العميل الأخضر
الياس خوري
تحتل قصص الجواسيس حيزاً هاماً في المخيلة الأدبية، وهي قصص ممتعة في العادة، لأنها مزيج من الرواية البوليسية وروايات الجريمة السوداء. وحين نعثر في واقعنا العربي على هذه القصص او ما يشبهها، نشعر وكأننا نتلصص على حياتنا من مكانها الأكثر غموضاً.
هذا الأسبوع يصدر في الولايات المتحدة كتاب بعنوان ‘ابن حماس’، لمؤلفه مصعب يوسف، وقد شاركه في التأليف وكتب النص الانكليزي كاتب امريكي مغمور يدعى رون براكين، يقول موقعه على الانترنت انه يؤلف كتباً ‘بحسب الطلب عن الشرق الأوسط والكنيسة المضطهدة في العالم’. حظي الكتاب قبل صدوره بتغطية اعلامية واسعة، خصصت له شبكة ‘فوكس نيوز’ الامريكية اليمينية ريبورتاجاً طويلاً، تحدث فيه السيد مصعب، الذي يقيم اليوم في كاليفورنيا، عن تجربته في حماس، وعن اعتناقه المذهب البروتستانتي الانجيلي، وعن والده السجين، الشيخ حسن يوسف، احد مؤسسي الحركة الاسلامية في فلسطين. كما خصصت له صحيفة ‘هآرتس’، غلاف ملحقها الاسبوعي تحت عنوان ‘الأمير الأخضر’ مع مقابلة طويلة معه اجراها آفي يسخاروف. وقد تمت المقابلة في مكان ما في كاليفورنيا، حيث يقيم السيد مصعب مع احد زملائه من الكنيسة البروتستانتية، ويأمل ان يساعده الريع المادي للكتاب على حلّ مشكلاته المادية، لأن السيد مصعب يدّعي بأنه فقير، وبأن خدماته لـ ‘الشين بيت’ كانت من دون مقابل، وترجمة لقناعاته الانسانية التي تدعو الى نبذ العنف! نحن من دون شك امام خبطة اعلامية كبرى. ابن الشيخ حسن يوسف لا يخون شعبه الفلسطيني فقط، بل يغيّر دينه ايضاً، ويشن حملة على الاسلام، تأتي كجزء من الاسلاموفوبيا التي تجتاح العالم الغربيا
أنه مشروع كتاب رائج بكل المقاييس. فـ ‘البست سيللر’ ليس حكراً على كتب الجنس فقط، بل يشمل ايضاً كتب الهجوم على الاسلام. ومع السيد مصعب، تقدّم خلطة جديدة، من التجسس والعمالة والجريمة، وبذا يكتمل ما هو مطلوب، كي يصبح ابن الثانية والثلاثين نجما، وكي يجري تحويله غداً الى احد رموز حرية التعبير، لأنه مهدد بالموت!
هكذا يراد للحكاية ان تكون، مليونير ومهدد بالموت من اجل حرية التعبير، يا عيني على هذه الثقافة الرائجة!
حين شاهدت السيد مصعب على قناة ‘فوكس نيوز’، احسست نحوه بالشفقة، اذ بدا الفتى مشغولاً بجماله، يلهو على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة وهو يتحدث عن الضفة الغربية. من غرب العالم الى ضفتنا الغربية، هذه هي المعادلة التي ركّبوها له كي يعجب القراء ويفتن المشاهدين. لكن عندما قرأت حواره في ‘هآرتس’، احسست بالقرف. قرف شامل جعلني اشعر برغبة في التقيؤ. فالحكايات التي تروى، والعلاقة مع كابتن اسرائيلي يدعى لؤي، والقيام بدور الدالول في عمليات قتل المناضلين الفلسطينيين واعتقالهم، لا تدل على نزعة نحو اللاعنف، بل تدل على الجريمة.
هذا السفّاح الصغير، لا يستحق سوى الاحتقار.
حكايته كما يرويها غامضة، فلقد تم تجنيده في الـ ‘شين بيت’ بعيد اعتقاله، اما كيف تمّ ذلك، وأي انهيار نفسي واجهه ابن شيخ حماس فلا توجد اي اشارة له. كل ما هنالك هو ادعاء الفتى انه قرر التعاون مع الاسرائيليين بهدف التجسس عليهم، ثم غيّر رأيه في السجن، عندما رأى القمع الذي يمارسه قادة حماس على رفاقهم السجناء. حجة كانت لتدفعه الى التخلي عن الموضوع برمته، لا الى الالتحاق الكامل بالاسرائيليين، الى درجة تجعله يتمنى اليوم ان يلبس ثياب الجيش الاسرائيلي ويقتحم غزة من اجل انقاذ الأسير الاسرائيلي غلعاد شليط!
هذه الحماسة للعمالة تجد لنفسها مسوّغاً ساذجاً، فالفتى قرأ الانجيل كما يدّعي وتوقف عند قول المسيح ‘احبوا اعداءكم’ فسقط في هوى رجال الـ ‘شين بيت’! لا ادري كيف سيتم تركيب هذه الحكاية في الكتاب، وكيف ستنطلي على القراء، الا اذا كان القراء مجموعة من سذج المسيحيين الصهاينة المنتشرين في امريكا. فالسيد مصعب لم يكتف بمحبة اعدائه، بل ساهم في قتل ابناء جلدته، وسلمهم للمحتل. حتى انه لم يتورع عن تسليم والده بحجة حمايته من الاعتقال!
لائحة القتلى التي يفتخر السيد مصعب بأنه مسؤول عنها طويلة، ولائحة المعتقلين تضم الى جانب الشيخ حسن يوسف المناضل مروان البرغوثي وآخرين.
حكايات مثل فيلم عربي رديء يقلّد السينما الهوليوودية، وشاب تتلخص ميزاته كلها في انه ابن الشيخ حسن يوسف، وهذا ما جعله بعيدا عن الرقابة، وسمح لمشغله لؤي بأن يسرح به كما يشاء، ويركّب افلاماً على مزاجه، منها محاولة اعتقال مصعب نفسه امام كاميرات ‘الجزيرة’، كي يغطي على احتمال انكشافه كعميل.
للأسف فإن الحوار الطويل في ‘هآرتس’ كان مزيجاً من عرض العضلات والتشبيح والسفاهة، يدّعي العميل الأخضر انه انقذ حيوات شمعون بيريس وعافوديا يوسف. ينقذ سفّاح قانا والحاخام العنصري الذي يصف الفلسطينيين بالقردة والخنازير والحيّات، ويقتل رفاق والده!
قلت للأسف، لأن هذا الفتى يعاني اضطراباً نفسياً حقيقياً، وكان الأجدر بمن حاوره ان يدخل الى مناطقه النفسية، كي يشرح لنا شيئاً عن مسار مضطرب قاد العميل الأخضر الى الجريمة، وحوّله اداة اعلامية في ايدي الصهاينة، وبوقاً لمجموعة من الدجالين الامريكيين الذين يتسمون باسم المسيحيين الصهاينة، ويدعون الى نهاية العالم الوشيكة، حيث ستتم ابادة اليهود!
لعل الاساءة الأكبر في الحكاية كلها موجهة الى الأسير الشيخ حسن يوسف، الذي لا نملك سوى ان نشاطره الماً كبيرا احدثه هذا الاغتيال المعنوي الذي قام به ابن ضد ابيه. لكن هناك اساءة اخرى يجب ان نتوقف عندها، هي الاساءة الى المسيحيين الفلسطينيين الذين كانوا ولا يزالون جزءا حيويا من نضال الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
ما يرويه العميل الصغير ليس سوى جزء من حرب نفسية، يقودها المستشرقون الجدد وأيتام التبشير الكولونيالي، ضد فلسطين وشعبها، وبهدف تبييض جرائم الاحتلال الاسرائيلي وسياساته العنصرية والفاشية.
تصل سذاجة العميل الأخضر الى ذروتها حين يصف الصراع على ارض فلسطين بأنه صراع بين إلهي القرآن والتوراة! ويقلل من قيمة تشبث الفلسطينيين بأرضهم، بل يسخر منها، مقدما نفسه قناعا اسود للرجل الأبيض. هذا المصعب في حاجة الى علاج نفسي اولا، وبعد ذلك يجب ان يُسأل عن الدم الذي يلوث يديه. حتى اذا كانت بطولاته مجرد اوهام، فإنها اوهام قاتلة، وتدعو الى الرثاء.
القدس العربي