لا نظام ديموقراطي من دون مجتمع ديموقراطي
علي خليفه الكواري
هل نحن بحاجة لطرح مفهوم الديموقراطية للمناقشة من أجل تحديد مضمونه؟ بعد أن ثبت بما لا يدع مجالا للشك انه أقل النظم السياسية سوءا وإنه الأقدر على تحقيق أعلى وأدوم مشاركة سياسة فعالة، تؤدي إلى التغير في السياسات العامة وتداول السلطة سلميا. هذا بالرغم من نواقص المرحلة الراهنة من الممارسة الديموقراطية في العالم، مقارنة بالمثال الديموقراطي الذي لم يتحقق في الماضي ولا هو متحقق في الحاضر ولن يتحقق في المستقبل مثله مثل أي مثل أعلى آخر ideal، على حد تعبير روبرت دال أحد أهم منظري الديموقراطية المعاصرين في الغرب.
الاجابة في اعتقادي نعم، نحن في أمس الحاجة إلى ضبط مفهوم الديموقراطية قبل الحوار حولها والقول بالاتفاق أو الاختلاف على مضمونها. فنحن العرب – مع الاسف- مولعون بالشعارات نرفعها دون التوقف عند مضمونها ومتطلبات تحقيقها على أرض الواقع. والديموقراطية اليوم شعار المرحلة مثلما كانت الاشتراكية في ستينات القرن الماضي، كل يدّعي الديموقراطية – أهالي وحكومات- ويتحدث باسمها طالما هو غير ملزم بتحديد مفهومه لها والالتزام بسلوكها، فما يقوله ويفعله هو الديموقراطية.
ولعل هذا الخلط والغموض بحسن نية وبغيره من ألأسباب، هو الذي جعل “مشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربية”، يطرح في أول لقاءاته عام 1991 مفهوم الديموقراطية في اول نشاط له ويواصل حتى اليوم في 2010، طرح المفهوم ومقاربته مع ثوابت مجتمعات الدول العربية. وتحضرني الآن الحالة التي واجهت الحضور في لقاء 1991 على الرغم من كونهم من بين المهتمين بالشأن العام، عندما حاولوا التوصل إلى مفهوم عام جامع، حيث اختلفوا، فكل لديه منظار للديموقراطية لا يتفق مع منظار الآخرين لها.
وأذكر أن الاستاذ محمود رياض رحمه الله قال للحضور لا تستغربوا فنحن لانتوقف كثيرا عند المفاهيم وضبط المصطلحات وإنما تطربنا الشعارات فنرددها دون التوقف كثيرا عند معناها، فأنا مثلا منذ أن كنت في السادسة من عمري أشارك في التظاهرات واردد شعار “الاستقلال التام أو الموت الزؤام” وحتى اليوم لا أعرف بالدقة معني الموت الزؤام.
من هنا اهتم “مشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربية” بضبط مصطلح الديموقراطية وما تفرع عنه من مصطلحات مثل الدستور الديموقراطي والحزب الديموقراطي والانتخابات الديموقراطية، تمهيدا لإجراء الحوارت حول الديموقراطية وأهمية وإمكان الانتقال اليها، بين التيارات والقوى السياسية التي تنشد التغير السلمي. ومن هذا الاهتمام بضبط المصطلحات، تنبثق محاولتي في هذا المقال الذي آمل ان يعزز حوارا جاداً ومسؤولاً يساعد مجتمعات الدول العربية على تنمية مفهوم جامع للديموقراطية المنشودة.
مقاربة مفهوم الديموقراطية
بادىء ذي بدء أقول، ان الديموقراطية المعاصرة اليوم – بعد أن انتشرت في مختلف القارات وعبر الحضارات – ليست عقيدة تنافس غيرها من العقائد والأديان. كما إنها ليست مجرد آلية لأية عقيدة، وإنما هي منهج ونظام حكم يتأثر مضمونه بالضرورة، باختيارات المجتمعات التي تطبق الديموقراطية فيها. ولهذا أصبح من الممكن للديموقراطية ان تقبل في مجتمعات تختلف فيها العقائد والاديات والمذاهب.
ولعل ما نسمعه من تطابق بين الديموقراطية والعقيدة الليبرالية، ومن ارتباط عضوي بين الديموقراطية والعلمانية في كل زمان ومكان، وكذلك ما نراه من محاولات تصدير واستيراد لشكل الديموقراطية الغربية دون مضمونها الإنساني والاجتماعي والوطني، إنما هو تحميل للديموقراطية بما ليس بالضرورة منها، وهو تشويه للديموقراطية لدى الجمهور، وصد لمجتمعاتنا عنها. فمجتمعاتنا لها ثوابتها ولها أهدافها العامة الكبرى، والديموقراطية هي أحد هذه الأهداف الكبرى، ويجب أن تكون الديموقراطية وسيلة لتحقيق الأهداف الأخرى…
ومن ناحية أخرى… فإن نظام الحكم الديموقراطي له مقومات محددة. وعلينا القيام بالمقاربات المسؤولة التي تحافظ على المقومات العامة المشتركة لنظم الحكم الديموقراطية، ومن ثم مواجهة إشكاليات الديموقراطية في المنطقة العربية بإزالة التعارض بين ما هو جوهري وبالضرورة من الديموقراطية، وما هو بالضرورة جوهري ومن ثوابت مجتمعاتنا العربية – الإسلامية أيضا.
وجديرٌ بالتأكيد هنا أن نُظم الحكم الديموقراطية نظم مُحْـكَمَة لها مقومات مشتركة من مبادئ ومؤسسات وآليات وضوابط وضمانات – مثل سائر النظم ومنها نظام المرور المعاصر على سبيل المثال- لا تقوم لنظام الحكم الديموقراطي قائمة إذا انتقص منها. لذلك يجب ألا يأخذنا القول بضرورة مراعاة الديموقراطية لثوابتنا العربية والإسلامية، إلى القول إن الديموقراطية مفهوم هلامي يمكننا أن نطلقه على نظام الحكم أو الإدارة التي نرغب بها متذرعين بثوابتنا أو أعرافنا دون مراعاة لما لا يقوم نظام الحكم الديموقراطي بدونه من مقومات.
ويمكننا إذا دققنا في قراءة نُظم الحكم الديموقراطية عبر القارات والحضارات – من ماليزيا والهند إلى جنوب إفريقيا وأميركا اللاتينية إضافة إلى أوروبا ودائرتها الحضارية – أن نجد مقومات عامة مشتركة بين أنظمة الحكم التي تكتسب اليوم صفة الديموقراطية. وتتمثل هذه في خمسة مقومات عامة مشتركة:
أولها: مبدأ الشعب مصدر السلطات نصاً وروحاً وعلى أرض الواقع. فنظام الحكم الديموقراطي يعبر عن حق تقرير المصير وهو بالضرورة يتطلب أن لا يكون هناك محتلاً للبلد يضع الدستور أو يملي إرادته على واضعي الدستور. وإنما يجب أن يكون الشعب مصدر السلطات وأن لا تكون هناك بشكل ظاهر أو مبطن سيادة أو وصاية لفرد أو لقلة على الشعب أو احتكار للسلطة أو الثروة العامة أو النفوذ. وجديرٌ بالتأكيد أن ممارسة السلطة مسألة عملية يقوم بها بشر، وهي إما أن يكون مصدرها الشعب أو الكثرة منه على الأقل أو يكون مصدرها – لا محالة – فرد أو قلة دينية أو اجتماعية أو عسكرية أو أسرة حاكمة او قوة احتلال.
ويمكن القول منذ البداية إن سلطة الشعب في التشريع – والتي تعتبر جوهر إشكالية الإسلام والديموقراطية – يمكن التوافق على تقييدها ديموقراطياً – مثلما هي الحال في كل الدساتير الديموقراطية- من أجل التغلب على إحدى إشكاليات الانتقال إلى الديموقراطية. ومثال ذلك حالة الدول العربية ذات الغالبية المسلمة حيث التعارض المزعوم بين سلطة الشعب في التشريع والالتزام بما هو من الدين الاسلامي بالضرورة، وحيث يمكن النص في الدستور الديموقراطي على أن تكون “مبادىء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع” وأن يحال الإختلاف حول دستورية القوانيين، وفق هذا النص، على المحكمة الدستورية مثلما هو النص الراهن في المادة (2) من دستور جمهورية مصر العربية لعام 1972. وهذه المقاربة تمنع قيام أى شكل من إشكال الحكومة الدينية، وفي الوقت نفسه تقيد المشرع دستورياً بمبادئ الشريعة الإسلامية.
وللتأكد من وجود مبدأ “الشعب مصدر السلطات” يجب التمعن في النص الدستوري وما يحيله على القوانين من صلاحيات. فكثيرا ما يؤخذ بالقانون ما أعطاه الدستور، ويصبح الوضع القائم هو “الحكم بالقانون” بدل “حكم القانون” الذي هو مبدأ ديموقراطي ثابت. وإلى جانب ذلك وأهم منه هو النظر إلى حقيقة الممارسة على أرض الواقع، وهل الشعب أو الكثرة منه على الأقل هو مصدر السلطات قولا وفعلا، أم أن الحاكم الفرد أوالقلة هي صاحبة السلطة والقول الفصل في الشأن العام؟
ثانيها: مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية الفاعلة، واعتبار المواطنة ولا شئ غيرها مصدر الحقوق ومناط الواجبات دون تمييز. وأبرز مظاهر المواطنة الكاملة امتلاك المواطن الحد الأدنى من متطلبات المشاركة السياسية الفعالة ومنها مستوى معيشة كريمة والمعلومات الضرورية للمشاركة السياسية الفعالة، وكذلك تساوي الفرص من حيث المنافسة على تولي السلطة وتفويض من يتولاها. الى جانب الحق المتساوي في الانتفاع بالثروة العامة وتقلد المناصب العامة التي لا يجوز لأيٍ كان أن يدعي فيها حقا خاصًا دون الآخرين.
ثالثها: مبدأ التعاقد المجتمعي المتجدد الذي يتم تجسيده في دستور ديموقراطي ملزم لكل مواطن، حاكمًا كان أو محكومًا. ويتجلى التعاقد المجتمعي المتجدد في المشاركة الفاعلة لإفراد المواطنين وجماعاتهم في وضع الدستور وتعديله عبر الأجيال. وفي العادة يوضع الدستور الديموقراطي من قبل جمعية تأسيسية منتخبة تملك إرادتها وتعبر عنها بحرية.
رابعها: قيام الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني على قاعدة المواطنة وممارسة الديموقراطية داخلها وفي ما بينها. وهذا المبدأ من أهم مقومات استقرار نظام الحكم الديموقراطي ويجب التأكيد عليه في مرحلة الانتقال إلى نظام حكم ديموقراطي، حيث تكون الاحتقانات الفئوية على أشدها والميل إلى التمترس الطائفي والاثني والقبلي والمناطقي ظاهرة بارزة، ربما نتيجة ما لحق ببعض الفئات من ظلم في عهود سابقة.
إن تأسيس نظم حكم ديموقراطية بحجة التوافقية – بما ليس من الديموقراطية بل يتناقض مع جوهرها – على أساس المحاصصة الطائفية البغيضة بدل الالتزام بمبدأ المواطنة في الدولة وفي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، هو مشروع للحرب الأهلية بدلا من التأكيد على الإندماج الوطني الذي لاتقوم لنظام الحكم الديموقراطي قائمة إذا لم يتحقق حد أدنى منه، ذلك الحد القادر على تنمية مجتمع حقيقي يرتبط الأفراد والجماعات فيه بوحدة المصير.
لذلك فإن إلتزام الأحزاب، وما في حكمها من تنظيمات، بقاعدة المواطنة في عضويتها قولا وفعلا وقيامها بممارسة الديموقراطية داخلها، هو ضمانة حقيقية للممارسة الديموقراطية في الدولة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال. والحزب في الدولة الديموقراطية مرشح دائما لتداول السلطة فكيف له إذا كان قائما – في داخله – على الإقصاء، أن يحكم دولة ديموقراطية لا تميز بين فئات الشعب وجماعاته عند تولي المناصب العامة.
إن الأحزاب بحكم التعريف العلمي لها هي منظمات تسعى للوصول إلى السلطة، بل ومن المحتمل وصول أي منها الى الحكم. ولهذا فإذا لم تكن تمارس الديموقراطية وتتداول السلطة داخلها وفي ما بينها ولا تعكس عضويتها تنوعًا مقبولا وطنياً، فإن نظام الحكم لن يكون ديموقراطياً، ويصعب استمرار تداول السلطة سلميًا فيه عندما يكون التداول من النقيض إلى النقيض المتربص به.
من هنا فإن ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب وفي منظمات المجتمع المدني وفي ما بينها، وتركيبة العضوية فيها، تمثل مقومات رئيسة من مقومات نظام الحكم الديموقراطي. فهذه هي الديموقراطية في المجتمع، وهذه هي الأساس للديموقراطية في الدولة والضمانة لسلامة الممارسة. لذلك لا بد من مقاربة سياسية لإشكالية الأحزاب الدينية والمذهبية والاثنية والمناطقية التي أصبحت بارزة في الحياة السياسية العربية. وربما يكون التحالف السياسي بين الاحزاب التي لاتعكس العضوية في كل منها النسيج الوطني، وتكوين كتلة وطنية من عدد متنوع منها تتقدم للمنافسة على السلطة من خلال الانتخابات وتحكم بشكل مشترك في حالة الوصول للسلطة، السبيل الموقت –الى حين تعكس جميع الأحزاب النسيج الوطني في عضويتها- لحل هذه الاشكالية حيث وجدت أحزاب دينية او أثنية.
خامسها: الاحتكام إلى شرعية دستور ديموقراطي، والدستور الديموقراطي يجب أن يؤسس على ستة مبادئ عامة مشتركة لإكتساب أي دستور صفة “الديموقراطي”. وهذه المبادئ الستة المهمة المشتركة في كل دستور ديموقراطي هي:
أولاً: أن لا سيادة لفرد أو لقلة على الشعب. واعتبار الشعب مصدر السلطات، يفوضها عبر انتخابات دورية فعالة وحرة ونزيهة.
ثانياً: إقرار مبدأ المواطنة باعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات.
ثالثاً: سيطرة أحكام القانون والمساواة أمامه. وأن يسود حكم القانون وليس مجرد الحكم بالقانون.
رابعاً: عدم الجمع بين أي من السلطات التنفيذية أو التشريعية أو القضائية في يد شخص أو مؤسسة واحدة.
خامساً: ضمان الحقوق والحريات العامة دستورياً وقانونياً وقضائياً، ومن خلال ضمان فاعلية الأحزاب ونمو المجتمع المدني المستقل عن السلطة ورفع يد السلطة ومراكز المال والدعاية الموجهة، عن وسائل الإعلام وكل وسائل التعبير وتأكيد حق الدفاع عن الحريات العامة وعلى الأخص حرية التعبير وحرية التنظيم. وكذلك ضمان حقوق الأقليات والمعارضة في إطار الجماعة الوطنية وحقوق المرأة والفئات المعرضة للاستغلال أو الإقصاء.
سادساً: تداول السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية سلميًا وفق آلية انتخابات حرة ونزيهة وفعالة تحت إشراف قضائي كامل ومستقل وبوجود شفافية تحد من الفساد والإفساد والتضليل واستغلال النفوذ العام في العملية الانتخابية. ومن أجل ضمان نزاهة الانتخابات أصبحت الدول الحديثة العهد في الممارسة الديموقراطية –أميركا اللاتينية على سبيل المثال- تقيم سلطة رابعة هي سلطة إدارة الانتخابات والرقابة عليها، وهي مستقلة مثلها مثل السلطة القضائية.
في الختام
وجديرٌ بالتأكيد أن توصيفنا لمبادئ ومؤسسات وآليات نظم الحكم الديموقراطي قد ركز على الضوابط الرسمية والقانونية، والتي يتوقف عليها الجانب الإجرائي من الممارسة الديموقراطية. وتتوقف أهمية هذه المقومات وفاعليتها على حقيقة تطبيقها على أرض الواقع… هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى… يبقى محك الديموقراطية هو قدرتها على تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى للشعب الذي يمارسها. ومن تلك الأهداف الوطنية الكبرى بالنسبة للدول العربية اليوم، التنمية ذات الوجه الإنساني والأمن المجتمعي والقومي وكرامة الإنسان وإطلاق طاقاته الخلاقة، في إطار الحفاظ على الهويات الجامعة والإستقلال ووحدة التراب الوطني، وتحقيق التكامل والاندماج بين الدول العربية وصولا لإتحاد متدرج بين الراغبين من الشعوب بضمانات ديموقراطية.
وغني عن القول أن مرحلة الانتقال الى نظام حكم ديموقراطي هي إنجاز تاريخي تليها عملية التحول الديموقراطي المستمرة والصعبة والتى يصادفها في الغالب توترات وربما انتكاسات وتواجهها تحديات الانتقال. وهذا المخاض تتطلب مواجهته استقرار العمل بنظام الحكم الديموقراطي. وهذا الاستقرار يتطلب بدوره وجود اقتناعات لدى التيارات والقوى الفاعلة، إلى جانب المواطنين عامة، بإمكان تطبيقه واستمرار مصلحتهم في ذلك. ولا بد لتلك الاقتناعات وذلك الإيمان من النمو، والترسخ في النفوس إلى جانب النصوص على نحو تدريجي. هذا كله حتى تصبح الممارسة الديموقراطية خلقًا حميدًا، والديموقراطية قيمة اجتماعية، يضبطها وعي اجتماعي ومجتمع مدني فاعل ورأي عام مستنير. وهذا كله يساعد على الإرتقاء بالممارسة الديموقراطية، تدريجا عبر عملية التحول الديموقراطي الطويلة والشاقة، من الشكل إلى المضمون. ذلك التحول الذي يكرس أسلوب الشفافية والصدقية وقبول الأخر، ويعوّد جميع أطراف العملية الديموقراطية على تداول الرأي بتأنٍ وأخذ مصالح الآخرين بإنصاف قبل اللجوء إلى التصويت على القرارات وتحديد الخيارات العامة من قبل المفوضين بذلك.
( استاذ في جامعة قطر)
النهار