سابقة المراجعة الجنبلاطية: هل تتكرّر داخل المعارضة السورية ؟
محمد سيد رصاص
كان سقوط بغداد بيد الأميركي، يوم 9 نيسان 2003، مؤدياً إلى تحولات مفصلية بارزة في صفوف المعارضة السورية، كان من ضمنها تبديل القمصان الايديولوجية، والأخذ بتوجهات سياسية جديدة عند العديد من الأحزاب، شملت مواضيع أساسية كان من ضمنها الموقف من واشنطن، ومن مشاريع التسوية للصراع العربي – الاسرائيلي، والنظرة الى المسألة الكردية في سوريا. إضافة إلى موضوع أساس وهو القبول غير المسبوق (قبل عام 2004) عند الكثير من المعارضين السوريين بدور “ما” للخارج في احداث التغيير الداخلي على غرار ما فعلته المعارضة العراقية لنظام صدام حسين.
بدأت شرارة هذه التحولات عند “الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي” وأمينه الأول الأستاذ رياض الترك. هذا الحزب الذي كان لثلاثة عقود سابقة مدشِّناً للتحولات المفصلية في صفوف المعارضة السورية، سواء في عام 1972 لما كان رائداً في اعطاء رؤية ماركسية استقلالية لمواضيع الوحدة العربية وفلسطين والسوفيات، ما أثر كثيراً على القوميين المتحولين نحو الماركسية في حركة القوميين العرب وحركة الاشتراكيين العرب. أو في عام 1978 لما أنهى طلاق اليسار الماركسي مع مقولة الديموقراطية، وهو ما تبعه عليه اليسار القومي ثم الاسلاميون.
والواقع أن دينامية هذه التحولات ما كان ممكناً أن تأخذ تلك القوة لو كان الحامل لها هو غير الرمز الأكبر للمعارضة السورية، ممثلاً بالأستاذ الترك، الذي عاد في الشهر الأخير من عام 2003، إثر زيارة شملت القارتين الأوروبية والأميركية لشهرين، وهو على اقتناع عبّر عنه آنذاك بأن هناك “رياحاً غربية ستهُب على دمشق” وأن “من الواجب ملاقاتها ببرنامج سياسي جديد”، ومعبراً عن اقتناع بأن الماركسية كوعاء ايديولوجي “ليست ملائمة لذلك”، وهو شيء لم يكن يقوله عندما استقل الطائرة غرباً من مطار دمشق قبل شهرين، وإن كان أعطى ارهاصاً معيناً لذلك قبل أيام من بدء رحلته عندما صرح في مقابلة لـ”النهار” (28 أيلول2003)، بأن الأميركيين نقلوا “المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر”، في رؤية تحوي جديداً لما جرى عبر غزو العراق واحتلاله، لا يمكن عزلها عن بوادر الصدام الأميركي – السوري الذي بدأت معالمه مع زيارة وزير الخارجية الأميركية كولن باول لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد، فيما كانت المعارضة السورية، ولثلاثة عقود سابقة، على يسار السلطة السورية في القضايا الوطنية والقومية.
تجسدت هذه التحولات، خلال عامي 2004 و2005، في تأسيس الأستاذ الترك لحزب الشعب الديموقراطي، ثم في انشاء ما سمي “اعلان دمشق” الذي ضم طيفاً واسعاً من الماركسيين المتحولين ايديولوجياً وسياسياً مع الأحزاب الكردية وجماعة الإخوان المسلمين والناصريين في حزب الاتحاد الاشتراكي ايضاً الذين وافقوا على نص لا يقول شيئاً عن فلسطين والعراق وأميركا واسرائيل، ويخفض علاقة سوريا بالعرب إلى مستوى منظومة عربية على طراز منظومة حلف وارسو، ويعتبر الشعب السوري مجموعة من “المكوّنات”. هذا النص الآتي قبل خمسة أيام من “تقرير ميليس” (21 تشرين أول 2005) وفي ظل أجواء كان يقول فيها رموز “اعلان دمشق” في المجالس الخاصة إن عمر السلطة السورية لن يتجاوز أشهراً، وهي الأجواء نفسها التي دفعت الأستاذ الترك في حديث تلفزيوني في الشهر التالي لـ”الاعلان” للدعوة إلى استقالة الرئيس السوري وتشكيل سلطة انتقالية.
إذا أردنا تركيز هذه التحولات، مفهومياً، يمكن القول إنها أخذت شكلاً ايديولوجياً عند البعض في نوع من الوعاء لملاقاة تحولات سياسية كانت موضع مراهنات وفقاً لقراءة محددة عند أصحابها، فيما أخذت شكلاً سياسياً محضاً عند الناصريين السوريين وعند الاخوان المسلمين أثناء وجودهم في “اعلان دمشق”. هذا بينما لم تتغير الأوعية الايديولوجية عند المعارضة العراقية، بكل أطيافها، الاسلامية والشيوعية والكردية، أثناء ملاقاتها وابحارها وفقاً للرياح الأميركية الغازية والمحتلة للعراق. وإنما استمرت بأشكالها الايديولوجية القائمة في متابعة ملاقاة العامل الخارجي لإحداث التحول الداخلي. حيث لم يكن هذا جديداً عند المعارضين العراقيين في عام 2003، وإنما كان استمراراً لعملية المراهنة عندهم على الخميني في الحرب العراقية – الايرانية أوعلى الجنرال شوارزكوف في حرب 1991.
ويلاحظ في هذا الإطار أن الوعاء الايديولوجي الجديد للمتحولين السياسيين الآخذ شكل الليبرالية الجديدة كان يعطيهم شحنة للمتابعة السياسية في الاتجاه نفسه ولو للوصول إلى حدود بعيدة، مثل قول بيان حزب الشعب حول حرب تموز، في سياق نقده لـ”حزب الله” وعبر سياق يوحي بتحميله مسؤولية الحرب إن “مسألة الإفراج عن أسرى لبنانيين أو فلسطينيين في سجون الإحتلال لا تتناسب مع حجم الدمار والخراب الذي أحدثته هذه الحرب والأخطار التي يمكن أن تحملها للبنان وتجرها على المنطقة برمتها “(موقع “الرأي” ،17 تموز 2006). هذا فيما رأينا الناصريين السوريين في موقف آخر، ثم رأيناهم، مع ماركسيي حزب العمل الشيوعي، يصطدمون مع الأستاذ الترك، خلال صيف وخريف 2007 أثناء التحضير لما سمي “المجلس الوطني لاعلان دمشق”، بسبب رفضه تضمين مشروع الوثيقة المقترحة للمجلس أي موقف مضاد أوسلبي من “المشروع الأميركي”، وهو أمر كان وراء تخطيطه لإقصائهم عبر انتخابات ذلك المجلس في يوم انعقاده (1 كانون الاول 2007).
توضحت، خلال أعوام 2007 و2008 و2009، مآزق وانسدادات “المشروع الأميركي” للمنطقة. هذا المشروع الذي أخذ شكلاً ايديولوجياً – سياسياً عبر “مشروع الشرق الأوسط الكبير” (13 شباط 2004). لم تقتصر هذه المآزق والانسدادات على بغداد وكابول وإنما امتدت إلى غزة وبيروت، لتصل عبر ذلك إلى حدود ميل ميزان القوى لمصلحة “الاقليمي”: حلف طهران – دمشق – “حزب الله” – حركة “حماس” على حساب “الدولي”: واشنطن في منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
انعكس هذا على مجمل السياسات العامة في المنطقة، وامتد بانعكاساته إلى واشنطن حيث لا يمكن عزل انتخاب باراك أوباما عمّا جرى في المنطقة الممتدة بين كابول وشرق البحر المتوسط، فيما يمكن القول إن حركة الملك عبدالله بن عبد العزيز في اتجاه المصالحات العربية تعبر عن قراءة سعودية جديدة تتضمن ادراكاً لانتهاء المشهد الاقليمي الذي بدأ في 9 نيسان 2003، ولضرورة تكوين وزن عربي لملء الفراغ الناتج عن التراجع و”استراتيجية الخروج” الأميركية من المنطقة بدلاً من أن تملأ هذا الفراغ القوتان الصاعدتان في طهران وأنقرة، وهو أمر عبر عنه علناً الرئيس الايراني في اسطنبول قبل أشهر.
على الصعد المحلية، لايمكن عزل المراجعة التي أجراها الأستاذ وليد جنبلاط في كلمته يوم 2 آب 2009 عن قراءة جديدة لمتغيرات المشهد الاقليمي من قِبَله. لايلاحظ شيء من هذا على صعيد المعارضة السورية، في مراجعة جدوى وحصيلة تغيير القمصان الايديولوجية وتلك المراهنات السياسية التي تمَت في السنوات الست السابقة، والتي لم تنتج أكثر من طبخات سياسية محروقة، لم تعطِ فقط طعاماً غير قابل للتناول وإنما أيضاً أحرقت الطنجرة وعموم المطبخ.
بدلاً من المراجعة، والجرأة عليها، طلع حزب الشعب أخيراً بـ”مشروع موضوعات” وبوثائق لمؤتمره المقبل لاتقول شيئاً من المراجعة، في نزعة هروبية إلى الأمام، فيمارأينا مراقب الاخوان المسلمين السيد علي البيانوني يجري شيئاً من المراجعة الضمنية عبر تغيير المواقف والمواقع.
السؤال الآن: هل ستحصل مراجعة جدية لأفكار ولسياسات ومراهنات ساهمت أساساً في تدمير مجمل المعارضة السورية؟ أم أن كل مراجعة مشروطة، عند السياسي، بمدى قوة قاعدته الاجتماعية، فيما لا يستطيع ذلك الفاقدون للجذور في مجتمعهم أوالمعتاشون على الأوكسيجين الخارجي؟
( كاتب سوري)
النهار