ما يحدث في لبنان

رئيس الجمهورية تحت الامتحان السلوكي الشخصي والسياسي

null


جهاد الزين

ربما يحتاج العماد ميشال سليمان إلى نسبة عالية من “خفض التوقعات” حول شخصه وموقعه السياسي كرئيس جديد للجمهورية.

أكاد أقول انه “يستحق” هذا “الخفض في التوقعات” حيال ما يستطيع ان ينجزه كرئيس للجمهورية في نظر الاوساط الشعبية والاعلامية. كلمة “يستحق” هي هنا بالمعنى الايجابي، اي الفرصة الواقعية لا المبالغ فيها.

لماذا؟

1 – على المستوى الشخصي، ميشال سليمان الرجل لا نعرفه بمعنى انه غير معروف كثيرا داخل لبنان. فالضابط الذي اختاره “العالم” ليس معروفا الا بشكل ضيق في بلده، مع انه لم يحصل سابقا ان تم هذا التوافق العربي والدولي الواسع والمعلن على اسم رئيس للجمهورية اللبنانية مثلما قُدر للعماد سليمان… انها حالة قياسية غير مألوفة حتى في دولة مثل لبنان جرى اختيار معظم رؤسائها بتوافق ولكن ضمني بين القوتين العربية والغربية الاساسيتين في كل مرحلة ما بعد 1943، اي ما بعد “الاستقلال“.

لا اقصد ان الاسم غير مشهور كقائد للجيش منذ العام 1998. ولكن اقصد انه – للتكرار – غير معروف في سلوكه الشخصي سوى في العموميات، كضابط وسيم دقيق الانضباط في عمله واعطى الانطباع عن امكانيته على السلوك الواقعي في قيادة الجيش بين قوى محلية وخارجية اصطدمت سياسيا منذ خريف عام 2005 مع انتهاء تأثير الدور السوري كمرجعية مفوضة لادارة الحياة السياسية اللبنانية.

الرجل – الرئيس تحت الامتحان. وما زال في البداية. هذا يجب ان يقال له بسرعة وبصراحة. سنتعرف إليه من الآن وصاعدا كيف سيتصرف كشخص، لا في العام فقط ولكن ايضا في الخاص الذي يرتبط بالعام. ومع ان الرجل في ما ظهر منه حتى الآن يبدو واعدا، سواء في دقة خطابه الرئاسي، حمّال الاوجه، او في بعض القليل الذي سمعناه منه. لكن هذا لا شيء قياسا بالمدة الزمنية التي تنتظره وتنتظرنا. فأسئلة “المراقب” تتعلق بدءا من اليوم بعائلته واصدقائه والمحسوبين عليه وقماشاتهم الشخصية كما سلوكياتهم في الشأن العام، بما فيه نوع “المصالح” التي ستنشأ وحدودها. خصوصا ان الرئيس سليمان يعرف ان البلد تحت سيطرة طبقة سياسية سيئة السمعة في الفساد والزبائنية، ناهيك بادارتها للحياة السياسية المفتتة و”غير الدولتية” (مع الاعتذار عن التعميم الذي قد يظلم بعض السياسيين).

فخامة الرئيس، اذ نتمنى لك كل النجاح المشروع، نقول لك انه لم يعد لدى هذا الجيل من اللبنانيين اي وقت للتعرض الى “بلفة” جديدة في الحياة العامة. كفانا ما مرّ علينا. لهذا من الافضل “خفض التوقعات”… من البداية.

2 – هنا نصل الى الشق المتعلق بموقعه السياسي وقدراته. اللبنانيون يعيشون منذ حوالى السنتين على شفير حرب اهلية، ودخلوا في بيروت الغربية وبعض المناطق المسلمة في اشتباك اهلي جدي لمدة اسبوع، لا تزال احتقاناته كبيرة، إن لم تكن متزايدة. هذه التجربة كشفت، ولربما الأدق القول ظهّرت المعطيات المهمة التالية:

اصبح الهاجس الرئيسي، بل المهمة الرئيسية للحياة السياسية اللبنانية هي تأمين السلم الاهلي وليس اصلاح النظام السياسي. فلقد تراجعت الهموم الاصلية، حتى بصيغتها “الساذجة” في اوساط شعبية هي نفسها محتقنة طائفيا وتحت السيطرة شبه الكاملة لقوى طائفية شديدة التنظيم داخل الطوائف السنية – الشيعية – الدرزية. حتى النخب الثقافية والاجتماعية اليوم تبدي اهتماما بالسلم الاهلي في حين لم تعد لدى معظمها عمليا اية اوهام حول الاصلاح السياسي… وفي لحظة يبلغ فيها النظام الطائفي اللبناني ذروتيه معا:

ذروة اقتسامه – بالتالي انغلاقه – بين قوى “الحزب – الطائفة“.

ذروة عمالته للخارج مع انتقاله بعد العام 1990، ولا سيما في معظم العقد المنصرم من العمالة الكلاسيكية للخارج الى العمالة الجديدة او “النيو عمالة” المتمثلة بوجود حزبين مسيطرين على الطائفتين الاكبر عددا في البلد وينتمي كل منهما بشكل كامل الى بنية نظام اقليمي كبير في المنطقة هما السعودية وايران.

صحيح ان العماد سليمان وصل الى رئاسة الجمهورية في “لحظة ايجابية للعمالة” التي جسدتها الطبقة السياسية بعد احداث بيروت الاخيرة، اي ارغام القوى الاقليمية للقوى اللبنانية على انجاز “اتفاق الدوحة”… غير ان هذا “الاتفاق”، وإن كان كرّس رئيس الجمهورية (المسيحي) كمحور وحيد لادارة “الحوار الوطني”… الا انه في الوقت نفسه جعله “شرطي سير” بين القوى المحلية والاقليمية والدولية… دون كبير قدرة – حتى اللحظة بل حتى اشعار آخر – على المبادرة “الجوهرية”. في المقابل، كان المكسب المسيحي، بالمعايير الطائفية، في قانون الانتخاب. لكنه مكسب سياسي لا رئاسي اذا جاز التعبير.

بهذا المعنى فان التدقيق في آليات التوازنات الاساسية داخل النظام السياسي يدفع الى الاستنتاج ان “صلاحيات” رئيس الجمهورية غير المكتوبة في “الطائف” قد اصبحت اضعف في “اتفاق الدوحة”… اقله حتى الانتخابات النيابية المقبلة بعد حوالى العام. فـ”اتفاق الدوحة” بحصره وزراء رئيس الجمهورية بثلاثة فقط جعله محدود التأثير العددي داخل مجلس الوزراء لصالح القوى السياسية الرئيسية التي ينتمي اليها رئيسا المجلس النيابي والحكومة وتسعة اعشار الوزراء (3 من 30).

هذا الوضع قد يفتح المجال في حال صعود حزب مسيطر في البيئة المسيحية على العدد الاكبر من المقاعد في الانتخابات المقبلة لقيام وضع جديد تكون فيه السيطرة في مجلس الوزراء لـ”الزعيم المسيحي”، في حين يتحول رئيس الجمهورية عمليا الى مجرد حَكَم بين قوى النظام الطائفي. على اي حال هذه توقعات سابقة لاوانها وقد يحدث عكسها اي مزيد من التنوع السياسي في البيئة المسيحية مقابل – على الارجح – المزيد من “المركزة الحزبية” في البيئات المسلمة.

من هنا يجب “خفض التوقعات” حول دور رئيس الجمهورية الجديد، اذا كان مشروعه هو تقوية وضعه داخل الطبقة السياسية. ايا تكن استهدافات هذا المشروع المعلنة… نبيلة!

لكن اذا كان رئيس الجمهورية باحثا عن آليات تفعيل دوره، فهل سيكون غير واقعي دعوته الى انتهاج مشروع يمكن ان نسميه:

التهميش الذاتي” داخل شبكة مصالح الطبقة السياسية مقابل امتلاك حرية الضغط المدروس عليها من خارجها في المسائل المتعلقة بادارة الدولة. وهو ضغط يمكن ان يُمارس بالابتعاد عن سياسة التزاحم على التعيينات والنفوذ مقابل استخدام وسائل الضغط المعنوي بالامتناع عن التوقيع على المحاصصات الفضائحية في التعيينات الادارية، والسياسة الاقتصادية، وبالتوجه المباشر الى الرأي العام: “الهامشية” هنا قد تتحول الى قوة جارفة اذا امتلكت الدقة السياسية والشجاعة.

هل من الواقعي ان نطالب ميشال سليمان الشخص بهذا الدور؟ هل هو مهيأ له أصلاً اذا ظهرت درجة من الارتباط الوثيق بينه وبين وجوه تقليدية في السياسة اللبنانية؟

في هذا النظام الطائفي، لم تعد ممكنة ولادة “الشهابية” من موقع رئاسة الجمهورية. فهذا النظام الطائفي في ذروة طائفيته، والعميل في ذروة عمالته، هو الآن في ذروة “انغلاقه“.

••

علينا ان نذكّر الرئيس سليمان، ان اهم واخطر ما فعله “رمزيا” الرئيس فؤاد شهاب لم يكن سنوات حكمه على اهمية المحاولة المؤسساتية… ولا عدم تجديده عام 1964… وانما بيان رفض ترشيحه عام 1970… بيان اليأس من النظام السياسي القائم، وطبقته السياسية.

يجب ان يُعلّق هذا البيان في مكتبك الخاص (لا الرسمي). انه اهم بيان في تاريخ الجمهورية منذ 1920.

ونحن نضعك تحت الامتحان

انطلاقا من “خفض التوقعات“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى