ما يحدث في لبنان

حانَ وقت «المقاومة»

null

دلال البزري

يفعلها «حزب الله». ويحدث ما كانت غالبيتنا تخشاه. غزوته الثانية لبيروت. بعد عزوته الاولى المظفرة في كانون الثاني (يناير) 2006، إثر «إنتصاره الالهي» على اسرائيل. يشهر سلاحه نحو الداخل عملياً وبالملموس، بعدما كان يهدر به مجرّد هدْر. سلاح، صاروخي وجبّار، أقسم مئة يمين عظيم بأن «كلا!» لن يصوّبه نحو الداخل… ونحن كنا نريد ان نصدّق، والاطمئنان الاصفر على وجوهنا. والنقطة ان هذا الداخل صار خارجاً: بفضل القياس المنطقي الذي وضعه أمينه العام عصر الهجوم على اهالي العاصمة. وقوامه: قراران سياديان للحكومة (بالتحقيق في شبكة هاتف غير شرعية لـ»حزب الله»، تمتد الى كل لبنان وفي آلات تصوير تهدد امن الشخصيات الرسمية، اقالة الضابط المولج بأمن المطار)، هما ضربة لسلاح «المقاومة الوطنية»؛ والحكومة عميلة لأميركا واسرائيل. إذن يرفع السلاح بوجهها وبوجه الاهالي المؤيدين لها. كما يُرفع ضد اسرائيل.

يفعلها «حزب الله». وتتجسّد قوة نيرانه الهائلة. الاقوى من قوة الجيش. يروّع. يخرّب يحرق ويهين… ويملي شروطا لا ينتظر الجواب عليها. يثبت فعلا انه اقوى من الجميع. يكسب ميدانياً؛ «الحزب» يسمّي هجومه «إنجازاً على الارض». وحلفاؤه يصفونه بـ»تحرير بيروت» او بـ»عودة الامور الى نصابها». مقابل ماذا؟ مقابل خسارة مصداقيته. قال شيئا (لن نرفع…) وفعل شيئا آخر (رفع…): فرُفع الحجاب عن حقائق الابتزاز المشوبة دائما بتهديد: مبطّن امام وسائل الاعلام، وصريح في الستر.

النوايا قد تكون حسنة. وكذلك الخطاب واللسان. ولكن موضوعياً، وبكل المسافة الممكنة: «حزب الله» متعايش وجوديا مع اسرائيل، مبني على ما هو مبني عليه نظامها: دوام الحرب. أية حرب. والتفتّت الى اقوام دينية صغيرة. كلها متطرفة. العقلية ايضا واحدة: مزيج من الصلافة والمظلومية. اخلاقية اسرائيل واللاسامية، المظلومية تاريخية، وقد صارت الآن قميص عثمانها. و»حزب الله» والمظلومية الشيعية التاريخية، البعيدة والقريبة. ولكن الاثنين ايضا يردّان بغرور صاحب الشوكة الاقوى، من دون انتظار جواب على شروط، بالقتل والقطع، قطع «الايادي التي»…

أكثر من ذلك: مثل اسرائيل، يقول «حزب الله» بأن عدوانه الاخير على المدنية، إنما هو من باب «الدفاع عن النفس». مثل اسرائيل، يلحّ علينا بـ»أخلاقياته» و»أخلاقية» ميليشياته. مثل اسرائيل ينفذ عقوبات جماعية على اهل المدينة العزل، يقطع اوصال المدينة بالحواجز الترابية والاسمنتية. يحاصرها باغلاق مطارها ومرفئها. ويحرق المقرات الاعلامية. دولة المذهب الواحد المسيطر. «لكثرة مصارعتك للوحش، ينتهي بك الامر ان تشبهه». يقول الفيلسوف الالماني نيتشه.

الانكشاف الثاني. «الفتنة» الطائفية المذهبية. وكانت معالمها بائنة قبيل الغزوة الثانية. حزب اغلق على الشيعة منافذ الطوائف الاخرى، وحتى التوجهات الاخرى في داخلهم (الهجوم المسلح على مقر مفتي صور، علي الامين)، وبقوة سلاحه وامنه. وعبأ الشيعة واشبعهم خوفا من «الجواسيس» و»العملاء» و»الخونة الجبناء»… وعمّق الاصولية الايرانية في وسطهم. يأخذ قرار غزوته الثانية، ويشرك فيه شخصيات شيعية دينية وزمنية. يعلن احدهم غداة القرارين الحكومييَن بان «المسّ بوفيق شقير» (الضابط المقال) كالمسّ به شخصيا. ويليه السفير الايراني شيباني بالقول ان قرارات الحكومة الاخيرة «تشكل اعتداء على الطائفة الشيعية». ثم يتوجّه بعد ذلك نصر الله الى «الرأي العام العربي والاسلامي» بأن «لا فتنة»، وبأن «الدفاع عن سلاح المقاومة بالسلاح» ليس من باب «الفتنة». بل كان نصر الله ينفي الفتنة وطلائع نيران مقنّعيه تدّك رأس النبع والمزرعة بنيرانها.

«حزب الله» الآن هو قاهر العيش المشترك. وموقظ الثارات التاريخية بدءا بالانشقاق الاسلامي الكبير، سني شيعي، وعمره مئات السنين، وحتى ضغائن عمرها ثلاثة عقود فقط، مثل تلك التي استفاقت الآن بين باب التبانة وبعل محسن، في طرابلس. يقول ذلك المقنّعون المراهقون اذ يصرخون في وجوه البيروتيين الغاضبين لكرامتهم وحياتهم: «اذا كانت اسرائيل نفسها… أقوى جيوش العالم… لم تنزع منا سلاحنا!؟ أنتم ايها… ستقدرون؟!». (وللمزيد: هؤلاء المراهقون المقنعون سمّاهم احد اعلاميي «حزب الله» بـ»كشافة» الحزب، وذلك تلويحا منه بأن هناك طبعا من هو اقوى وأشد تدريبا!).

الفتنة ولاّدة فتن. والتطرف ولاّد التطرف. اول الغيث، من الشمال. نائب سابق يعلن «الجهاد» في مؤتمر صحافي. ويدعو الى «إطلاق حملة المقاومة الاسلامية السنية للدفاع عن لبنان، عن كيانه ومؤسساته»؛ متهما الميليشيات «بالاختباء وراء كلمة مقاومة لزرع الارهاب، لقتل اللبنانيين عموما، والسنة خصوصاً».

وهناك الازمة المعيشية. وقد صدق بيار صادق في كاريكاتور في صحيفة النهار؛ فرسم حصان طروادة سمّاه «الازمة المعيشية» تنزل منه الفرق «الكشفية» المسلحة التابعة لـ»حزب الله» متجهة نحو بيروت. هذا الحزب يخرّب الاقتصاد اللبناني ويخوض حروبا طاحنة من غير ان يفقر. بل هو يغتني اكثر فاكثر. دائرته الاقتصادية مستقلة وحرة: المال الايراني «الشريف» يضخّها، وهي لا تتأثر بأية دورة. الازمة المعيشية ذريعة: كما نسي الحزب الاهداف المعلنة لحرب تموز (شبعا والاسرى)؛ كذلك يتناسى الآن ذريعة اطلاق ميليشياته في ازقة بيروت، أي الضائقة المعيشية، ولن ينسحب قبل استقالة الحكومة. ويعمّق الحزب بذلك الضائقة الاقتصادية بعدما أمعن في دفعها الى التفاقم. كسرَ طبعا الحركة المطلبية والنقابية، على كل عيوبها. وافرغها من كل شحنة مطلبية جامعة كان يمكن ان يلتف حولها المواطنون دفاعا عن حقوقهم. عندما نزل «مرشدوه الكشفيون» للاحتجاج المفترض ضد الضائقة المعيشية، يحرقون الدواليب ويقطعون طريق المطار، كان شعارهم «لن ينالوا منك يا اسد المطار!» و»يا وفيق (شقير) ما يهزّك ريح!».

خسرت المقاومة من المصداقية ما ربحته في فرض امر واقع وارهاب بيروت واخضاع الارادات البسيطة للعيش. وخلاصنا منها ليس في القريب العاجل. انه بعيد ولكنه واضح: مقاومة «المقاومة» بعدم التشبه بها، بعدم محاكاتها. بفرْملة الانزلاق في طاحونة الكراهية التي تعجّلنا الذهاب اليها. بالمطالبة عاليا برفع المسدسات الموضوعة على رؤوس رجالات الاعلام والدولة والاهالي. بالتمسك بالدولة على كل عيوبها وفسادها وثغراتها وضعفها.

الحياة – 18/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى