، أم من كليهما. لا يمكن البدء بواحد منهما دون الرؤية باتجاه الآخر، فهنا رؤية جدلية للسياسي والفكري، هذه لا يمكن أن تكون فكرة أولية حول أولويات، والعمل في إطار مشروع النهضة والتنوير العربي.
كنت صاحب فكرة أو مقولة الدولة الأمنية. طرح هذه الفكرة كان صدمة أو مفاجأة للمؤسسات الحاكمة، كيف استطعت أن تخرج من ردة الفعل تلك وما الثمن الذي دفعته؟
الحديث أو الكلام على الدولة الأمنية هو حديث ذو شجون يبدأ مع بداية الكتابات التي أخذت أقدمها للقارئ السوري والعربي قبل نهاية القرن الماضي بأكثر من عشرين سنة، حين أخذت ألاحظ حالة جديدة في بعض البلدان العربية، وتتأسس على الرهانات التي كان الحديث يدور عليها، في تلك البلدان. الرهانات مستقبلية، وقد بدأت تتضاءل. كان الحديث يجري على رهان أن ينشأ شيء جديد من عملية التصدع الجديدة، عملية التصدع التي أنجبت مجتمعاً قائما على طرفين اثنين لا ثالث لهما، أعني بعد تصدع الفئات الوسطى. هذه الفئات كما هو معلوم في العلوم السياسية والاجتماعية، هي فئات مستنيرة عقلياً، ومن الناحية الاقتصادية المادية هي مرتاحة، وبالتالي كانت هي المهيأة لإنتاج الثقافة والسياسة، كما كانت الرابط الذي يجمع بين الفئات والطبقات الأخرى الموجودة في المجتمع السوري، والمجتمعات العربية عموماً، وبهذا المعنى كان النظر إلى الفئات الوسطى على أنها الفئات التي تنتج الحيوية في المجتمع العلماني عبر حراكها السياسي والثقافي، ونشرها وتعميمها في إطار المجتمع كله.
ولكن تساقط هذه الفئات الوسطى وبروز المجتمع العربي الجديد بطبقتين اثنتين تقريباً لا ثالث بينهما، أخذ يطرح سؤالاً كبيراً علي وهو: هل هذا الأمر سيكون بمثابة حالة تاريخية جديدة قد تؤسس لرهان تاريخي من نمط الثورة؟.. الثورة التي تقوم عادة في الأدبيات الثورية الفكرية، الثورة التي تقوم على أن هناك طبقات تملك، وأخرى لا تملك، الطبقات التي لا تملك وتعمل هي المهيأة لهذا المشروع الثوري. هذه الفكرة طرأت على ذهني في بدايات الأمر، يعني في السبعينات في مرحلة بروز النفط السياسي الذي تحول شيئاً فشيئاً إلى قوة تدمير وإذلال للعرب من قبل من اكتشف النفط، أي الغرب الإمبريالي. لهذه الحالة كان هنالك سؤال مشروع، وهو ماذا بعد؟ إلى أين يفضي هذا التحول الذي أنتج تقاطبا اجتماعياً طبقياً؟ هل سينشأ مشروع ثوري تقوده الطبقات المحرومة والآخذة بالحرمان والتهميش، ضمن عملية التآكل الاجتماعي؟ وضمن بروز مجتمع الاستهلاك الذي تعاظم عميقا وسطحياً؟ اتضح لي، شيئاً فشيئا، أن هذا الأمر لن يعود إلى الثورة لاعتبار داخلي تمثل في أن هذه البنية الداخلية العربية بدأت تخترق، من عوامل كثيرة تحول دون إنجاز مشروع للثورة، وبسبب خارجي يتمثل في أن الغرب الإمبريالي لا يسمح بنشوء مثل هذه الثورة في مجتمع غير قادر على التحديث، ولأن هناك قوىً خفية تعمل باتجاه (خربطة) الخريطة الاجتماعية والطبقية والفئوية والطائفية في المجتمع العربي. وبدأت أكتشف شيئاً فشيئاً أنها هي المشروع المطلوب، المشروع الذي عليه أن يؤسس لحالة تلغي من الحساب التاريخي نشأة أي مشروع وطني وديمقراطي، سواء أكان ثورياً أم نهضوياً. وعلى هذا الأساس بدأت ألاحظ أن اتجاهات جديدة راحت تفرض نفسها في المجتمع، تتمثل في بعض العناصر التالية: أولاً تحول الجيش العربي من جيش وطني للدفاع الوطني.. إلى جيش استهلاكي فقد وظيفته العسكرية. وهنا استعنت ببعض الكتابات في أدبيات فرنسية من مثل الكتاب الذي صدر عن مركز البحوث في الدراسات العسكرية في باريس بعنوان: (الجيوش غير العسكرية في العالم الثالث). تصوري هذا العنوان الطريف الذي يدعو إلى التساؤل: هل هناك جيوش غير عسكرية؟ هل هناك دائرة مربعة؟! وجدت أن المشروع في هذا العالم الثالث، ومنه في الوطن العربي، يؤسس له جيش غير عسكري! كيف راح هذا الجيش يأخذ غمار المجتمع ويطرد القوى السياسية ويحيلها إلى هوامش ليحل مكانها؟ وبالتالي أراد أن يقوم بوظائف الأحزاب والقوى السياسية المجتمعية، فأخفق في وقت خسر فيه كذلك موقعه السابق، خسر الموقع العسكري وأخفق في الإجابة عن المسائل الاجتماعية الجديدة.
وبدأت المجتمعات العربية تعيش هذه الحالة المضطربة: مجتمع عسكري لا ينتج عسكرياً ولا مدنياً. فهذا الخليط تبين لي أنه مطلوب كي يقف في وجه رهانات جديدة تحيل المجتمع العربي إلى حالة من التقدم. وهذا ما أشرت إليه بعد أن اتضح أن المجتمع العربي راح يعيش حالة من التناقض والتضاد بين المنتجين والمستهلكين. الحال الطبيعي أن ينتج ثورة. لكن ما حدث أخذ ينتج مجتمعاً مضطرباً. العسكر يهيمنون فيه دون أن يقوموا بوظائفهم العسكرية، ودون أن يجيبوا عن المسائل المجتمعية، بعد أن أخرجوا المجتمع السياسي والأحزاب السياسية منه. هذا الأمر راح يشتغل على مسائل أخرى. في طليعة هذه المسائل أن القوى الحاكمة في العالم العربي، أو النظم الأمنية، أخذت تدرك أن الجيوش ليست دائمة، الجيوش يمكن أن تندغم في المجتمع فتفقد هويتها العسكرية وتصبح قوى مجتمعية متخلفة ليس لها موقع لا هنا ولا هناك، فبدأت تبحث عن رهان آخر. الرهان الآخر الذي وضعت يدها عليه النظام الأمني، أي أن يحول المجتمع العربي برمته إلى نظام أمني. شعار هذا النظام سيبدأ بأن يطرح نفسه. وهذا كلفني كثيراً من البحث السوسيولوجي العلمي والسياسي، هذا الشعار وضعت يدي عليه وكان التالي: (يجب أن يفسد من لم يفسد بعد) بحيث يصبح الجميع ملوثاً ومداناً تحت الطلب.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى