صفحات العالمما يحدث في لبنان

«مساحة» خارج الاصطفاف اللبناني و «نافذة» على دمشق

بهاء أبو كروم *
في تاريخ 23 كانون الثاني (يناير) 2010 نشب سجال علني بين رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ورئيس تكتل الإصلاح والتغيير ميشال عون على خلفية طرح بري موضوع خفض سن الاقتراع إلى سن الـ 18، وجاء ذلك بعد سوء تفاهم بين الرجلين نشأ مع دعوة بري الى تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية ومسارعة عون بالدعوة إلى سحب هذا الاقتراح من التداول.
ومع أن البيان الذي أذاعه بري عكس احتقاناً لافتاً وكان يحمل أبعاداً تتجاوز الخلاف المُعلن، لم يتأخر «حزب الله» في لمّ الشمل وإعادة جمع ممثلين عن الرجلين بهدف تجاوز الأمر.
وفي 31 كانون الثاني 2010 اجتمعت قوى 14 آذار في البريستول وأذاعت بياناً دعت فيه إلى إحياء ذكرى الرئيس الشهيد رفيق الحريري بإقامة تجمع شعبي في ساحة الحرية وجددت التزامها الشعارات الرئيسة لثورة الأرز مع اختلاف ملحوظ بالنبرة الهادئة، وتميّز الاجتماع بحضور الرئيس سعد الحريري ومن ثم تُرجم ذلك في إقامة تجمع كبير بذكرى 14 شباط (فبراير) في وسط بيروت أعاد الاعتبار الى قوى 14 آذار والتيار الاستقلالي وذكّر بالمبادئ والمرتكزات التي قامت عليها ثورة الأرز.
في المشهد الأوّل، ظهر أن «حزب الله» غير مستعد لفرط عقد تحالف 8 آذار، وفي المشهد الثاني ظهر أن الشيخ سعد الحريري غير جاهز لفرط تحالف 14 آذار. بالنتيجة، فإن القوى الأساسية في لبنان وامتداداتها الإقليمية لا تزال تتمسك بالاصطفاف القائم وذلك على رغم دخول جميع القوى السياسية إلى حكومة اتحاد وطني وغياب معادلة معارضة – موالاة، وعلى رغم تطور العلاقات اللبنانية – السورية إلى حد مقبول نسبياً، وعلى رغم المصالحة السورية – السعودية وزيارة الحريري لدمشق وتصاعد التهديدات الإسرائيلية لكل من سورية ولبنان.
في المحصلة، فإن التسوية السياسية التي فُرضت على الأطراف والقوى اللبنانية بعد الانتخابات النيابية لم ترقَ حتى الآن إلى اعتبارها تسوية ناجزة بالمعنى الذي عكسته الأجواء الإيجابية التي واكبت تحسن العلاقات بين لبنان وسورية، ذلك أنها عجزت عن تطبيق مقررات الحوار الوطني التي توافق عليها اللبنانيون عام 2006 وعجزت عن التوصل إلى حل لموضوع الاستراتيجية الدفاعية، وهو ما يبشر بأن السياق المُتوافق عليه يتلخّص بانتظار استحقاقات داخلية أو إقليمية تعيد إنتاج تسويات أخرى في المستقبل. لذلك ربما لا يزال مطلوباً من اللبنانيين الإبقاء على اصطفافاتهم التي تعبّر عن الحاجة إلى التحضر لدخول موجة جديدة من التجاذب السياسي الذي قد ينشأ على عناوين خلافية لا يتم بتّها حالياً، وهذا ما يحصل من حين لآخر بالنسبة إلى كثير من القضايا المختلف عليها بين اللبنانيين.
لكن الإضافة التي يمكن رصدها في هذا المشهد هي أن الواقع الذي يقوم عليه الاصطفاف الحالي لم يعد ثنائياً بل أضحى ثلاثي الأبعاد. والدوافع التي تتم عليها الاصطفافات الحالية لم يعد موضوعها سيادياً حصراً، بل انضمت إليها قضايا ذات طابع سياسي، تنموي وإصلاحي، وكل ذلك يفترض إعادة خلط للأولويات. فقد تم تشكيل مساحة استثنائية أوجدها خطاب «الوسطية» الذي استهله وليد جنبلاط في البداية ومهّد لـ «تمايز» سعد الحريري عن 14 آذار لاحقاً (تكرس ذلك في الخطاب الذي ألقاه في الذكرى الخامسة لاستشهاد رفيق الحريري)، وفتح الباب أمام حركة سياسية لميشال عون تتجاوز إطار 8 آذار. ومع أن حركة جنبلاط لم تؤدّ إلى كسر الاصطفافات ولم تتم ملاقاتها فعلياً، إلا أنها تموضعت في مساحة يزداد اتساعها كلما تراجعت العناوين الرئيسة المُتصارع عليها وتضيق كلما اشتد الصراع الإقليمي.
و «الوسطية» هذه شكلت مخرجاً لأزمة الفراغ الرئاسي التي نشأت بعد انتهاء ولاية إميل لحود. والحال، فإن التداخل في المواقع والاتجاهات يتم بحسب الموضوع حالياً مع الاحتفاظ بالتوازن «الاستراتيجي» بين الأطراف الداخلية الذي لا يزال مطلوباً من القوى الإقليمية والدولية بانتظار استحقاقات كبيرة تقبل عليها المنطقة، وهذا ما عكسته كلمة سعد الحريري في 14 شباط.
يكمن المأزق الذي تعيشه العلاقات اللبنانية – السورية في أنها مرتبطة بما يتجاوزها لناحية أنها تتمة لمصالحة اقليمية وليست محصورة بـ «النافذة» اللبنانية الصغيرة نسبياً. وفي معادلة كهذه، يبقى السؤال مبهماً حول الطبيعة التي رست عليها التسوية العربية بما يتصل بلبنان، خصوصاً إذا تم التعامل مع الدور الإيراني الذي تعكس وتيرته اتصالات أحمدي نجاد الهاتفية بالقيادتين اللبنانية والسورية على أنه جزء من الواقعية التي يوظفها السوريون في لبنان لمصلحتهم، أو أنه الواقع الذي يعجز السوريون عن الحسم بأمره. وفي كلتا الحالين، فإن ما يتجاوز قدرة القيادة السورية على الالتزام به في لبنان لأي من الأسباب هو الدافع لبقاء الاصطفاف السياسي قائماً.
كثيرة هي الأطروحات التي تستدعي اصطفافاً سياسياً من حولها يقوم على أساس 8 و14 آذار كسلاح «حزب الله» أو موضوع المقاومة في شكل عام والعلاقات مع سورية ومدى ارتباط لبنان بالوضع الإقليمي والصراع العربي – الإسرائيلي وبالملف النووي الإيراني والتهديدات الإسرائيلية وغير ذلك. وفي المقابل، كثيرة هي الأطروحات التي تستدعي الخروج من الاصطفاف التقليدي، وهناك قضايا تستوجب اصطفافاً مسيحياً يتلاقى حولها ميشال عون ومسيحيو 14 آذار مثل اقتراح خفض سن الاقتراع إلى الـ18 عاماً واقتراح تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وغيرها… وهناك دوافع تتعلق بحساب الانتخابات المقبلة البلدية والنيابية أيضاً. تدفع الحال هذه بالقوى السياسية اللبنانية إلى التوسيع في دائرة خياراتها وعلاقاتها بكل ما يتصل بـ «التكتيك» المسموح به أو بالتموضع على أساس الموقف من اختلال التوازن الطائفي. وهذا ما يعطي المشهد اللبناني نوعاً من الفرادة في فسحة زمنية ربما تطول بعض الشيء.
لا شك في أن المتاح على ساحة لبنان حالياً هو مشروع متعثر يهمّ بـ «العبور إلى الدولة» ويستوحي من ذكرياته المجيدة في ساحة الشهداء تصميماً على تكريس ثقافة الوصل بين اللبنانيين والفصل عن الصراع الإقليمي، ومشروع آخر لدولة غير مكتملة الشروط وتنتظر لحظة إطلاق الناظم الإقليمي صفارته التي تنذر ببقاء لبنان في عين العاصفة، وبين هذين المشروعين هناك من يراهن على مساحة مشتركة ربما تقي لبنان مخاطر داهمة تبرز طلائعها في هذه الحمأة، إنما السؤال يبقى مرهوناً بـ «النافذة» التي تحدث عنها سعد الحريري ومدى انعكاس رحابتها على الاصطفاف القائم.

* كاتب لبناني.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى