مراجعة لبنان… السورية
أحمد جابر *
لم تعد مياه العلاقات اللبنانية – السورية إلى مجاريها، لأن ثمة مياهاً كثيرة لم تغادر قنواتها، أما انخفاض منسوب تدفق المياه، فعائد إلى شحائح السياسات، التي عرفت التقطع، لكنها لم تكن مرشحة للوصول إلى حالة الانقطاع! فتح نوافذ «السدود» بين البلدين، يتطلب مراجعة الحقبة التي انصرمت، من قبل القوى التي سادت ساحاتها، سياسياً واجتماعياً. أدوات المراجعة متعددة، لكن الحاسم، منها، أو الأهم من بينها، هو كمًّ الوقائع المادية، التي أوصلت إلى نقطة اللقاء، في مكان ما من المسافة، بين السياستين اللبنانية والسورية.
عناوين منتقاة، تصلح لأن تشكل مادة المراجعة، من قبل اللبنانيين، تتعلق بحقوقهم وواجباتهم، وترفع الغطاء عن ادعاءاتهم ومحاذيرهم، وتتناول خلفياتهم السياسية في علاقاتهم المتشعبة، مثلما تطل على رؤيتهم للمستقبل… الذي ما زال ممتنعاً على «الوضوح»، على رغم السنوات الكيانية المديدة!
قوى المراجعة، اليوم، طائفية المنبت والخطاب واللغة واللسان والوجهة… هكذا هو الواقع الراهن، لذلك ينبغي أخذ أمور اللوحة الواقعية بالاعتبار، لتحليلها وفهمها، وليس على سبيل تقبيحها وشتمها. صورة تلك القوى، الأقرب إلى المعاينة، هي صورة الحكومة التي أعطيت اسم حكومة الوفاق الوطني. لكن ماذا تعني هذه الحكومة بصيغتها الراهنة؟ المعنى الأوضح لها، أنها حكومة الممكن، الإقليمي والداخلي، ومن خلفهما المرغوب الدولي، والمسموح به، في سياق الرؤى السياسية العامة، لكل الأطراف.
الانطلاق من واقع الحكومة، هدفه القول: إن مراجعة سياسة لبنان السورية، منوطة بهذه المحصلة الطائفية، وأن أقلام المراجعة لا تستطيع تجاهل الأوزان الحقيقية، لقوى الائتلاف الوطني، الحكومي، هذا للقول أيضاً، إن سياسة أهل التوازن اللبناني الجديد، ستضع في حسبانها «سلّة مصالحها» الذاتية، وهي تعيد رسم خطوطها المتجهة إلى سورية، ولدى تحديد نقاط الوصل، والوقف فوقها. تأسيساً على ذلك، قد يسعى البعض لتثمير العلاقة «المباحة» مع سورية، في تحسين مواقعه الداخلية، وفي الإضافة إلى عناصر قوتها، مثلما قد يجهد بعض آخر، في سياسة التقاط الأنفاس، بعد رحلة الإنهاك الطويلة، وقد يصارع فريق للبقاء، بقوة، على خارطة التوازنات الداخلية، مثلما يناضل فريق آخر لعدم إزاحته من تضاريسها… بكلمات، قد يعاد استعمال «الورقة السورية» في سياق تأكيد أرجحيات طائفية، وتلميع أطراف منها، وإرخاء ظلال من الفتور المدروس، على بعض أفرقائها… هنا يعود السؤال ليطرح نفسه: هل يشكل ذلك مراجعة لبنانية لسياسة الطوائف، «السورية»؟ أم إن الأطياف اللبنانية تستعيد لعبة الاستقواء، الأثيرة لديها؟ فتعود من ثمّ إلى وهم قدرتها على استعمال الآخرين، في صالحها، في الوقت الذي تتكشف الحقائق على أن لا خدمات سياسية بالمجان، وأن المستعمل يكون مستعملاً في الوقت ذاته؟!… ودائماً حسب ميزان القوى، الذي يتيح القدرات اللازمة لكل طرف من الأطراف.
قد تكون الخلاصة، من الكلام الذي سبق، أن لا ثقة بقدرة «أسياد السياسة» الحاليين، على القيام بالمراجعة المطلوبة… لكن وبرغم كل ذلك، وتأسيساً على الاستناد إلى الواقع، والوقائع، يظل من الموضوعي الإشارة إلى عناوين، باتت تشكل معطيات لبنانية حقيقية. هنا، نستطرد قليلاً، لنشرح، أن غنى المعطى بالمضامين يضيف إلى وزن كينونته، وأن افتقاره إلى قرائن كثيرة دالّة، لا يلغيه كمعطى، وإن أشار إلى حدود تأثيراته، ضمن لوحة المعطيات العامة. عليه، يمكن القول، إن ثمة «موضوعات» بات يمتلكها اللبنانيون، طرحت نفسها بقوة، خلال فترة «النفور» الماضية، وأنه لا غنى عن استحضارها، وليس مفيداً القفز فوقها… لأن هكذا مسلك يوحي بالقول، إن ما عاشه اللبنانيون لم يكن حقيقياً، وإن ما رفعوا الصوت لأجله كان وهماً، وإن المرحلة المقبلة تتطلب الابتعاد عن الوهم، والعودة إلى جادة العقل، الذي فارقه «الجمع» طيلة أعوام الحقبة المنصرمة.
في طليعة المعطيات، يأتي المطلب الاستقلالي. استحضاره ضروري، والحديث عن مراجعة لبنانية لا يكتمل بدونه. هذا لا ينفي اختلاف الرؤى والاجتهادات، لكنه يدل على أن المراجعة مطالبة بقول كلام في معادلة «لبنان الساحة»، وفي معادلة «لبنان اللبناني»،… هذا للقول إنه لا يمكن تجاهل نقاش حقوق «الكيانية اللبنانية»، والواجبات حيالها. معطى آخر ينبغي أن تتوقف مراجعة العلاقات عنده، وتشدد عليه، هو مطلب اللبنانيين باحترام «خصوصيتهم الوطنية»، على علاتها، وبالتالي مؤازرتهم في بلورة قضاياهم، وتبرير هواجسهم، ومساعدتهم في تصليب عود سلامهم الداخلي، وتسهيل السبل أمام تطور بناء نسيجهم الاجتماعي… لأن الأمرين ما زالا مهتزين، بسبب التقاء عوامل داخلية وخارجية.
معطى إضافي، يجب أن تضمه لائحة المراجعة، هو مطلب العلاقات المتكافئة والمتوازنة، بين لبنان وسورية، مع التنبيه إلى أن التوازن تصنعه القناعات أولاً، ومن ثم ميزان الوقائع الذي يعبر عنها. التشديد على «القناعات» ضروري، لأن العلاقات اللبنانية – السورية حُشيت بالإيديولوجيات من طرفيها، ومن موقعي القبول والرفض. ما تقدم قد يكون المدخل الأسلم لتقليب دفاتر الأيام السورية اللبنانية، لأنه يتجه صوب صياغة لبنانية، لمعطيات تشكل قواسم مشتركة بين أهل البلد، أولاً، لتشكل مقياساً مرجعياً، لكل علاقة مع الآخرين كخطوة لاحقة. لكن هل يمكن ذلك، والأمر ما هو عليه لبنانياً؟ ربما… لكن يجب التشديد دائماً، على ضرورة الحفاظ على ما جرى تحصيله من معطيات رمزية، تصلح، على خلافيتها، لأن تعيد تظهير «الصورة الكيانية اللبنانية»، بمضامينها الجديدة!! في هذا السياق، يلح على المراقب السجال الذي ما زال مفتوحاً، حول الاستقلال والعروبة، وحول المقاومة والديموقراطية، وحول السلم الأهلي وتطلب الوصول إلى تسويات داخلية، لا يقلل من شأنها طابعها الطائفي… خاصة إذا كان الأمر على صلة بالتأسيس، لديمومة مستقبلية هادئة.
* كاتب لبناني
الحياة