تلفزيون المشرق والبحث عن السينما المختلفة ‘وداعا لينين
‘: الحياة الأكذوبة.. في وطن لم يوجد قط!
محمد منصور
شكلت السينما في عصر الفضائيات، مادة هامة وأساسية ترفد البث الفضائي الذي يلتهم الغث والسمين، بسيل من الأفلام التي أنتجتها السينما خلال تاريخها الطويل… وبسبب ضخامة التراث السينمائي العالمي، ظهرت في الآونة الأخيرة، العديد من القنوات التلفزيونية المتخصصة ببث الأفلام السينمائية كـ (فوكس موفيز- نيل سينما- روتانا سينما- ميلودي أفلام) أو حتى تلك المتخصصة ببث نوع محدد من تلك الأفلام.. كقناة (روتانا زمان) التي تختص ببث الأفلام العربية القديمة، و(إم. بي. سي اكشن) التي تختص ببث أفلام العنف والحركة.
سينما النفوذ التجاري!
لكن من يتأمل ما تبثه هذه القنوات وسواها من القنوات العامة التي تعرض بطبيعة الحال العديد من الأفلام السينمائية على خارطة بثها، سوف يلاحظ أن الاهتمام الأساسي ينصب على الأفلام الأمريكية التجارية، التي تشكل مصدر الجذب الأساسي، بسبب ضخامة إنتاجها، وجاذبية نجومها، وتاريخها الطويل في تسويق نفسها في صالات العرض السينمائي على امتداد العالم، فما بالكم على شاشات قنوات التلفزيون التي تبدو عموماً رهينة النفوذ التجاري لتلك السينما… ولهذا يغدو الاهتمام بعرض الأفلام المختلفة والمتميزة عن السواد الأعظم مما يعرض من السينما الأمريكية التجارية، أمراً يسترعي الانتباه حقاً… وخصوصاً إزاء عرض فيلم من وزن (وداعاً لينين) الذي استهلت فيه قناة (المشرق) التلفزيونية السورية الخاصة، انطلاقتها العربية الجديدة، التي قلصت فيها من طابعها المحلي المختص بالشأن السوري، بعد إغلاق مكاتبها في سورية ومنعها من العمل الإعلامي لأسباب ليس هذا مجال الخوض فيها الآن!
(وداعاً لينين) فيلم لم يجدد حضوره!
فيلم (وداعاً لينين) الذي أنتج عام 2003، هو من إخراج المخرج الألماني فولفانغ بيكر… وقد حاز العديد من الجوائز السينمائية الهامة حين شارك في مهرجان برلين وسواه من المهرجانات قبل ست سنوات… إلا أن (وداعاً لينين) ليس فيلماً عابراً، ينتهي أثره بتقادم بضع سنوات على إنتاجه، فقد كرسه موضوعه الهام، كواحد من كلاسيكيات السينما الألمانية الحديثة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.. كما اكتسب الفيلم أهمية خاصة عشية الاحتفال العام 2009 بالذكرى العشرين لانهيار جدار برلين وتوحيد ألمانيا، حيث جرت استعادة الفيلم الذي يتحدث عن انهيار الجدار، في عروض خاصة كثيرة… جعلت منه معبراً بشكل أو بآخر، عن صورة ألمانيا الشرقية التي كانت… وعن جوهر الحكم الشمولي في الحقبة الشيوعية البائدة!
تدور أحداث (وداعاً لينين) في ألمانيا الشرقية بين عامي 1989 و1990.. هنا سنجد الصورة النموذجية لجوهر الحكم الشيوعي الديكتاتوري وهو يعيش أيامه الأخيرة دون أن يدري… فهذه الأنظمة العمياء، التي يعتد جلادوها بقوة أجهزة المخابرات التي تلاحق مواطنيها على الشبهة، وتحاسبهم على النوايا، وتأخذهم بجريرة أفعال أقربائهم وذويهم، لا ترى بالتأكيد نذر النهاية التي تلوح في الأفق… بل تستمر في ممارسة أدائها القمعي ذاته… كما نرى مع بطلة هذا الفيلم، التي يهرب زوجها إلى ألمانيا الغربية، فتتعرض للتحقيق… وتصبح مدانة ومشتبهاً فيها ومشكوكاً في ولائها للنظام الشيوعي.. الأمر الذي يدفعها إلى أن تعمل جاهدة كي تؤكد ولاءها… لأنها في جوهر تفكيرها مؤمنة إلى حد كبير بالقيم الاقتصادية والاجتماعية للنظام الشيوعي الذي تربت ونشأت في ظله.
فبركة صورة وطن زال!
التحول الأساسي في مجرى الأحداث، تجري أثناء مظاهرة قام بها بعض الشباب الألمان لاقتحام جدار برلين. تقوم سلطات ألمانيا الشرقية بقمع المظاهرة بقسوة، وحين تمر الأم وترى ابنها (أليكس) وهو يشارك في المظاهرة، تسقط مغمياً عليها… ويحاول الابن إنقاذها، إلا أنه يقبض عليه ويساق إلى المعتقل… مما يدخل الأم في غيبوبة طويلة بسبب تأخر عملية الإنقاذ!
حين تصحو الأم من الغيبوبة بعد أسابيع عديدة… يكون جدار برلين قد سقط، وألمانيا قد توحدت… ويصبح الابن (أليكس) عاملاً في شركة للتلفزيونات والأقمار الصناعية، تدشن عهداً جديداً من الإعلام المتنوع، بعيدا عن سياسات فرض الرأي الواحد وخطاب التلقين الأيديولوجي الشيوعي… أما الابنة (أريان) فتعمل في مطعم وجبات سريعة على الطريقة الأمريكية.. لكن خشية الابن على أمه من الصدمة، وهي التي كانت في نظره من أشد المؤمنين بالنظام الشيوعي، تدفعه لأن يخفي عنها الحقيقة… عبر محاولة في غاية الغرابة والطرافة، لإبقاء ألمانيا الشرقية على قيد الحياة. ومن أجل ذلك يقوم بمساعدة شقيقته وأحد أصدقائه من هواة صنع الأفلام، بفبركة وتصوير أفلام، تعرض خصيصاً لأمه في غرفتها التي ترقد فيها في المنزل… ليؤكد لها أن الشيوعية مازالت بخير، وأن أيديولوجياتها وشعاراتها العادلة ما زالت تتحدى وتهز أركان الغرب الرأسمالي الجشع… لدرجة أن مواطني ألمانيا الغربية يحلمون بزيارة ألمانيا الشرقية والعيش فيها!
وعبرهذه المعالجة الكوميدية الساخرة، يفضح الفيلم كل أكاذيب النظام الشيوعي الديكتاتوري، عبر إعادة تصويرها وإنتاجها بشكل قد يبدو كاريكاتورياً اليوم، لكنه في واقع الحال، كان يمثل قمة الدعاية المضادة التي كانت تعمل تلك الأنظمة على ترويجها، وقلب الحقائق فيها، من أجل إحكام سيطرتها على مواطنيها وتدجينهم.. وفي هذا السياق يصور الابن لأمه المريضة، أفلاماً تبرز إنزعاج الدوائر الغربية، من كشف حقيقة أن (الكوكا كولا) مشروب تم اكتشافه في مختبرات الأنظمة الشيوعية، وقد سرقه الغرب… كما يصور لها رائد الفضاء الذي أصبح سائق تاكسي وهو يلقي خطاباُ في مكتب مزين بتماثيل لينين وماركس… أما المنتجات الأمريكية التي غزت الأسواق… فيقدمها (أليكس) لأمه المريضة في عبوات قديمة تحمل اسم ألمانيا الشرقية… كما يتفق حتى مع بعض الأطفال من طلاب المدارس… كي يأتوا لزيارة أمه في المنزل، بملابسهم وشعاراتهم وأناشيدهم التي لقنهم إياها النظام الشيوعي طويلا!
وفي نفس السياق الكوميدي الساخر… يقدم الفيلم نماذج لجيل شيوعي قديم، عاش حياته طويلا على هذه الأفكار والأيديولوجيات… وأصبح على هامش الحياة في زمن الحرية الجديد… هنا تصبح السخرية تراجيديا، لكن لو أردنا أن نقرأ تلك التراجيديا في العمق، فإننا سندرك أنها ليست بسبب كوارث الحرية، لكنها نتاج تلك الحياة الباهتة الكئيبة التي رسم ملامحها النظام الشيوعي طويلاً!
يكمل الابن (أليكس) التمثيلية إلى نهايتها… يفبرك فيلماً، يظهر فيه أن ألمانيا قد توحدت كتتويج لانتصار الشيوعية، وليس هزيمة لزيف شعاراتها… وتموت الأم بعد قيام جمهورية ألمانيا الاتحادية بثلاثة أيام… وفي مشهد ختامي بديع ينثر فيها رماد جثة أمه في الريح كما أوصت… وفي التعليق الختامي… يقول أليكس بعبارات بليغة مقتضبة، تختزل جوهر الفيلم:
(عاشت أمي لثلاثة أيام بعد قيام الجمهورية الألمانية الاتحادية.. برأي أحسنت صنيعا كونها لم تعرف الحقيقة قط، فقد ماتت سعيدة. كان الوطن الذي تركته أمي وطنا آمنتْ هي به… وطناً أبقيناه حيا حتى لفظت أنفاسها الأخيرة.. وطناً لم يوجد قط بهذا الشكل… وطنا سأنسبه في ذاكرتي دائما.. إلى أمي)
الحياة بعد هؤلاء!
أجل… لقد كان واقع الحياة في ألمانيا الشرقية… شيئا آخر تماماً عن الواقع الذي تصوره شعارات الحزب الحاكم، ونشرات الأخبار، ودعايات الإعلام الشمولي، وتفبركه أجهزة المخابرات… كان وطناً من حلم حولته الديكتاتورية إلى كابوس.. وأيديولوجيا الرأي الواحد إلى زنزانة!
أعتقد أن فيلم (وداعاً لينين)، هو درس نموذجي لكل أنظمة الحكم الشمولي الباقية على قيد الحياة… إنه صورة لنهايتها الحتمية… صورة تفضح بطريقة كوميدية ساخرة (مآثر) الحياة التي تخلفها هذه الأنظمة، بركامها وخرائبها، بأوهامها وشعاراتها، بحقائقها وأكاذيبها… ذلك أن أكثر الحقائق ترسخاً في ظل تلك الأنظمة، تبدو أكاذيب حقيقية حين يعاد تصويرها… ولو على يد صانع أفلام هاو، يفبرك هذه الأفلام من أجل أم مريضة… تودع وطناً مريضاً!
ناقد فني من سورية
القدس العربي