صفحات العالم

رسالة بشار الأسد: من يُرد محاورتنا.. يَقبلنا كما نحن

عماد مرمل
أغلب الظن ان القمة الثلاثية التي انعقدت في دمشق قبل أيام بين الرئيسين السوري والإيراني والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله ستظل، وقتا طويلا، مادة للنقاش السياسي ولـ«التنقيب» عن معانيها الاستراتيجية، بالنظر الى طابعها الاستثنائي المستمد من طبيعة المرحلة الراهنة وتحدياتها.
وحتى تكتمل الصورة بخلفيتها الاستراتيجية، لا يجوز إهمال بُعدها الفلسطيني الذي كان حاضرا عبر لقاء ممثلي فصائل المقاومة مع الرئيس أحمدي نجاد في دمشق، والذي تلاه اجتماع في طهران مع مرشد الثورة الاسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي. ربما هي واحدة من المرات القليلة التي يقدم فيها «الحلف الرباعي» (سوريا ـ إيران ـ حزب الله ـ المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها حركة حماس) نفسه بهذا الوضوح الكلي الذي كاد يقارب حد الإطار التنظيمي وأوشك على الإعلان عن تشكيل «غرفة عمليات مشتركة».
ولعل الشكل الذي واكب هذا الحدث المفصلي يكاد يوازي من حيث أهميته مضمونه السياسي، إذ ليس أمرا عاديا ان يتحدى السيد حسن نصر الله كل المحظورات الأمنية ليطل بطريقة علنية في عمق العاصمة السورية للمرة الأولى منذ حرب تموز 2006، ويشارك في عشاء رئاسي، بعد أيام قليلة من إحياء ذكرى اغتيال الشهيد عماد مغنية في دمشق ذاتها. وبالتأكيد ليس أمرا عاديا ان يستضيف الرئيس بشار الأسد حليفيه في «محور الشر»، في هذا التوقيت بالذات، مغامرا بما تحقق حتى الآن من تحسن في العلاقة مع الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية التي كانت قد حددت قبل وقت قصير اسم سفيرها العائد الى دمشق، في أعقاب قطيعة دامت خمس سنوات.
وإذا كان معارضو خيار المقاومة والممانعة المحليون قد وجدوا في «قمة دمشق» ما يكفي لمضاعفة مخاوفهم من إلحاق الساحة اللبنانية بقاطرة حلف إقليمي لا يقيم وزنا للاعتبارات والمصالح الوطنية، مع ما يمكن ان يرتبه ذلك من أثمان باهظة، حسب وجهة نظرهم، إلا ان مقاربة أخرى تُبين ان إسرائيل والولايات المتحدة هما اللتان تتعاملان أساسا مع المناهضين لهما في المنطقة كمحور واحد وجسم متصل، بمعزل عن كيفية نظرة المعنيين بهذا التصنيف الى طبيعة العلاقة القائمة بينهم، وبالتالي فان واشنطن وتل أبيب هما اللتان تحاولان باستمرار استخدام لبنان كساحة مشرّعة لتصفية الحسابات تارة مع دمشق وطورا مع طهران.
وإذا كانت واشنطن قد أخفقت خلال السنوات الماضية في فصل المسارين السوري والإيراني عن طريق التلويح بالعصا واستعمالها أحيانا، فان مشهد دمشق الأخير أظهر بان سياسة الجزرة التي مورست مؤخرا حيال الأسد وما واكبها من «إغواء» عربي ودولي متعدد الأشكال لم تنفع هي أيضا في تبريد العلاقة السورية ـ الإيرانية.
لقد اختار الأسد جوابا مدويا على الطلبات المتعددة الجنسيات التي تلقاها للابتعاد عن طهران، وكان آخرها ما صدر عن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، عشية زيارة نجاد الى دمشق. لم يمر الجواب تحت الطاولة او عبر القنوات الدبلوماسية الجانبية، بل انتقى الرئيس السوري الصيغة الأكثر وضوحا وبلاغة لإيصال موقفه بشكل لا يحتمل الالتباس والاجتهاد: «إن سوريا ليست في الوسط بين إيران وأميركا او بين حركات المقاومة وأميركا. نحن لسنا وسطاء او حياديين ولسنا حتى مجرد شركاء في معادلة المواجهة ضد أي تهديد إسرائيلي. نحن عاصمة المقاومة والممانعة، ومن يريد ان يتحاور معنا، عليه ان يقبلنا كما نحن، لا كما يرغب هو في ان يرانا. إننا متمسكون بهويتنا وتحالفاتنا، ومستعدون من هذا الموقع ان نحاور الآخرين».
لقد كان البعض يفترض قبل «قمة دمشق» ان سوريا، وبرغم كل الشعارات المرفوعة، مستعدة في لحظة الحقيقة لمساومة واشنطن على رأسي إيران والمقاومة شرط ان تحصل على الثمن المناسب، وبالتالي كان أصحاب هذا الرأي يعتقدون ان المشكلة الحقيقية مع نظام الأسد ليست حول مبدأ الصفقة وإنما حول مواصفات عروض البيع والشراء المقترحة.
أما من كان أكثر رأفة بالنوايا السورية ولا يراها بهذا القدر من السوء، فكان يميل الى الاعتقاد ان دمشق، البارعة في فن المناورة، ستحاول ولأطول فترة ممكنة ان تحمل العصا من الوسط وان تُسمع واشنطن وطهران في آن معا ما يعجبهما، لتجنب كلفة اتخاذ موقف حاسم ومحرج، فجاءت زيارة نجاد وما رافقها من مواقف قاطعة على لسان الأسد ـ سواء بخصوص الطاقة النووية او المقاومة ـ لتحسم الجدل ولتؤكد ان الرئيس السوري ليس بوارد التفاوض او المساومة على موقع بلاده في المعادلة الإقليمية وخياراتها الجذرية، وذلك بعد وقت قصير من مطالبته من قبل وزيرة الخارجية الأميركية بالابتعاد عن طهران.
وامتدادا لهذا السياق، بدا واضحا ان لقاء دمشق كرس الانتقال من حالة التنسيق بين سوريا وإيران وحزب الله وحماس الى حالة التكامل، حتى كادت الجهات الأربع تلامس حد التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك.
وإذا كان التكتيك السياسي أوجب إبقاء هذا النوع من الالتزامات المتبادلة ضمنيا، لئلا تستفيد منه إسرائيل في استقطاب العطف الدولي تحت شعار انها مستهدفة، إلا ان الأكيد ان الرسالة وصلت الى واشنطن وتل أبيب اللتين أصبحتا تدركان ان قواعد الاشتباك في المنطقة قد تبدلت تبدلا جذريا وان أي هجوم على أحد مكونات «الحلف الرباعي» سيتم التعامل معه باعتباره هجوما عليها جميعا، يستوجب ردا مشتركا.
بهذا المعنى جاءت صورة اجتماع قادة سوريا وإيران وحزب الله وحماس لتتولى تظهير كلام وزير الخارجية السوري وليد المعلم قبل فترة والذي نبه فيه الى ان أي حرب تشنها إسرائيل ستغدو حربا شاملة، من شأنها ان تضع المدن الإسرائيلية تحت وابل من الصواريخ. لقد بات جليا الآن ان كلام المعلم لم يكن زلة لسان او وليدة انفعال ظرفي، بل هو شكل الجرعة الأولى من رد متكامل على التهديدات الإسرائيلية، جرى استكماله عبر مشهد دمشق الاستثنائي.
وبالطبع، ما كانت هذه المعادلة الردعية المستجدة لتصبح قيد التداول لولا التطور النوعي الذي طرأ على جهوزية دول الممانعة وقوى المقاومة في مواجهة إسرائيل، والتي شكل اكتساب عنصر الصواريخ، الفعالة والبعيدة المدى، العامل الحاسم فيها. ويكفي في أي مواجهة محتملة، تصور مدى الفارق المتوقع بين ان تكون الطاقة الصاروخية الإسرائيلية موزعة على الجهات الأربع «المعادية» والمتسعة في الجغرافيا وعدد السكان، وبين ان يكون الكيان الإسرائيلي بمساحته المحددة وتعداده السكاني المحدود تحت مرمى قوة صاروخية متعددة الفوهات الجغرافية.
وهناك بين المتحمسين للمعادلة الجديدة من يقول ان الحرب المقبلة انتهت عمليا قبل أن تبدأ، لان مفاعيلها أصبح سارية بقوة الدفع التلقائي، استنادا الى توازن الرعب المستحدث، والأرجح انه لم يعد بمقدور إسرائيل والولايات المتحدة تجاهل هذا المعطى الاستراتيجي الطارئ، برغم مرارته. وعليه، ستجد واشنطن ذاتها مضطرة عاجلا أم آجلا الى إعادة ترتيب أوراقها انطلاقا من حقيقة ان تل أبيب باتت عاجزة عن شن حرب سهلة او مضمونة النتائج، يمكن الرهان عليها لإعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، وبالتالي فان الإدارة الأميركية لم تعد تستطيع ان تبيع أحدا من كيسه على قاعدة: «نحن مستعدون لكي نضبط إسرائيل ونحميكم من خطر الحرب، ولكن عليكم ان تدفعوا في المقابل الثمن المناسب سياسيا..».
والخبر السيئ بالنسبة الى الأميركي انه ينزل من الشجرة ولا يصعد إليها، بمعنى انه جرّب في السابق كل أوراق الضغط لتحقيق أهدافه، بدءا من الحرب على العراق وأفغانستان، وصولا الى محاصرة سوريا وإيران ورعاية عدوان إسرائيلي منظم على غزة ولبنان للقضاء على حركة حماس وحزب الله، ولكن كل هذه الأوراق احترقت تباعا، ما يجعل واشنطن الآن أمام خيارات ضيقة قد يكون أحلاها مرّا.
يبقى، ان هذه القراءة المبنية على «فائض قوة»، تجد لدى أوساط لبنانية من يرى فيها فرضيات نظرية ليست مطابقة للواقع، ومبالغات في تقدير نقاط ضعف الآخرين قد تجعل أصحابها يندفعون نحو مغامرات سياسية وربما عسكرية غير محسوبة. وبينما يتواصل السجال بين القراءتين وأنصارهما، وحدها، دينامية الأحداث في الآتي من الأيام ستُبين أيهما هي الأدق.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى