السعودية.. «الوهابية الليبرالية» وقلق المنجز
فؤاد ابراهيم
في مسرحية (ضيعة تشرين)، كان المختار يتلو بيانات الانتصارات العسكرية المتوالية ويلهب مشاعر شعبه، ولكنّه فوجئ بأن الجيش وصل منذ برهة وسط الضيعة، فقد عاد الى الديار دون أن تبدو عليه غبار معركة، أو أثر جرح من رصاصة ولو طائشة، فيما كان المختار يواصل تلاوة البيانات العسكرية.
كانت صورة مكثّفة ولكنها بالغة الإتقان والدلالة عن واقع عاشته الأمة على مدى عقود من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكنّها تحوّلت الى مكوّن جوهري في البيانات العسكرية الرسمية. في حرب اليمن الأخيرة، كانت القيادة العسكرية على الجانبين السعودي واليمني سخيّة في تقديم حصاد المعارك إلى حد أن حساباً رياضياً بدائياً يسوق المراقب الى نتيجة حاسمة تفيد بأن المقاتلين الحوثيين تحوّلوا الى مجرد هشيم تذروه الرياح.. رغم أن المقارنة فاسدة حين يوضع الصراع العربي الاسرائيلي جنباً الى جنب، مع الحرب اليمنية السعودية على الحوثيين، ولكن العبرة تكمن في مكان آخر، في القلق المضطرم منذ سنوات لدى السعودية لناحية تحقيق منجز ما بأي طريقة، بل وبأي ثمن.
بين فكي قلق المنجز والنموذج، أرادت السعودية من (مبادرة) السلام التي طرحت في قمة بيروت في مارس 2002 أن تكون منجزاً لفك الطوق الدولي المفروض عليها بعد الكشف عن ضلوع 15 مواطناً سعودياً في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتحوّلها الى (نواة الشر) بحسب عضو رفيع في الهيئة الاستشارية في البنتاغون في تموز 2002. في بداية حرب تموز 2006، وضعت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليسا رايس الحجر الأساس لمعسكر الاعتدال، في سياق نزوع مراوغ نحو إرساء نموذج قابل للتسويق في ظل حرب النماذج التي اندلعت شرق أوسطياً. وبإمكان المرء تخيّل ضمور الفوارق الزمنية بين النقائض، فما كان بالأمس نواة شر يتحوّل بموجب براغماتية سياسية طفولية إلى اعتدال.
إنها لعبة دون شك تتجاوز الأساطير المصنّعة في غمرة نشاطات مخيالية متراكمة على مرّ قرون من الزمن، فثمة في الأسطورة بعدٌ حقيقي، ولكن هنا نعيش بطريقة قهرية تجليّاً لفعل أسطرة رديء الأداء والسبك، كما ينبئ ما تناسل عنه من أفعال وتوصيفات. السعودية دولة معتدلة حين تزداد درجة سخونة التجابه بين النماذج، ولكن لا يخيب مسؤولون كبار سياسيون وأمنيون وبرلمانيون في واشنطن، وباريس، وغروزني، ودلهي في الجهر بالاستبطانات الثاوية في هواجسهم والمؤسسة على معطيات رقمية صادمة بأن الاعتدال خصم تكويني للأيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية، أو بحسب الان شويه، المدير العام السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي، فإن «السعودية هي رمز العنف في العالم الإسلامي..». ويحاكي هذا الموقف تصريحاً لرئيس الشيشان رمضان قاديروف في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، عقب اغتيال رئيس المجلس الإسلامي في كاراشييفو ـ سيركاسيا إسماعيل بوستانوف على يد مجموعة متطرّفة على علاقة بالأيديولوجية الدينية الرسمية في السعودية، وجاء بعده وزير القانون الهندي السابق ورئيس اتحاد المحامين الهندي رام جيثمالاني في نوفمبر من العام الماضي ليشارك الرئيس الشيشائي في الدعوة الى (إعلان الحرب) على الأيديولوجية الوهابية في السعودية، كونها تنمّي نزعة العنف ضد الآخر.
سعت السعودية منذ (حوار الأديان) في نيويورك بتاريخ 12 تشرين الثاني 2008 لتطوير أيديولوجية دينية أسبغ عليها أحدهم وصف (الوهابية الليبرالية)، لناحية محو الصورة النمطية التي تشكّلت عن العقيدة الوهابية منذ هجمات الحادي عشر من ايلول، وهنا بدأ الفصام فارطاً بين داخل بقي أميناً على النموذج الأصلي للوهابية، وخارج مبتور الجذور مع (أصول الاعتقاد) المؤسسة للرؤية الكونية للمذهب. لم ينعتق الداخل من رؤاه الأيديولوجية الصارمة والاقتلاعية، وبقي الإرث العقدي بكامل حمولته السجالية مصدر الإلهام والتوجيه، للقطاع الأكبر من رجال الدين التقليديين والصحويين فضلاً عن الجهاديين. للعلم فحسب، أن الفارق بين هؤلاء لا يكمن في الموقف الحكمي من الآخر بل في طريقة تحويله الى فعل، فقد يعتنق التقليدي والصحوي والجهادي موقفاً تكفيرياً من الآخر، ولكن ينشق التباين إزاء طريقة تنفيذ الحكم. وفيما أخفق النموذج المصدّر للخارج في احتواء تداعيات وأضرار النموذج الأصلي الناشط محلياً، فإن تقهقراً متسارعاً لحق بكل الأنشطة التي أريد منها أن تؤسس لرؤية جديدة لدى الآخر عن الأيديولوجية الدينية الرسمية في السعودية، بدءًا من الحوار الوطني الذي انطلق في يونيو 2003 وصولاً الى حوار الأديان في نيويورك في نوفمبر 2008.
اكتفت السعودية بالرد على ضروب الارتياب والإخفاق التي لحقت بها، كيما تصبح نموذجاً بالمشاغبة الإعلامية والطائفية التي يلزم الإذعان بتفوّقها في هذا الفناء المؤهل للاختطاف طوعاً وكرهاً، وقدرتها، حتى وقت قريب، على بعثرة الأوراق وخلطها، الأمر الذي يدفع كثيرين لتبني خيارات حمائية ودفاعية درءاً لتداعياتها التدميرية، وقد يستدرج البعض في أحيان أخرى للانغماس حد التلوّث في مستنقع السجال الطائفي.. وحدها الطائفية تملك قدرة على تكبيد الخسائر لكل الضالعين فيها، فليس هناك رابحون مطلقاً، بل هناك خاسرون ولكن بنسب متفاوتة.
ما بدا صادماً هذه المرة، في ضوء التدخّل السعودي في حرب اليمن، أن متغيّراً دراماتيكياً طرأ على اتجاهات الرأي العام المحلي والعربي. في الأيام الأولى لدخول القوات السعودية الحرب ضد الحوثيين، جرى الاشتغال على البعد الوطني كعنصر تعبوي في الداخل والخارج، وحاولت السعودية تحشيد المواقف الداعمة لها في الداخل الشعبي وفي الخارج الرسمي، فكانت الاستجابة هزيلة ودون المأمول. نجم عن ذلك، كما بدا واضحاً، حملة تخوين إزاء مكوّنات سكانية محلية بدت غير متفاعلة بدرجة كافية، أو هكذا يخيّل لمن تسنّم مهمة توزيع أوسمة الوطنية، ما دفع الى السطح مواقف أقل ما يقال عنها إنها شكل بدائي للنفاق السياسي.
على أية حال، بدا أن (الوطنية) ثمرة غير ناضجة في هذا البلد، رغم عمليات التخصيب الاصطناعية التي تمّت على عجل، وما جاء بعد ذلك كشف عن عقم الشجرة نفسها، فقد تفجّر الخطاب الطائفي بصورة انتقامية، وكأنه جاء رد فعل على جحود الغالبية بالمسلك الوطني غير الراسخ. جنوح بعض المشايخ الى مواقف راديكالية كالتي أطلقها الشيخ محمد العريفي في خطبته المعروفة في جامع البواردي بالرياض في 3 يناير الماضي، وأثنى عليها ضمنياً المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ومشايخ آخرون، جاء في سياق تعبئة (الخواص) لناحية تعويض خسارة غالبية السكّان في معركة الحكومة مع الحوثيين. هنا على وجه التحديد يكمن التحوّل في المشهد العام، فقد ظهر اندحار غير مسبوق لخطاب طائفي بقي الرهان الرابح دائماً، وربما اختار العريفي الشخصية غير المناسبة (أي السيستاني) لتفريغ استبطانه الطائفي، وزاد الطين بلّة بذاءة الألفاظ، وضحالة الأفكار والمزاعم ليجد نفسه أمام طوفان من ردود الفعل المحلية، ومن كل الطيف الاجتماعي والايديولوجي، بما أثار دهشة كتيبة المشايخ المتشدّدين التي أدمن أفرادها على إصدار البيانات الطائفية في كل مناسبة حوارية وطنية كانت أم دينية، فنسجوا قصة تآمر رباعي (صليبي صهيوني رافضي علماني)، نكاية بانتقادات الكتّاب الليبراليين لخطبة العريفي.
ما جرى بعد ذلك يستحق التأمل، فلأول مرة يجهر كثرٌ، من الكتّاب الإسلاميين والليبراليين بالمطالبة بتجريم النيل من المذاهب والأديان وكذلك الرموز الدينية، وهذا يعدّ تطوّراً لافتاً في بلد، يلقّن فيه طلاب المدارس الرسمية، أحكاماً بتكفير الأديان الأخرى وبضلال المذاهب الإسلامية غير المتوافقة مع المذهب الرسمي.
لا يمكن المرء أن يفلت من القلق المزدوج لدى السعودية، بعد أن استنفدت حيل صنع المنجز الذي يخرجها من امتحان المساءلة الدائمة حيال ما يجب أن تكونه كنموذج، وقد شهدنا كيف أنهكت مجهودها العسكري والسياسي، كيما تصل الى نهاية تطابق بين وقائع الميدان العسكري وحلم (النصر المبين) الذي لم يتحقق إلا بعد مبادرة حوثية بالانسحاب من 48 موقعاً عسكرياً داخل الأراضي السعودية. ثمة ما يستحق الرصد في تجارب المقاومات في مشرقنا العربي، فقد أصبحت المقاومة أقوى من الدولة، ليس في لبنان بكل جدلياته المشروعة والعقيمة، بل في اليمن كما في فلسطين وربما في مناطق أخرى مرشّحة.. فهل يعاد تنجيز الدولة بعد أن أخفقت منجزاً؟
[ باحث سعودي في الفكر السياسي
السفير