«كراك» نجحت في أن تظهر أن أدب أميركا اللاتينية لا يقتصر على الواقعية السحرية
خورخي فولبي: المكسيكانية في الرؤية لا في المواضيع
اسكندر حبش
يشكل الروائي المكسيكي خورخي فولبي (مواليد مكسيكو عام 1968) طليعة جيل أدبي جديد بدأ يتشكل في السنوات الأخيرة، في القارة الأميركية الجنوبية، وهو تيار ابتعد كثيرا عن مفهوم الواقعية السحرية، التي اجتاحت ذلك الأدب في العقود الأخيرة.
هذه الطليعة الجديدة بدأت عبر تأسيس حركة «كراك» الأدبية، مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، وكان من هدفها تجديد الحركة الأدبية المكسيكية الغارقة في نمطيتها. من هنا جاءت رواياته مع روايات زميله إينياسيو باديو لتقطع مع كل الكتابات التي انبثقت مع حركة العام 1968. نشر العديد من الكتب، وترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات، مؤخرا صدرت له الترجمة الفرنسية لرواية «الجنة الخربة» التي تتقاطع فيها أحداث العراق مع أحداث المنفى الذي عاشه قبل عودته إلى المكسيك. حول هذا الكتاب، أجرت مجلة «فلوكتويات» حوارا مع فولبي، نترجم منه المقتطفات التالية:
في كتابك الأخير، تقوم بشبك قصتين مختلفتين جدا: قصة ليلى – وهي امرأة عراقية فقدت عائلتها خلال الحرب – مع قصة الراوي، شخص مكسيكي يعيش في المنفى، وهي شخصية تشبهك. هل بإمكانك العودة للحديث عن كيفية كتابتك هذه الرواية؟
بعد أن أنهيت كتابة ثلاثية القرن العشرين، والتي استغرقت مني عشر سنوات، – كنت أعيش خلالها خارج المكسيك – توقفت عن الكتابة لمدة عام. من ثم قررت أن أبحث عن طريقة أخرى أروي من خلالها القصص: كنت أرغب في القيام بشيء آخر، في كتابة كتاب ينتمي بشكل أكبر إلى السيرة الذاتية، شي يحمل ذكريات صغيرة عن عودتي إلى المكسيك. وحين بدأت الكتابة تبين لي أن قصة هذه المرأة الشابة، العراقية، تمتزج مع حكايتي. تذكرت في تلك اللحظة من حياتي التي رأيت فيها صورة امرأة: صورة شابة عراقية قتلت في بغداد خلال الغزو الأميركي، فقررت حينذاك أن أكتب عنها أيضا. من هنا، يقع كتابي «الحديقة الخربة» في قلب الألم، ألم الآخرين. وتحولت شخصية ليلى إلى استعارة لهذا الألم البعيد الذي لا يمكن لنا القيام بأي شيء تجاهه، لكننا ننــظر إليــه كل يــوم تقريبا، من دون أن نراه حقا.
إلى الجانب من ليلى والألم البعيد الذي تجسده، تضع شخصية آنا، وهي صورة نسائية أخرى، تتعذب بدورها، وإن كان ذلك بشكل مختلف. هل يمكننا القول إن ثمة تراتبية في الألم الذي تعرفه هاتان الشخصيتان؟
الألم الذي تتعرض له ليلى، وهو ناتج عن التاريخ، يتراءى لنا في الواقع أهم وأعمق بكثير من الألم الحميمي، وهو الألم النمطي الذي يصيب الشابات في المكسيك. كنت أرغب في التفكير حول هذا الأمر: واقع أنه من المستحيل مقاسمة أي شكل من أشكال الألم. حتى وإن كان باستطاعتنا التمييز بين مختلف أشكال الألم، إلا أنني كنت أرغب في أن أظهر أن لكل شخص ألمه الخاص وبأنه لا يمكننا القيام بأي شيء حيال ذلك.
العودة إلى ألف ليلة وليلة
تلتقي ليلى، خلال تطور القصة، بجني في الصحراء العراقية. هل أن إدخال هذا المخلوق في سياق الأحداث هو رغبة منك في الابتعاد عن الواقعية؟
إنها المرة الأولى التي أدخل فيها عنصرا خياليا في رواية من رواياتي – أرغب في القيام بأشياء كثيرة لم أكن قمت بها من قبل. حين قررت أن أروي قصة هذه المرأة العراقية التي لم أر سوى وجهها، قررت كتابتها عبر اتباعي قليلا التقليد الأدبي الذي نعرفه عن تلك المنطقة من العالم. لذلك قرأت «ألف ليلة وليلة» بالطبع، ولكن أيضا العديد من النصوص التراثية العربية وبخاصة العراقية منها. إزاء ذلك قررت إدخال أسطورة الجني هذا والتي هي حاضرة في «ألف ليلة وليلة» كما في الأدب العربي. يمكننا أن نتخيل أن الجني غير موجود وأن نقرأ الكتاب قراءة واقعية بشكل مطلق، كذلك يمكننا أن نقرأ النص بطريقة خيالية. من هنا، يبدو الجني إما مجرد هذيان وإما شبح الحرب.
كذلك يدخل الجني في النص مفهوم الخير والشر، مفهوم الدين. في أحد فصول الكتاب تكتب ما معناه انه ليس من خطيئة أكبر أكثر من «القيام بشيء ما كي نستحق الجنة».؟
في «الحديقة الخربة» لا استعمل مطلقا كلمة الله. أنا شخص ملحد، كما أقول في الرواية، إلا أنني نشأت في محيط كاثوليكي. إذا أنا أخوض حربي الخاصة ضد القدسية، غير الموجودة. إحدى خلاصات الكتاب تكمن في أن الدين هو دائما مصدر البغض والكراهية والحروب. ما كنت أرغب القيام به، عبر هذه الجملة، هو أن أظهر تناقض المؤمنين، المستعدين للقيام بأي شيء كي يصلوا إلى الجنة. وأقصد بهذه الجملة الأميركيين – بديانتهم الطهرانية – كما الحركات الإسلامية.
هل يحيلنا العنوان «الحديقة الخربة» إلى الجنة التوراتية؟
أجل، هذه الحديقة، هي بجزء منها جنة عدن والجنة التي وعد بها المؤمنون. لكنها أيضا الحديقة الداخلية لكل واحد منا.
تتألف روايتك من فصول قصيرة تقرأ وكأنها مقاطع أو شذرات. لماذا اخترت هذا الشكل؟
مع ثلاثية القرن العشرين، اتبعت فكرة تأليف رواية شاملة، لذلك كانت طريقتي في الكتابة أكثر توسعا. بالنسبة إلى «الحديقة الخربة» قررت أن أكتب بطريقة معاكسة كليا: أن أختصر كل قصة وكل فصل إلى حده الأدنى. نجم عن ذلك أسلوب غنائي يقترب بشكل كبير من الشعر. كل كلمة، كل جملة، تأخذ وزنا خاصا لا نجده عادة في الرواية الأكثر اتساعا.
يمكن أن نقول أيضا إن شكل المقاطع في روايتك هذه لا بد له أن يستدعي شكل الكتابة على «المدونة» (الالكترونية). هل شعرت بذلك وأنت تكتب هذه الرواية؟
نعم. مع هذا الكتاب، رغبت القيام بتجربة ما. بحثت عن طريقة أخرى للكتابة. كانت لدي مدونتي في تلك الفترة. وفي الوقت عينه، قررت أن أكتب هذه الرواية الصغيرة باليد – وهي المرة الأولى التي أكتب فيها باليد منذ فترة طويلة، وهذا ما يبدل تركيبة الرواية كثيرا. فيما بعد، كان علي أن أمزج هذه العودة إلى البساطة بشيء أكثر تقنية. خلال مئة يوم، كنت أكتب كل يوم فصلا أنشره فيما بعد على مدونتي. كانت نسخة مختلفة عما هي عليه الآن في الكتاب، والتي وجدت على الشبكة. كانت لفصول الكتاب القصيرة، القريبة من الشعر، الإمكانية أيضا لأن تكون «بطاقات مدونة»، وهي نصوص بقيت قصيرة.
المكسيك الحديثة
منذ الفصول الأولى للرواية، يتحدث الراوي عن المكسيك ليصفها على أنها بلد «بنات آوى والأشباح». ما هي علاقتك الفعلية بالمكسيك، حيث عدت للعيش فيها بعد سنين عدة من الاغتراب؟
كانت عودتي صعبة إلى المكسيك، مثلما يظهر ذلك في الرواية. لكني أتحدث بخاصة عن العاصمة. هذه المدينة الضخمة، العملاقة، حيث أسكن حاليا. إنها مدينة صعبة. حين أتحدث عن بنات آوى والأشباح، فأنا أتكلم عندها عن السياسيين. بنات آوى هم الساسة المعاصرون الذين لا يبحثون سوى عن الاغتناء وعن امتلاك سلطة أكبر، من دون أن يفكروا مطلقا بسعادة العامة. وحين أتكلم عن الأشباح، أكون أتحدث عندها عن هذا النظام القديم: كما تعرفون لقد حكمنا لفترة طويلة من قبل حزب واحد، وذلك لمدة 72 سنة. وحتى إن كنا بدءا من العام 2000 قد غيرنا النظام وبدأنا بعملية انتقال صعبة نحو الديمقراطية، إلا أن شبح الحزب الذي كان حاكما، السلطوي، لا يزال حاضرا. لم ينجح الحزب الحاكم حاليا بالقيام بكل الإصلاحات كي نشفى من آثار تلك الحقبة. في ثلاثيتي لم أتحدث كثيرا عن المكسيك. لكني هذه المرة، كان من المهم بالنسبة إليّ أن أروي كيف تسير العملية السياسية في المكسيك. إنها فصول صغيرة، تعطي انطباعا فقط، إلا أنني كثير التشاؤم تجاه السياسة المكسيكية.
لماذا اخترت العودة إذا للعيش في المكسيك؟
عدت لأنهم عرضوا علي منصب إدارة القناة 22، وهي القناة المكسيكية التي تشبه محطة «أرتي». إنها تجربة مدهشة، إذ أن هذه المحطة تمثل الإمكانية الوحيدة في وجود محطة تلفزيونية ذات جودة في المكسيك، حيث أن المحطات التجارية ذات نفوذ كبير، وذات برامج مرعبة كما هي الحال في العالم بأسره. من المهم جدا للمكسيك أن تتمكن من نشر الثقافة المكسيكية. حتى وإن كانت محطة تلفزيونية صغيرة إلا أن لدينا أحيانا جمهورا عريضا. إنه منصب عام أؤمن به. لا أحب العيش كثيرا في مكسيكو العاصمة ولكني أحب كثيرا ما أقوم به. لا أعرف إن كنت سأبقى هناك مطولا. إنها مدينة ضخمة، نضيع فيها الكثير من الوقت. هي مدينة بنيت من اجل السيارات، إذ لا يمكننا أن نتنزه فيها. وذلك عائد إما لأن الشوارع فيها طويلة جدا، وإما لأنها طرق غير آمنة. ثمة أشياء لا أحبها بعد أن عشت في مدن أخرى مختلفة عنها بشكل كبير، مدن حيث بإمكاننا أن نحظى بحياة «الحي».
كنت أحد مؤسسي حركة «الكراك». عن أي أدب مكسيكي تبحثون في تفعيله؟
مع هذه الحركة، أعتقد أننا نجحنا في أن نظهر – في بلدان مثل اسبانيا وأميركا وفي فرنسا أيضا – بأن الأدب الأميركي – اللاتيني لا يختصر فقط بالواقعية السحرية. لقد نجحنا، بمعنى من المعاني، في أن نظهر تنوع الأدب المكسيكي. هناك اليوم روايات خيالية، سياسية، بوليسية… هي المرة الأولى، في التاريخ الأدبي المكسيكي، لا نجد فيها أدبيات نقدية، إكراها نقديا بضرورة الانتماء إلى مدرسة معينة أو حركة أو تيار… ربما كان هذا التنوع يبدو بالنسبة إلى بعض الجمهور أمرا غريبا إذ أننا ننحو دائما إلى البحث عن مكسيكانية ما. المفاجأة تكمن اليوم في أن هذه المكسيكانية يمكن لها أن تكون موجودة في نظرة الكاتب لا في الموضوعات التي يعالجها.
السفير الثقافي