الطائفية بين سائق التاكسي والمثقفين
حسين شاويش
كان يجري في لبنان خلال كتابة هذا البحث مشهد طريف، فأحد كبار الطائفيين السياسيين أعلن ضرورة البدء الجدي بإلغاء الطائفية السياسية. من لا يعرف المشهد اللبناني كان له أن يبدأ فورا بالتفاؤل وبالحديث عن مكر التاريخ،الذي جعل – هذه المرة- ملكا يلغي الملكية. ‘أهل مكة’ سيهزّون أكتافهم لأنهم يعرفون أكثر عن ‘الملوك’ الآخرين المطلوب إلغاؤهم..
إنها لعبة شطرنج شاذة بثمانية عشر ملكا أو أكثر..
سألت سائق تاكسي في بيروت ‘متى تنتهي الطائفية في لبنان؟’ فأجاب ‘يوم القيامة’. عندما سألته عن السر في هذا التشاؤم قال: ‘لأن الأديان خالدة’ وعندما ذكرت له بلدانا أخرى فيها أيضا ‘أديان خالدة’ ذكّرني بأن طوائف تلك البلدان ‘رأيها من رأسها’ وليس من رؤوس تعيش خارج الحدود..
هكذا بوضوح و’دوغري’ ككثير من سائقي التاكسي الذين ركبت معهم في زيارتي الأخيرة إلى بيروت اختصر ذلك الرجل تشخيص المسألة.
عاملان أساسيان في ‘الطائفية السياسية’ فهمهما ‘سائقي’ المذكور الأول ينبش جذرها ‘الطائفي – الديني’ والثاني علاقتها بالمصالح السياسية الخارجية. هذا الوضوح لم أجده في كثير جدا من كتابات تنظيرية تحاول أن تفهم الظاهرة. بل إنني يمكن بقدر كاف من الجرأة أن أدعي أن ثمة تابو واضحا يحاول فصل مشكلة الطائفية عن تأثير ‘المؤسسة الدينية’ ومحاولة الاقتصار على التركيز على بعدها السياسي وأنا مدين للقارئ هنا طبعا بأمثلة.
في احدى مقالاته يختصر برهان غليون أطروحته الأساسية بالشكل التالي: ‘في كتابي المنشور عام 1990 بعنوان نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة، طرحت نظرية تقول بأن الطائفية تنتمي إلى مجال السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس دفاعا متعصبا عن دين أو مذهب. وفكرة السوق السوداء أو الموازية في السياسة تتنافى مع الاعتتقاد السائد بأن الطائفية تقليد عربي قديم ومستمر، وتجعل منها ظاهرة مرتبطة بحقبة الحداثة الجديدة وطابعها المفارق معا’.
حسب هذه النظرة فالطائفية هي نوع من أنواع الممارسة السياسية للوصول أو الحفاظ على السلطة. وباعتبار أن ذلك يجري في الزمن الحديث، حيث السلطة السياسية هي بالتعريف حكومة المجال العمومي الشامل لكل مجموعات المواطنين فالممارسة الطائفية هي إذن غير شرعية. إنها عمل في ‘السوق السوداء’ للسياسة.
وجهة النظر هذه نجدها بشكل آخر لدى ياسين الحاج صالح:
‘فالطائفية استراتيجية تعبئة تهدف إلى تشكيل لاعبين سياسيين في سياق الصراع على السلطة والثروة. وهي تنشّط التكوينات الأهلية الخاملة سياسيا (نسبيا) بهدف تصنيع الطوائف والطائفية السياسية منها’ وعلى هذا الأساس: ‘مفتاح فهم الطائفية ليس الطوائف بل نظام السلطة’.
ولقد تشكل عندي انطباع لدى قراءة كلا هذين الكاتبين أن القارئ سيتفق معهما للوهلة الأولى لا في هذه الفكرة فحسب، بل في كل ما كتباه حول المسألة الطائفية بشرطين فقط، الأول هو أن تكون المقصودة بالدراسة الحالة السورية في الثلث الأخير من القرن العشرين حصرا. أما الشرط الثاني فهو أن نوافق على أنه لا طوائف خارج السياسة.
وعلى هذا فيبدو العيب في هذا ‘التسييس’ المفرط واضحا إذا خرجنا عن الحالة السورية (ماذا كانت المصلحة السياسية لوهّابيي بداية القرن لقمع الطائفة الشيعية في السعودية التي لم تكن حتى تحلم بالمنافسة على السلطة؟) أو إذا قررنا أن نرى مستويات العملية التاريخية كلها في وقت واحد، أقصد المستوى الأيديولوجي والإقتصادي والسياسي، دون أن ننسى طبعا تحديد العلاقات بين هذه المستويات وديناميكية هذه العلاقات (أي تغيرها المستمر) وتحديد العامل الحاسم فيها وكيف أمكن له أن يكون حاسما، وأخيرا إذا قررنا أن لا نهمل العوامل الإقليمية والعالمية.
فحتى في المثال السوري لم يكن من الممكن أن يكون العامل السياسي هو العامل الحاسم في ‘تطييف’ المجتمع سياسيا لولا بنية إقتصادية معينة هي بنية ‘رأسمالية الدولة’، حيث تتصرف النخبة السياسية بالريع الاقتصادي للقطاع العام، ولولا الدور الخاص المنوط بالضباط السوريين وبالجيش عموما بسبب نكبة فلسطين وقيام اسرائيل والحرب معها. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كان من الممكن للنخبة السياسية المستبدّة أن تكتفي بالنظام الديكتاتوري على طريقة بينوشيه أو باتيستا أو حتى هواري بومدين، أي دون أن تلجأ إلى الطائفية. بل إن محاولتها ‘التطييفية’ كان من الممكن أن تفشل لو لم تستطع أن تموّلها من خلال التحكم بالقطاع الاقتصادي كما أسلفنا، أو لو لم ترد عليه الجماعات الإسلامية المسلّحة بطريقة طائفية (الاغتيالات الطائفية، اللغة التحريضية الطائفية..الخ) تساهم بتكريس تطييف المعركة السياسية..
ثم أليس لنا ان نتساءل عن دورالإيديولوجيا الطائفية التي كانت موجودة إما بشكل كامن أو حتى بشكل سياسي غير مباشر، أي من باب تحصيل الحاصل، أقصد لدى الأحزاب التي تقتصر بطبيعة فكرها على طائفة معينة (الإخوان المسلمون والطائفة السنية). ألم تساهم ‘يهودية إسرائيل’ وطائفية النظام اللبناني ـ على الأقل- في الإبقاء على حياة اللغة الطائفية في مجال السياسة (إن لم يكن في العلن ففي السر)؟ ألا يمكن القول ان السلوك الطائفي للسلطة السياسية قد نزل على ‘الأجهزة الأيديولوجية للطوائف’ كمطر الربيع بعد أن كادت تتصحر بسبب موجة الحداثة في مرحلة الصراع التحرري والوطني في الخمسينات والستينات؟ قارن مثلا شعبية الإخوان المسلمين السوريين في الشارع السوري في أوائل الستينات وشعبيتهم في أوائل الثمانينات.
لكن التساؤلات السابقة لا تلغي الجانب الصحيح في الأطروحة التي يمثلها الكاتبان السوريان اللذان بدأت هذا الفصل بالاستشهاد بهما. إنها تعيده فقط إلى مكانه في اللوحة المعقّدة للصيرورة الطائفية. وبكلمات أخرى فلا شك أن العامل الحاسم في التطييف السياسي يجب البحث عنه في المستوى السياسي (على الأقل بحكم التعريف، أي لأنه تطييف سياسي!)، أي تلك الممارسات المتعلقة بالصراع على السلطة أوبالحفاظ عليها. ولكن باعتبار أن السياسة لا تموّل هي بحد ذاتها السياسة فلا بد من البحث عن الآليات الاقتصادية التي سمحت بذلك. وباعتبار ان رجل السلطة يحتاج إلى ‘شغّيلة أيديولوجيين’ يحوّلون الطوائف الخاملة سياسيا إلى التحزّب الطائفي ويجعلها تعيد ترتيب ‘أولوياتها الإنتمائية’ بحيث يصبح الإنتماء إلى الطائفة أهم من الإنتماء إلى الوطن أو الطبقة أو القومية، أي باختصار شديد يحّولون المجتمع من ‘مجتمع ذي طوائف’ إلى ‘مجتمع يعيش حالة طائفية’، أقول باعتبار ان رجل السلطة يحتاج إلى هؤلاء ‘الشغّيلة الإيديولوجيين’ فيجب البحث إذن فيما يفعله هؤلاء ‘الشغّيلة’ وسنجد أنفسنا إذن في صميم البحث في المستوى الأيديولوجي، لا السياسي.
إذن فدراسة الظاهرة الطائفية كظاهرة متكاملة وليس كناتج ثانوي للسياسة ليست شيئا أساسيا فحسب، وإنما هي شرط لجدية أي بحث في المسألة.
هذه الطريقة لطرح القضية تذكّرني بمشكلة الأدلجة في مسائل التنظير للأحداث عموما. لنأخذ حالة اليسار كمثال، فعندما كانت اللغة الطبقية هي الدارجة كان ‘العمق التنظيري’ للكاتب يتناسب مع كثافة توصيفه الطبقي للأحداث، ولم يكن يضير أن ينسى المنظّر أنه يتحدث أحيانا عن مجتمع إن كان فيه عمال فليس فيه لا طبقة عاملة ولا صناعة تصنع تلك الطبقة. وأنا هنا أمارس في الواقع نقدا ذاتيا لأنني كنت أحد هؤلاء ‘العميان الإيديولوجيين’. ومشكلة الماركسيين الذين أفاقوا على أهمية العامل القومي في بداية السبعينات، أي بعد أن انتهى زخم المد القومي في الواقع الفعلي يشبه مشكلة الذين يحجون والناس راجعة! كما يعرف كل من تابع شؤون الشيوعيين العرب..الخ.
فهل يكرر منظّرو اليسار السابقون منهجيّتهم الخاطئة إياها؟ هل يمارسون ‘العور النظري’ ـ بفتح العين والواو- إياه ثانية عندما يختصرون الظاهرة الطائفية بالعامل السياسي؟
ما هي العقبة المعرفية ـ بتعبير غاستون باشلار الشائع- الكامنة وراء هذا الخطأ الإدراكي؟
لقد كانت زيارة واحدة إلى لبنان تكفي لكي يدرك الكاتبان المذكوران أعلاه أن الطائفية هي مجتمع وتاريخ تماما كما هي سياسة..
لكن الأسئلة حول طريقة الإدراك لدى يسارنا ذات شجون ولربما كان من الأفضل العودة إلى هذه المحاولة في التنظير غير المبتسر والخالي من التابوهات لظاهرة الطائفية، لا كمجرد تكتيك سياسي ولكن كظاهرة أساسية. ولعل السؤال الأول هو ان كان هناك طائفية واحدة أم طائفيات لا يجمعها سوى الاسم. فما هو المشترك بين طائفية لبنان وطائفية العراق وتلك التي في الجزيرة العربية مثلا؟ تكاد النظرة الأولى تقول: لا شيء. الطائفية اللبنانية لا يمكن فهمها دون ‘قانون الملل’ العثماني والإمتيازات الفرنسية في لبنان، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالطائفة في لبنان ليست مجرد هوية ذات مرجعية دينية-لاهوتية بل تكاد الطوائف هنا أن تكون مجتمعات صغيرة منفصلة ضمن المجتمع الكبير لكل منها مؤسساته لا الدينية فحسب بل والتعليمية والترفيهية أيضا. أما تلك العراقية فلا يمكن فهمها دون فهم التركيبة العشائرية والدور الإيراني وربما ‘الحملّة الإيمانية الصدّامية’، لكن الطوائف العراقية ليست مجتمعات صغيرة متجاورة كما هي حال أختها اللبنانية (وإن كان العمل جاريا الآن لجعلها كذلك). في حين لا يمكن فهم الطائفية في السعودية دون فهم الوهابية وتاريخها الخاص.. فكيف لنا أن نتوصّل إلى نظرية واحدة تفسّر ذلك كله؟
ثم إن تلك التساؤلات كلها جاءت في إطار العصر الحديث رغم أن الطوائف الأساسية المتهمة بأنها ‘هي أصل المشكلة’ عمرها عشرات القرون. فهل نقول إن الطائفية هي ظاهرة حديثة استندت إلى بنى اجتماعية – سياسية موجودة منذ القدم (وهو رأي كثيرين أحدثهم فيما أعرف د. أسامة مقدسي في كتابه ‘ثقافة الطائفية’)؟
إذا كان ذلك كذلك فعلينا أن نجيب لا عن سؤال واحد أساسي بل عن اسئلة، الأول هو ما الذي أطال عمر تلك البنى القديمة كل هذا الطول، أم أنه سؤال نافل باعتبار تلك البنى نوعا من أنواع ‘سنة الكون’ إذ لا وجود لمجتمع بلا طوائف؟ والسؤال الثاني هو ما هي الآليات التي جعلت الصراعات الحديثة (حديثة هنا تعني قرنين من الزمان تقريبا) تختار تلك البنى لا غيرها ‘كحامل بشري’ يخوضها؟ وهذا السؤال الثاني يدفع بشكل آلي إلى سؤال آخر وفق ديناميكية فكرية معتادة وخاصة لدى مفكري اليسار مفاده: لمَ لا يكون الصراع بين الطوائف مجرد واجهة لصراعات أكثرعمقا وأهمية؟ وما هي تلك ‘الصراعات الأهم’ في هذه الحالة؟
لعل الخطوة الأولى في الجواب على هذه الاسئلة يكمن في التأمل في الظاهرة المدروسة بحد ذاتها للخروج بنوع من التعريف الشامل لها والمستند إلى رصد المشترك بين كل تظاهراتها الملموسة. يبدو لي في هذا السياق أن ما نسميه طوائف تشترك بالخصال التالية:
– أولها ان الطائفة هي ظاهرة مرتبطة بوجود الأديان، إذ لا طائفة بلا دين. وهذا ما يفرّق استعمال مصطلح طائفة هنا عن احد الاستعمالات الشهيرة للكلمة بمعنى فرقة أو مجموعة.
– ثانيها ان الطائفة تصر على أنها المقياس الhنتمائي لقسم من المجتمع ثابت هم أناس بعينهم مع أولادهم وأحفادهم..الخ أي ما يسمى عادة التقسيم العامودي للمجمتع. وهو المفهوم المضاد للتقسيم الأفقي الذي يعني الإنتماء الذي لا يستند إلى صفة ثابتة في الإنسان كاللون والجنس والدين (وهو ثابت عادة)، وإنما إلى وضع طبقي أو سياسي قابل للتغيير، ومن ثم فهو قابل لأن ينتشر في كل ‘طوائف’ المجتمع، أي أفقيا. وعلى هذا ففي ‘الحالة الطائفية’ يحاول القادة الطائفيون لا تغيير الإصطفافات السياسية فحسب (أي القضاء على أي شكل لتنظيم الأفراد سياسيا لا يستند إلى الانتماء الطائفي كالأحزاب اليسارية والقومية مثلا)، بل وحتى إعادة التوزيع الجغرافي لتواجد أفراد الطائفة بما يخلق وحدات سكانية ‘صافية’ طائفيا وهو ما يجعل ‘التقسيم العامودي للمجتمع’ واقعا يمكن رؤيته ولمسه فعلا.
– ثالثا لكل طائفة ‘ثيولوجيا’ معيّنة تتفق بخطوط عريضة يعرف أعضاؤها بوجودها على الأقل إن لم يكونوا يعرفونها معرفة تتفاوت بين فرد وآخر وإن كانت القاعدة العامة هي المعرفة الجزئية والانتقائية والتي تختلف حسب الظروف و’لزوم الصراع الإيديولوجي مع الطوائف الأخرى’. هذه الثيولوجيا هي جزء مكوّن (بكسر الواو) أي أساسي، لكنه ليس وحيدا، من ايديولوجيا الطائفة. جزء من هذه الثيولوجيا ـ على الأقل- له علاقة بدين ما من الأديان المعروفة.
– رابعا لكل طائفة ‘ممثلون ايديولوجيون’ يشكلون في الحالة الأنموذجية ‘مؤسسة’ أيديولوجية. جزء منهم ينتج ويعيد إنتاج ‘الثيولوجيا’ المذكورة في الفقرة السابقة والمكوّنات الاخرى للأيديولوجيا الطائفية، كالحكايات والأساطير حول مميزات الطائفة وتاريخها..الخ. وقد كانت هذه المؤسسة تمثل سياسيا طائفتها في بعض العهود وسنتحدث عن دورها في تقوية اللحمة الطائفية ومن ثم الظاهرة الطائفية ككل. هذه المؤسسة الأيديولوجية قد تكون الموجّه للأحزاب السياسية الطائفية. غير أننا بطريقة أخرى للنظر يمكن أن نعتبر تلك الأحزاب جزءا من ‘المؤسسة الإيديولوجية الطائفية’ بالمعنى النظري العام، إذا أخذنا بعين الإعتبار ما تقوم به تلك الأحزاب من إعادة انتاج (وهي إعادة إنتاج انتقائية دائما، أي أنها إعادة تركيب) وتوسيع الأيديولوجيا الطائفية.
– خامسا: القاعدة العامة هي أن جزءا من الأيديولوجيا الطائفية يؤكد على التطابق بين الثيولوجيا الطائفية المذكورة أعلاه وبين ‘الدين الحقيقي’، فإذا كان ‘الفهم الظاهري’ لنصوص الدين الذي تدعي الطائفة تمثيله لا يطابق الفهم الظاهري لنصوص الثيولوجيا الطائفية اتبع المنظرون الأيديولوجيون للطائفة استراتيجيات معيّنة لإعادة إنتاج ذلك التطابق. أشهر تلك الاستراتيجيات هي انتقاء نصوص بعينها واعتبارها هي الصحيحة وما سواها محرّفا. الاستراتيجية الأخرى هي تأويل النص غير المطابق ظاهريا لأحد نصوص ثيولوجيا الطائفة بحيث يزول الخلاف الظاهري بين النصين.
– سادسا: كل تلك الطوائف هي نتاج تاريخي. يمكن بدقة متناهية أحيانا تحديد تاريخ نشوء بعضها. بل إن بعضها قد زال كليا دون أية آثار، وبعضها يضمحّل ويذوب الآن أمام أعيننا..الخ
– سابعا: في كل تلك الحالات لا يمكن فهم سيرورة تشكل الطائفة وتطورها بمعزل عن الوسط، الذي قد يكون إقليميا أو عالميا. هذه العلاقة البنيوية بالوسط ذات طابع معقّد ذي سمات كثيرة واحد منها سياسي دائما، أي أنه يتناول موضوع السلطة واقتسامها.. وهذا الطابع يجب فهمه بشكل جدلي وديناميكي. أي أن الطائفة (كمؤسسة) هي فاعل ومنفعل في الوقت نفسه، مغيّرة ومتغيرة من خلال التفاعل مع وسطها، وخاصة ببناه السلطوية. هذا التفاعل يعني أن نمطا معينا من ممارسة السلطة ومن البنية السياسية ‘يناسب’ إنتاج الطائفية (أي تحويل الهوية الطائفية من هوية دينية غير سياسية إلى مايشبه الهوية السياسية). التي ستساهم بدورها بإعادة إنتاجه هو نفسه، وغالبا ما ينتهي الأمر بخلق ‘حالة طائفية’ ـ انظر تعريفها أدناه-. ونحن هنا نتحدّث عن طوائف قائمة تاريخيا، غير أن تلك الأنماط المذكورة من الممارسة السلطوية والبنية السياسية قد ‘تنتج’ طائفة جديدة فعلا، أنظر مثال الدولة السعودية الأولى.
-ثامنا: لا طائفية بلا ‘وعي طائفي’. هذا ‘الوعي’ هو ظاهرة معقدة بحد ذاتها، فهو مزيج من تحديد معين للهوية الشخصية والجمعية، مضافا إليها موقف من الطوائف الأخرى. القاعدة العامة هي أن هذا التحديد للهوية مترافق مع توصيف للطائفة توصيفا يفرّقها عن سواها من الطوائف (وإلا لفقد صفته كهوية). هذا التوصيف يستند إلى ما أسميناه أعلاه ‘الإيديولوجيا الطائفية’ ويساهم هو نفسه من خلال الحراك الإجتماعي-السياسي في تشكيل وإعادة تشكيل تلك الايديولوجيا. على أساس هذا التعريف فإن مجرد اعلان الإنتماء إلى طائفة ما واعتبار هذا الإنتماء هو واحد من انتماءات أخرى وليس محددا للهوية أو ليس بالمحدد الأساسي لها لا يعتبر ‘وعيا طائفيا’ وخاصة إذا كان الفرد موضع البحث لا يعتنق الايديولوجيا الطائفية بالمعنى المذكور أعلاه أو لا يعلن أي موقف مميّز لطائفته عن سواها.
إن التأمل بالخاصّتين الأخيرتين يجعلنا نخرج بما يشبه القانون. فنحن لن نعثر على ‘وعي طائفي’ لدى أفراد الطائفة التي لا ينازع سلطتها أحد ضمن مجتمع ما، أو عندما يكون مقياس توزيع السلطة الفعلي ليس طائفيا، رغم أن أولئك الأفراد، كلهم أو بعضهم، قد يعلنون انتماء إلى تلك الطائفة.
لقد ورد أعلاه تعبير ‘الحالة الطائفية’ دون تعريفها. وهذا التعبير يستند إلى فكرة أن المجتمع يمر بحالات متغيّرة وفق تغير الظروف الداخلية والخارجية وواحدة من هذه الحالات هي الحالة الطائفية. إنه وضع سياسي-اجتماعي- أيديولوجي معين يتمتع بعدم الاستقرار ويصبح فيه ‘الوعي الطائفي’ من أهم محددات الهوية الفردية والجمعية ومن ثم فهو سيصبح من موجّهات الصراع السياسي. ولتوضيح الفكرة فلنقارن الهوية الأساسية التي تحدد اصطفاف الفرقاء في كل من الحروب الأهلية التالية: الحرب بين قبائل الهوتو والتوتسي في رواندا، الحرب الأهلية الإسبانية، حرب الثلاثين سنة في المانيا. يمكن بالاستناد إلى المقياس نفسه أن نقول ان رواندا في مثالنا هذا كانت تعيش ‘حالة عنصرية- اثنية’ بينما عاشت المانيا في تلك الأيام ‘حالة طائفية’ أما اسبانيا فهي الوحيدة التي كانت في حالة حرب أهلية سياسية الطابع. إن استعمال مصطلح ‘حالة طائفية’ له مبررعملي فقط. فهو ليس بالوصف الشامل لحالة المجتمع، ولا هو بالقادر على إلغاء أوصاف أخرى قد تكون عملية ومفيدة في سياقات أخرى طبعا. أوضح مثال على ذلك هو مصطلح ‘سياسي’. فكل الصراعات المذكورة في المقارنة السابقة ذات طابع سياسي. لا يشك في ذلك عاقل. رغم ذلك فإن اقتراح مقياس الحكم على طبيعة الاصطفاف في الصراع هو الذي يعطي كلا من الوصفين ‘طائفي’ و’عنصري- اثني’ مبرر استعمالهما. فمن الواضح أنك لو سألت الفلاح الألماني الذي كان يرابط خلف متراسه في حرب الثلاثين سنة عن هوية موقعه الحربي لقال لك فورا انه انجيلي أو كاثوليكي وكلاهما وصف لطوائف. على نفس السؤال سيجيب الرواندي بأنه هوتو أو توتسي وكلاهما توصيف عنصري- اثني، أما الإسباني فسيقول انه جمهوري أو ملكي، يساري أو يميني الخ، أي أنه اصطفاف سياسي كما هو واضح.
أذكر أخيرا بأن الحالة الطائفية ليست هي الحالة الثابتة للمجتمع، بل هي إحدى حالته غير المستقرة. ويمكن تشبيه ذلك بما يسمى في الطب البشري ‘الحالة الربوية’ أو ‘الحالة الصرعية’ فالمريض الربوي لا يعاني دائما من أزمة ربوية حادة بل فقط في حالة الأزمة، وكذلك الأمر لدى من لديه صرع..الخ. لا شك أن الكثيرين سيحتجّون فورا على هذا التشبيه، فوجود الطوائف بحد ذاته ليس مرضا، بل يكاد يكون الحالة ‘الطبيعية’ للأشياء.. وسأبادر فورا إلى التوضيح بأن وجود الطوائف بحد ذاته لا يخلق بالضرورة حالة طائفية بل وليس كافيا لوحده حتى في أسوأ الظروف إلى خلق تلك الحالة الصراعية. الصراع الطائفي يخضع بشكل عام إلى قوانين الصراعات السياسية التي تستدعي وجود أسباب معقّدة محلية وإقليمية وعالمية كما تسبقه عوامل اقتصادية واجتماعية- طبقية..الخ. ويبدو لي أن انقسام الأديان إلى طوائف يكاد يكون فعلا أحد ‘سنن الكون’، نجده في الإسلام والمسيحية كما في البوذية وسواها.. بل إن الطائفة الواحدة نفسها لا تلبث أن تنقسم إلى طوائف فرعية وهكذا..
إن وجود الطوائف بحد ذاته هو إذن ظاهرة مرتبطة بوجود الأديان وستبقى ما بقيت تلك. ولذلك فما هي ‘بالظاهرة المرضية’ بحد ذاتها إلا إذا اعتبرنا أن الحالة الطبيعية للمجتمع هي أن يكون مريضا (وقد يقول قائل: ولم لا؟).
هل تتعلق مسألة الحكم على الطوائف ـ أو محاولة فهمها- إذن بمجرّد ‘طريقة النظر’ إلى الأشياء؟ أي أنها شيء نسبي تماما يختلف باختلاف الناظر او باختلاف الزاوية التي ينظر منها؟ أليست هناك علاقة بنيوية بين انقسام المجتمع إلى طوائف وبين ‘الطائفية’؟ ومن جهة أخرى أوليس ممكنا أن يسود السلام الاجتماعي إذا اتبع الناس المبدأ الذي كنت أسمعه من أمي دائما: ‘كل من على دينه الله يعينه’ والذي يستدعي إلغاء ‘الموقف التقييمي’ حيال الطوائف الأخرى، ومعه يلغى بشكل شبه تلقائي الموقف النفسي العدائي أو الاحتقاري لأتباع الأديان والطوائف الأخرى؟ أخيرا فلماذا استطاعت المرحومة أمي المرأة الأمّية التي لم تزر مدرسة في حياتها ـ ومعها جيل بكامله عاش في خمسينات وستينات القرن الماضي- أن تتخذ من الشعار المذكور مبدأ لها في الحياة بينما عاد الجيل التالي لها إلى متاريسه الطائفية والدينية؟ لا يمكن التخلّص من هذا ‘الخلط’ والإجابة عن تلك الأسئلة إلا بطريقتين: الأولى تبسيطية إما أن تلغي وجود الظاهرة أو تلغي أهميّتها على الأقل باعتبارها مجرد مجموعة من المؤامرات التي مصدرها إما الاستعمار او قوى أقليمية أو محلية ذات مصالح ما..الخ. الطريقة الثانية هي إيلاء تعقيد المسألة ما تستحقّه من البحث وتوطين النفس على قبول نتائج ذلك البحث الموضوعي كائنة ما تكون. إن من شأن إعادة التأمل في هذه المحاولة التعريفية الأولية أن توصل إلى توجّه عام يوزّع الاهتمام بين عوامل بنيوية ‘داخلية’ وعوامل محيطية خارجية. كلا النوعين من العوامل يساهم في ‘إعادة إنتاج’ الطائفة وترسيخ الهوية الطائفية. النوع الاول من العوامل يتوزّع بين ‘البنية التكوينية’ للطائفة بما في ذلك المستويات المختلفة للسلطة الأيديولوجية وأحيانا الإدارية او السياسية..الخ و’المكوّن الثيولوجي’ أو ما يسمى عندنا عادة ‘العقيدة’ ووظيفته هي تأمين ‘لحمة رمزية’ للطائفة قد تكون سرية أحيانا. جزء من هذه الثيولوجيا تتركب مع مجموعة من القصص والتصورات (بعضها وقائع تاريخية. غير أن التأكد من صحتها التاريخية لا قيمة له أبدا ولا يؤثر على أية حال في الدور الذي تلعبه في تكوين هذا ‘المخيال الجماعي’) لتشكل بمجموعها ‘أيديولوجيا’ الطائفة. جزء أساسي من هذه الأيديولوجيا يصوغ ويبرر الموقف من الطوائف الأخرى المنافسة أو المشاركة في المجتمع المعني.
أما النوع الثاني من العوامل فهو يتعلق بالشروط والظروف والقوى المحيطية، أي كل ما لا يتعلق بالبنية الذاتية للطائفة. جزء من هذه العوامل هو موقف الطوائف الأخرى من الطائفة المعنية طبعا. غير أن الحاسم فيها هو موقف السلطة السياسية من ناحية والعلاقة ـ سلبا أو إيجابا- التفاعلية بالقوى الإقليمية والعالمية..
يبدو لي بعد شيء من التأمل في هذا التنظير الأولي أن الخطوة التالية يجب أن تكون نوعا من ‘الدراسة التاريخية التجريبية’ للظاهرة الطائفية في بلدان أخذت فيها تلك الظاهرة شكل ‘البنى الناجزة’ ومقارنة السيرورات المختلفة لعمليات تشكل الطائفية للخروج بقوانين عامة لها سمة العلمية. على الأقل لكي يكون عندنا ما نخبر به سائق التاكسي الذي دفعني إلى كتابة هذا كله. أقصد أن نخبره بما لا يعرفه..
‘ كاتب فلسطيني مقيم في برلين