رفعت أسد وحماه …من المقابر إلى المعابر!.
د.نصر حسن
من يدري ؟! أن تلك الناعورة التي تغني موسيقى التاريخ على ضفاف العاصي ,و تصدح نغماً شجياً في عرس الحضارة ورحلة الحياة ! ستكون يوماً شاهداً على همجية طاغية , وعلى أحداث مروعة لمستمعيها وجيرانها وأحبابها الأطفال والنساء والشيوخ ,ومن يدري أن يخرس لحنها جاهل ,
ويفقأ عيونها ويحطم أملها وحلمها جلاد ؟! ويطغى القلق الغامض الذي دب في النفوس في غفلة , عندما كان (محمد) وزملاء دراسته يرددون نشيد بلادي على بعد أمتار من ناعورة ” المحمدية ” حيث مدرستهم التي تقع على العاصي , ويفصل بينهما سياج وسفح مليء بالورود , كان (محمد) يهمس في إذن شريكه في ” الرحلاية ” في حصة “الثقافة القومية” وبتوجس من مدرسها “الطلائعي ” , إنني خارج الدرس تماماً وسارح مع نغم الناعورة المتسلل إلى القاعة وكأنها تبكي على ملهاة قادمة, أسمعه يعزف بحزن على نهاية تاريخ طويل لتلك المدينة الخالدة , ورغم الملل والقرف من ذاك المدرس الذي تبين فيما بعد أنه مخبر !, ورغم اختلاط المشاعر والأحاسيس ولبسها , كانت الحالة تؤشر بوضوح أنها مشحونة بالتوتر والقلق والخوف من زحف الشياطين القادم , الذي فتح له رفعت أسد أبواب جهنم على مصاريعها , وانتشروا يعيثون بالعباد فتكاً وبالبلاد عبثا!.
كان مؤشر القلق يرتفع مع طغيان تقاليد الجهل والعصبية وفجورها التي نشرها رفعت أسد بطول البلاد وعرضها لمواجهة قيم المدنية وتسامحها , وتسللها إلى حرمتها بنية عدائية واضحة متناقضة مع معهود ثقافة سورية , وبحكم الصدف كان شريك (محمد) الدراسي من ريف حماه , هذبته المدينة قليلاً كما كان يردد فخوراً باستمرار , هذا مألوف وعادي في مدينة تاريخية مفتوحة من كل أطرافها ومتداخلة اجتماعياً وإنسانياً إلى حد بعيد , لكن نسمات الريح واتجاهها صارت عاصفة تحمل الكثير من الغبار , كانت العفوية والتسامح تخفي بعضاً من المخبوء , الذي لم يكن مرصوداً إلى درجة تنبئ بالتشقق الذي حفزَته وأتت فيه ” ثورة ” الضباع !.
ذهبا معاً إلى قريته الواقعة في سفح جبال الساحل السوري , بدى له المنظر محيراً رغم كل ما فيه من بساطة وعفوية ورحابة وجمال, ومنفراً لتناقضه الكامل مع المحيط , إذ مع كثافة الأشجار المثمرة والورود والنسمات العليلة وهمسات العصافير ,ترافق مع قلق الوجوه وحيرتها في تحسس جمال الطبيعة وعدم الانسجام معها والوفاء لها , بما يشبه رفضاً مكبوتاً لجبرية الجغرافيا والتاريخ وحرية الانتماء , عمل رفعت أسد على فرضه على البسطاء بإصرار وإغراء رغم رفضهم الكامل له !, ورغبة هذا المتعسكر المعمم بتعميم طغيان الغربة وهاجس الهجرة وانسلاخ مبهم عن الذات والمكان , وافتراقاً لحظياً تراءى له أنه مكانياً , لكنه كان أبعد وأعمق من ذلك بكثير , كان كل شيء هناك بري خاماً متحفَزاً ينام مستيقظاً جاثماً على ” صرة ” نقمة مبهمة مخبوءة في ظلام كهف اللاوعي لطاغية دخيل , أفرزت تناقض غريب مع المكان والماضي والحاضر والمحيط !.
والقلق الذي رافقه للوهلة الأولى , لم يكن عابراً البتة , نمى خوفاً مع نفور معظم سكان القرية من عسكرة حياتهم وتجميع مجهولين بينهم , وقلقاً من الدخلاء عليهم اللذين بدلوا جلدتهم ولباسهم وأظهروا نفوراً وقحاً مع جمال المكان , تركوا براءته وغادروها وتحولوا إلى ميليشيات وطلائع صاخبة وبوفرة من الأدوات الجارحة والمشاعر العدائية غير المنضبطة ! وبحدود القدرة على تفسير المشهد الذي طغت عليه شعارات الثورة والتحرير في حينها ( 1972) , منطقياً أوحت الصورة المسلحة ,أننا على بعد أمتار من تحرير فلسطين , وإقامة الوحدة العربية والاشتراكية ! والنط إلى التقدم والحضارة , ورد الاعتبار إلى الرموز الخالدة صلاح الدين ويوسف العظمة وابراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي وأبطال سورية الشجعان ! وتكرار ماضي عربي قرأناه وسمعناه , قصص وحكايا , وفقدناه زمناً وواقعاً , ونعيشه وهماً في حياتنا الفردية والجماعية , لم نعد ندري ,أهو عبئاً علينا أم نحن عبئاً عليه ؟! , أم كلانا عبئاً على الحاضر , وكأننا خرجنا من دورة التاريخ , والزمن يجري! .
مروا راجعين إلى حماه من “صلنفة” أسطورة جبال الساحل الذي كان يعشقها طبيب حماه المشهور وجيه البارودي ويأوي إليها نهاية كل أسبوع , يتحاور مع جمال الطبيعة ويداوي مجاناً أهلها الطيبين من الأمراض التي تفتك بهم ! وتُروى قصص وحكايات عن طُرقه وأدويته وأسمائها التي يعطيها إلى الفقراء فيها , تَزَحْلقا محمد وشريك دراسته نزولاً إلى قرية ” عين سليمو ” في سفح الجبل والتي تنام بفقرها وبريتها على نبع ماء معدني رقراق شربا منه , بعد أن أزاحا بصعوبة وحشاً دخيلاً عنيداً شرساً جاثماً بوقاحة صارخة في رأس العين !, ولا يتجرأ أهالي القرية المساكين من إزعاجه , وألفوا شرب الماء العكر بمضض مكبوت !.
تابعا عبر السهول المنبسطة والقرى الغربية المتناثرة حول الأنهار والسواقي , وتتابع القلق حضوراً بزيادة المظاهر العسكرية في قرى محددة والفقر والفاقة والإهمال في أخرى , مظاهر غير مريحة وغير منسجمة مع طبيعة الحقول وزهورها وبراءتها , والمخيف فيها هو لونيتها المفروضة لإلغاء تمازج القرى أهلياً واجتماعياً , بدى ذلك مؤشراً على خطة ما , لئيمة لاستفزاز العصبية فيها وعزلها وزيادة ملامحها المبهمة حتى على حملة السلاح أنفسهم !, فهنا قرية ” الجيد ” و”الرصيف ” و ” شطحه ” حيث الطيبة والبراءة التي وقعت في شباك صياد لعين !, مروراً بمشتى الحلو و مصياف , وبلحظة شرود عميقة تخيل (محمد) تناظر مكاني وأهلي مع الجانب الآخر على السفوح الغربية لجبال الساحل من الصورة ( القرداحة ) و (جبلة ) و(بانياس ) و(اللاذقية ) ومحيطها حيث شيوع الملامح الشيطانية الغريبة الجديدة التي رسمها رفعت أسد لتشويه طيبة المكان والزمان والتاريخ , مابين سفوح الوطن وسهوله تلاحق الإنسان شباك الشك والمشاعر المتناقضة ,من الشرود غير المقصود إلى الواقع تستمر تفاعلات الطبيعة والمشاعر وتكوين التاريخ وخطط الشياطين , وكأن الصورة تبحث عن رتوش جديدة لها , أكملا السير وتعريجاً على ” محردة ” تتسلل الطمأنينة إلى العقل والقلب , وتبدد الأجراس ومدنية الكنائس وملامح الوجوه وسلميتها , بعض القلق الذي ضغط على الصدور بشكل غريب .
ومابين هنا وهناك , بدى أن للمكان خصوصيته وهي المساحة التي لعب بها الشياطين بانحطاط , وأشبه بسياج يبنيه مخرب مروا فيه بحذر شديد ! ومع استمرارهم بجغرافية الطريق , طغت المشاعر الضاغطة بعد مغادرة المدينة , وهي حالة تكررت أثناء مرورهم ب” السقيلبية ” حيث انتابهم خليط من المشاعر والأحاسيس , كان يقرؤها جيداً صديقهم جورج ” السقيلباوي ” النبيه الذي تضمه معهم مدرسة أبي الفداء في حماه , هذه الكلمة (الفداء ) التي أوشكت أن تهاجر معناها لولا استعادة فداء حوراني برجولة مشهودة بعض رمزيتها الوطنية , أضاف جورج متحسراً على سوء الحال ! ورغم ما يطبخ ,كان الثلاثة يأكلون معاً ويشربون معاً ويحلمون معاً ويرفضون معاً ويقلقون معاً ويتعاهدون على البقاء معاً , ويحضرون معاً بعناد دروس التربية الدينية الإسلامية والمسيحية , ضاحكين مع ابتسامة مُدرسيْهما متصافحين على باب القاعة , ومراقبة المدرس الطلائعي لهم خفيةً من بعيد !.
رجعا من رحلتهم التي تتكرر كل صيف ومعهم حصيلة لا بأس بها من الهموم الغامضة هذه المرة , و” حفنة ” كبيرة من القلق والخوف من المجهول الطلائعي القادم !.
خوفاً كبيراً على وطن فهموه بيتاً وأباً وأماً وأخوة وعيشاً مشتركاً وثقافةً و تاريخاً ومحبة وسلام , خوفاً على وطن اختطفه رفت أسد ورعاعه , وأمناً وحياة مشتركة وشعوراً وطنياً بدده بسرعة وصول عساكر جهلة وطغاة وفاسدين إلى غرفة القيادة !
والكارثة أنهم جهلة , طغاة عصبيون وأميون في السياقة واللباقة والسياسة وجغرافية الوطن والطريق , فساقوا سورية برعونة وهمجية إلى حيث هي الآن , إلى الهاوية التي غاصت فيها ولا تزال !.
تنهدوا جميعاً بحسرة , وخوف كابوسي صامت من أن تتحول سورية إلى مستوطنات ومحميات ومعابر !, قال علي واستطرد : اليوم نسافر إلى كل الوطن العربي بالهوية الشخصية !, أخشى إن لم يتمكن هذا الشعب من وقف رفعت أسد ونظامه و برنامجه , أخشى أن لا نتمكن من تبادل الزيارات القادمة حتى بجواز !, و يسلم أحفادنا على بعضهم تلميحاً من وراء سياج …!.
سورية أصبحت سجون ومحاكم ومقابر … يصر الدخلاء على تحويلها إلى مستوطنات ومعابر !.
فإلى أين يسير رفعت أسد ونظامه بسفينة الوطن ؟!.
د.نصر حسن
خاص – صفحات سورية –