الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةصفحات العالم

لقاء دمشق يتدارك الحرب بالاستعداد لها

سليمان تقي الدين
ما يميّز منطقتنا عن سائر مناطق العالم أنها لم تعرف الاستقرار السياسي على مدى القرن الماضي . تشكلت دولها وأنظمتها من خلال عملية استعمارية مباشرة . لكن الأهم من ذلك أنها حين تخطَّت مشكلة هويتها وتكيّفت مع النظام الاقليمي الذي فرض عليها واجهت تحديات جديدة لاعادة تشكيلها من جديد . لم يتوقف المشروع الصهيوني عند انشاء الكيان في امتداد الحرب العالمية الثانية، بل هو استأنف مساره ليكون عنصراً مقرراً في محيطه في تكامل مع الدور الامريكي الذي ورث الاستعمار القديم . حين تغير النظام الدولي أول ما استهدف بناء “شرق أوسط” وصف مرَّة بالجديد ومرَّة بالكبير تحت وصاية دولية تلغي كل عناصر قوته وتقدمه وتضع اليد على موارده وثرواته وتخضعه لعملية كولونيالية جديدة . جرى تدمير العراق للقضاء على احتمالات قيام دولة قوية بقطع النظر عن ادارته السياسية . بدأت المواجهة السياسية مع ايران بقطع النظر عن اهدافها السياسية . ما يحرك السياسات الغربية هو التصدي لاحتمالات نشوء دول قوية تمسك بمقدرات أساسية تنزع الى الاستقلال بقرارها وادارة مواردها ومجتمعاتها من دون املاءات الخارج .
حاجة شعوب المنطقة الى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية كانت دائماً موجودة وموضع بحث، لكن الغرب لم يلتفت مرَّة الى هذه الاعتبارات وهو يرسم سياساته في السيطرة على المنطقة . لم يكن الغرب يوماً يضع هذه المعايير في تعامله مع دول المنطقة والعالم . وهو لا يحدد موقفه الآن من أي دولة أو نظام استناداً لتلك القيم والمعايير . الغرب الذي رعى قيام الكيان الصهيوني وما زال يحميه إنما احتضن أسوأ نموذج للعنصرية وللاعتداء الفاضح على حقوق الشعوب والانسان وأسقط مواثيق الأمم المتحدة وثقافة حق تقرير المصير والسلم والأمن حتى آخر القائمة .
خرجت تركيا من النظام الشرقي وسلكت طريق العلمانية واتجهت غرباً وكافحت لتكون جزءاً من أوروبا . لم يساهم الغرب في استيعابها رغم انضمامها الى الحلف الأطلسي وتعاونها مع “إسرائيل” . لم تتحول تركيا في موقفها السياسي فقط بسبب تراثها الاسلامي . علمنة الدولة لم تلغ هويتها الثقافية والدينية . التحول في الموقف التركي يستشعر خطر تصاعد الهويات المذهبية والاثنية . ما زال مصير العراق ومستقبله قيد البحث . اذا فشلت العملية السياسية في استعادة وحدة العراق وهويته العربية الأساسية بنجاح الانتخابات الشهر الجاري، فسيكون على دول الجوار أن تدخل في لعبة اقتسام النفوذ . لكن المخاطر التي حذّر منها وزير الخارجية التركي مؤخراً هي وقوع حرب إقليمية تنشر الفوضى في أكثر من دولة وتؤدي الى انهيار منظومة السياسة والأمن فضلاً عن النتائج الكارثية الانسانية والاقتصادية .
في هذا السياق جاءت قمة دمشق أو لقاء دمشق لأطراف الممانعة والمقاومة، لتأكيد عدم استفراد أي طرف من الأطراف المرشحة لعمل عسكري من الكيان الصهيوني . في الواقع إن التهديدات المتوالية والمتصاعدة ليست مجرد تهديدات، إنها تترافق مع استعدادات جدية على قدم وساق ومناورات تحاكي الحروب وتتناول كل الجبهات . “إسرائيل” تسابق الزمن على خلق وقائع يصعب الارتداد عنها عبر توسيع وتعميق الاستيطان وتغيير البنية الانسانية والتاريخية بما في ذلك التراث الديني في المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي . لدى الكيان فرصة من الوقت لإعادة رسم خارطة فلسطين في غياب وحدة الموقف والانقسام ومن خلال حال السلبية العربية . هناك سيناريوهات ترسم لحل المسألة الفلسطينية على أساس تغيير الجغرافيا بالقوة أم بعروض الاستبدال . ما زال العقل الصهيوني يعتبر دولة فلسطين في الأردن رغم توقيع اتفاقية سلام، وكذلك يريد لغزّة أن تصبح جزءاً من الجغرافيا المصرية . لم يعد الجولان السوري ولا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا مواقع عسكرية فقط، بل هناك مطلب صريح يتردد عن التصرف بالثروة المائية . من اجل ذلك شهدنا حركة واسعة للاستيطان في الجولان، وتهرّب من تطبيق القرار 1701 وتسليم شبعا لسلطة الامم المتحدة . كل الدبلوماسية الدولية حذرت من أن حرباً ستقع في الربيع أو الصيف وذريعتها تعزيز قدرات المقاومة في لبنان عبر سوريا ومن ايران . لكن الملف الايراني يتجه اكثر لتجميع الموقف الدولي من اجل فرض العقوبات والحصار . كل هذا هو شكل من أشكال الأعمال الحربية . ومن البديهي القول إن الحرب تتزايد احتمالاتها ويتم التحضير لها وعندها ليس مهما من يطلق الرصاصة أو القذيفة الأولى أو يصطنع ذريعة لها . الحسابات العقلانية التي مازالت تستبعد الحرب لا تدرك حجم التطور الفاشي في عقلية قادة الكيان الصهيوني التي حذّر منها رئيس المحكمة العليا السابق . شبّه رئيس المحكمة العليا، قادة “إسرائيل” بالنموذج الهتلري الذي صعد الى السلطة بواسطة الديمقراطية لينقلب عليها وليجعل من اسطورته أو فكرته المحرضة قاعدة للعمل بقطع النظر عن الحسابات .
حين يسيطر العقل الفاشي على القيادة السياسية والعسكرية يعني ان المحرك الاساسي للقرارات هو الخوف او الوهم أو الاسطورة . نحن أمام قيادة صهيونية تحاول استعادة البنية الايديولوجية الصهيونية حين تأسيسها بصرف النظر عن المتغيّرات والوقائع . يتحدثون عن يهودية الدولة وعن الخطر الديمغرافي العربي وعن الطموح للعب دور “اسرائيل الكبرى” أو العظمى . تتراجع فكرة التسوية السياسية بالمطلق وتتراجع فكرة رسم حدود الدولة . ما كان مطروحاً عن حل الدولتين، لدى بعض القيادات ولدى المجتمع الدولي، يتحول الى مشروع “حل اقتصادي” لمشكلة الشعب الفلسطيني كما يطرح نتنياهو . أي التعامل مع سكان بلا هوية وطنية وبلا نظام سياسي وبلا سيادة . نحن امام مشروع عنصري شبيه بجنوب افريقيا سابقاً .
في احسن الاحوال تطبق “إسرائيل” نموذجها في غزّة . جغرافيا بشرية محاصرة لا سيادة لشعبها على حدودها وأمنها بما في ذلك الماء والهواء والغذاء . ما يجري على أرض الواقع هو سحب جميع المبادرات السياسية من التداول . لم تعد هناك أية افكار تطرح سوى التفاوض للتفاوض ولم نسمع المبعوث الامريكي جورج ميتشل يطرح فكرة جديدة . بل التفاوض على وقف الاستيطان وعدم تهويد المقدسات، أما قضايا الحل النهائي فلا احد يقدم تصوراً لها بالمطلق . وزيرة الخارجية الامريكية اعلنت خيبتها من تقدم الحوار . هي تدعو العرب لتقديم المزيد من التنازلات المسبقة لكنها لا تلتزم أصلاً بأية أفكار مسبقة . على ماذا يفاوض العرب بعد سحب المبادرة العربية أو تعطيلها وبعد عدم ذكر واشنطن لحل الدولتين، وبعد اسقاط الكيان الصهيوني لمبدأ التعامل مع القرارات الدولية . المنطقة أمام مأزق لا أفق فيه للتسوية السياسية، لكن الغليان مستمر والجميع يسعى في سبيل تطوير موقعه وتعزيز أوراقه . اذا صح هذا الوصف فإن تغيير هذا التوازن لا يتم إلاّ بالحرب . اذا كان من حظوظ لهذه المنطقة فقد تكون محدودة، وإلاّ فإن الحرب الاقليمية الشاملة ستغيّر وجه المنطقة لكن بالمزيد من الأثمان الباهظة، ولو ان “إسرائيل” مرشحة لدفع ثمن مقابل . قمة دمشق تركت الابواب مفتوحة امام كل الاحتمالات، فهل تنضم الدول العربية الى صف الساعين لاستبعاد الحرب بالضغط على أمريكا لانتاج مبادرة سياسية، أم سيشجع الموقف العربي بتناقضاته على اطلاق دينامية الحرب؟
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى