صفحات العالم

سوريا تعود مكرّمة

جميل مطر
كتبت عن دمشق من بيروت والقاهرة ومن كندا وتونس والخليج، ولم أكتب يوما عن دمشق من دمشق. كان يقال لمن يريد أن يتعرف الى سياسة سوريا الخارجية، وبخاصة علاقاتها الإقليمية، اذهب أولا إلى دمشق واقرأ هناك عن سوريا واسمع من أهلها عن تاريخ العرب والإسلام. اذهب وادرس على الطبيعة نماذج لكافة طوائف الأمة العربية ومذاهبها وعاداتها، كل هناك مما يأكلون وعش كما يعيشون وتأمل في ما يحبون ويكرهون. لن تندم إلا إذا تركت لها نفسك واستسلمت مصدقا أو قانعا أو معجبا. لا تفعل مثل جمال عبد الناصر الذي أوقعه شعب دمشق في حب سوريا، وهو الحب الذي نحت علامات بارزة في مسيرة عبد الناصر ومصر في عهده ومن بعده.
كتبت عن دمشق قبل عام من بيروت، وكانت أزمة الحكم ما زالت مستحكمة في لبنان، ولم يكن خافيا، مما سمعت هناك، أن سوريا بدأت تتجاوز محنة العزل والحصار فأقامت علاقات متقدمة جدا مع تركيا. وقد استبعدت في ذلك الحين الكثير من المبالغات عن حال الانبهار السائدة في دمشق بتركيا، وبدقة أشد، بصورة تركيا. وما سمعت كان كافيا لتشجيعي على السفر إلى تركيا وقضاء بعض الوقت فيها، في محاولة لفهم ظاهرة العودة التركية إلى العالم العربي وطبيعة العلاقة الجديدة بين تركيا وسوريا. وما رأيت وسمعت في الاجتماعات التي عقدت في منطقة آدم بول بالأناضول، حيث كان المؤتمر عن العلاقات العربية التركية، ثم في اسطنبول، كان كافيا لإقناعي بضرورة القيام بزيارة إلى دمشق، وبخاصة بعد أن تمكن مني شعور قوي هناك في تركيا وفي لبنان قبل تركيا ثم بعدها، بأن منطقة المشرق، بهامشيها السعودي والمصري، تستعد لتطورات كبيرة، وستكون دمشق بؤرتها.
قضيت الأيام السابقة على الزيارة أتابع بذهول فيض زيارات شخصيات أجنبية كبيرة إلى دمشق، وبينما كنت أعد الزيارات وأحلل سياقاتها والتصريحات المصاحبة لها تذكرت كيف أن لهجة واشنطن في مخاطبة سوريا تحسنت فجأة في سبتمبر الماضي، وكيف فاجأتني إدارة أوباما حين وجهت الدعوة لنائب وزير الخارجية السوري لزيارة واشنطن، وهي الزيارة الأولى لمسؤول سوري كبير منذ أن جمدت الولايات المتحدة علاقاتها بسوريا في العام 2005، وأعقبتها زيارات إلى دمشق من أميركيين مثل السيدة بيلوسي رئيسة مجلس النواب، ونواب شيوخ، ثم زيارة المبعوث بيرنز، وبعدها الإعلان عن قرار الرئيس باراك أوباما تعيين روبرت فورد سفيرا في دمشق، بما يعني بث الدفء في علاقات باردة منذ حادث اغتيال الرئيس رفيق الحريري واتهام أميركا المبطن لسوريا بأنها تقف وراء الاغتيال.
تابعت أيضا التغيرات في بعض مواقف الاتحاد الأوروبي والعرض الذي تقدمت به مفوضية الاتحاد لتطوير العلاقات التجارية بين الاتحاد وسوريا ورفع مستواها إلى درجة الارتباط. ولا يخفى أن التقدم الأوروبي نحو تحسين العلاقات مع سوريا كان سابقا على الإيماءات الأميركية التي مهدت للزيارات بين أميركا وسوريا وإعادة السفير الأميركي إلى دمشق. وقد سمعت في دمشق أن هناك من يحاول الربط بين ثلاثة تطورات مهمة وقعت خلال الشهور القليلة الماضية: تقدم أوروبي في اتجاه سوريا، وتحرك هادئ وإن متردد أحيانا من جانب الولايات المتحدة في الاتجاه نفسه، ومزاج سائد في معظم العواصم العربية التي اختارت لنفسها، أو اختير لها، وصف الاعتدال، ينبئ باقتناع متأخر لدى المسؤولين عن صنع السياسة الخارجية فيها، بأن سوريا لا يمكن تجاهلها. وما لا يمكن تجاهله لا يجُز عزله أو فرض الحصار والعقوبات عليه.
وبالفعل فوجئ السوريون، بحسب رأي بعض مفكريهم ممن تحدثت معهم، بأبواب الخير كلها تفتح مرة واحدة. تدفقت الاستثمارات العربية والأجنبية وتعددت الاجتماعات لبحث مشاريع اقتصادية مشتركة، وارتفعت معدلات التجارة بين سوريا وكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتضافرت مساعي الدول تضغط على العراق لتتوقف حكومة الدكتور المالكي عن توجيه الاتهامات، الواحد بعد الآخر، لحكومة دمشق، لتدخلها في شؤون العراق والسماح لعناصر «إرهابية» بعبور الحدود، وتضافرت في الوقت نفسه جهود دولة قطر والمملكة العربية السعودية ودول أخرى غير عربية، للضغط على نخبة الحكم في لبنان للتهادن مع حكومة دمشق، تمهيدا لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
وفي لقاء مع أستاذ غربي متخصص في شؤون المشرق تصادف وجوده في دمشق مع وجودي فيها، سمعت تحليلا بدا لي معقولا، وإن اختلفنا حول بعض الأسس التي قام عليها التحليل. يقول الصديق الأجنبي ان سوريا بعد سنوات أربع من القطيعة مع لبنان، عادت إليه مهيمنة بالقوة الناعمة أكثر مما كانت مهيمنة بالقوة الخشنة، أي بالاحتلال العسكري وبالوجود الاستخباراتي المباشر والصريح. ويضيف إن الفضل في العودة السورية «الكريمة» إلى لبنان يعود إلى قطر بالدور الكبير الذي لعبته لصالح سوريا تحت غطاء تسوية الأزمة السياسية اللبنانية، ويعود في جانب منه إلى المملكة العربية السعودية التي ربما شعرت بأن استمرار الغضب السعودي مع سوريا يقوي من ساعد حزب الله، بينما اعتقد السعوديون والمصريون لفترة طويلة أن إظهار غضبهم على السياسة السورية يضعف حزب الله.، هؤلاء مارسوا سياسة اقصائية ضد سوريا في لبنان، تحث الظن، أو الوهم، بأنهم بهذا الاستقصاء يستكملون منظومة الضغط الدولي والعربي على سوريا بهدف إجبارها على الانضمام الى جبهة «الاعتدال» المتساهلة مع إسرائيل، والرافضة لأي سياسة أو إجراء، يتسبب في شحن الجماهير العربية ضد إسرائيل، وإجبارها على التخلي عن علاقتها الوثيقة بإيران.
بهذه العودة «المكرمة والكريمة» إلى لبنان يكون بشار قد حقق انجازا ما كان ليحققه حافظ الأسد، وهو الهيمنة على لبنان بالقوة الناعمة، وفي واقع الأمر، توجد منذ سنوات كثيرة مؤشرات تشير إلى أن الرئيس الابن استطاع في سنوات قليلة، أن يخرج بنظامه، وربما بسوريا بأسرها من أزمات خطيرة وعديدة. افلح بشار في التخلص من الحرس القديم الذي أحاط بالرئيس الوالد، وجاء بمجموعة من تكنوقراطيين، كوليد المعلم وعلي الدردري وسامي الخيمي وآخرين، اعتمد عليهم في عملية الانتقال، وافلح في تجاوز عديد التهديدات الخارجية، وأحدها كما أذكر كان التهديد الذي جسدته دعوة «المحافظين الجدد» للرئيس بوش للاستعداد لغزو سوريا بعد الانتهاء من غزو العراق. وربما ساعد في إفلاته من هذا الخطر تعاظم نشاط قوى المقاومة العراقية التي أجبرت القوات الأميركية على الانشغال بعملية العراق. كذلك افلت من الحملة القوية في مجلس الأمن وتحقيقات المحكمة الدولية بعد اغتيال الرئيس الحريري، وأفلت من تهديدات إسرائيلية عديدة وبخاصة خلال غزوها للبنان في 2006، واستطاع التغلب بسهولة على الأزمة التي خطط لها عبد الحليم خدام متحالفا مع بعض التيارات الإسلامية. وبالسهولة نفسها تفادت دمشق تصعيد مواقفها من الدول العربية التي قاطعت مؤتمر القمة الذي انعقد بدمشق، حين خططت لمؤتمر هادئ النبرة متواضع التوقعات، لكنها لم تتنازل في مواقفها من الشأن اللبناني والمقاومة والعلاقة مع إيران، وهي التنازلات التي اشترطتها دول عربية معتدلة» لمشاركتها في القمة.
وجدت دمشق في هذه الزيارة مدينة مبتهجة بما حققت، على عكس دمشق التي زرتها قبل سنوات وهي تحت الحصار. يعترف مسؤولون سوريون بأن بعض ما تحقق من نجاحات، وبخاصة على صعيد السياسة الخارجية، يعود الفضل فيه إلى ظروف لا يد مباشرة لسوريا فيها، مثل فشل أميركا الرهيب في العراق والخلافات بين الزعماء اللبنانيين والمنافسة الشديدة بين بعض دول الخليج والأزمة المعقدة بين «فتح» و«حماس» وسياسات مصر الانعزالية وبطء وتيرة أفعالها وانكماش دورها لصالح أدوار عديدة أخرى. ولا يخفي سوريون اقتناعهم بأن السياسة الإسرائيلية الرافضة لتحقيق سلام عادل مع الفلسطينيين كافية وحدها وفي معظم الحالات لإعادة العرب إلى سوريا، ولتحتفظ دمشق بسمعة العاصمة العربية التي لا يمكن تجاهلها.

يُنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى