دافع عن حزب الله ضد العدوان الإسرائيلي وعن الاخوان المسلمين ضد القمع نصر حامد أبو زيد
غياب الحرية سبب التحريم والتكفير والقرآن ظاهرة تاريخية
ناظم السيد
بيروت ـ القدس العربي حين ذهبت لإجراء حوار مع نصر حامد أبو زيد كنت أشعر ببعض الحرج. مردُّ هذا الحرج أنني دبّرت اللقاء قبل يوم من الحوار وذلك أثناء قدومه إلي بيروت بدعوة من جميعة دوار الشمس لإلقاء محاضرة في مسرحها، وبسبب عدم اختصاصي في موضوع الفكر الإسلامي وإن كنت مثل كثيرين أملك ثقافة عامة عن هذا الفكر إضافة إلي قراءتي عدداً من أعمال المفكر المصري. لكني ما إن بدأت الحديث معه حتي وضعت جانباً كل ما حضرت من أسئلة، معتمداً علي مجري الحديث لمناقشة الرجل في طروحاته وأفكاره التي جرّت عليه دعوي تكفير ومحاكمة أوصلته إلي هولندا. لا يتوقف نصر حامد أبو زيد عن الابتسام أثناء الكلام. ثمة مسافة ما بين الرسم الذي تركه في ذهني عن شخصه من خلال قراءتي كتبه وما بين الانطباع الذي رأيته في حديثي إليه. بين جدية كتبه المتجهمة وبساطته (إنما العميقة) في الكلام وخفة دمه بين وقت وآخر، مسافة ليست قليلة. لم ينزعج الرجل من سؤال، ولم يُبدِ رفعة علي سؤال حتي إذا كان خاطئاً، يتكلم باستطراد شارحاً، مفصّلاً، قافزاً علي الموضوع قبل أن يعود إليه بعد مقطع اعتراضي. ساعة وربع الساعة استغرق حديثنا قطعتها اتصالات هاتفية عديدة. لكنه بعد كل اتصال، كان يعود إلي الموضوع حيث انقطع بلهجة محكية تبدأ بنبرة لا تلبث أن تنخفض. وأكثر ما أدهشني أن الرجل راح يبتسم بخجل حين بدأت ألتقط له صوراً، لدرجة أنه توسّل هاتفه النقال كدمية ليخفي طريقتي المباشرة في تصويره بالكاميرا.
الرجل القادم من منطقة فقيرة في إحدي قري طنطا، لم يستطع نيل شهادة الثانوية العامة التوجيهية لأسباب مالية، لهذا اكتفي بالحصول علي دبلوم المدارس الثانوية الصناعية، قسم اللاسلكي. لكنه ما لبث أن دخل كلية الآداب لينال دكتوراه في الدراسات العربية الإسلامية بعدما عمل فترة كفني لاسلكي في الهيئة العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية.
أثار نصر حامد أبو زيد إشكاليات وقضايا عديدة في طروحاته منذ كتابه الأول الاتجاه العقلي في التفسير إلي فلسفة التأويل و مفهوم النص و دوائر الخوف و المرأة في خطاب الأزمة و نقد الخطاب الديني و السياسة والإسلام . هنا حوار حول بعض هذه الإشكاليات والقضايا.
البحث في التحريم والتكفير
دكتور، هذه المحاضرة الثالثة لك في بيروت في السنتين الأخيرتين: التأويل الإنساني في القرآن هل هو ممكن؟ و نقد الفكر الإسلامي . دعنا نبدأ من هذه المحاضرة التي تحمل عنوان الفن وخطاب التحريم (ألقاها في مسرح دوّار الشمس). تعتبر أن التحريم أو التكفير في الفنون وغيرها لهما جذور تاريخية أبعد من القرن العشرين، أي ما قبل محاكمة علي عبد الرازق بسبب كتابه الإسلام وأصول الحكم عام 1926، وقبل إحراق مسرح أبي خليل القباني في دمشق مطلع القرن العشرين، وقبل قضية طه حسين حول كتابه في الشعر الجاهلي . أين تجد جذور هذا التحريم تحديداً؟
حضرتك قلت قبل القرن العشرين. هذا حقيقة في اعتقادي. أظن أن الجذور التاريخية الحديثة ـ لأن ثمة جذوراً تاريخية تراثية كما في الصراع بين فرق المتكلمين والمذاهب الإسلامية ـ هذه الجذور بدأت بعد انتهاء الخلافة عام 1924. كانت هذه نقطة تحول في تاريخ العالم الإسلامي بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص. سقوط الخلافة أوجد حالة يمكن أن نسميها مشكلة الهوية. وهذه المشكلة بدأت تفصل العالم العربي إلي قسمين، هوية مركبة تري أننا ننتسب إلي التراث والتاريخ بقدر انتسابنا إلي العالم المعاصر، وبالتالي لا بد من إيجاد صيغة ما بين التراث والمعاصرة. الصيغة الأخري تمثلت بالعودة إلي السلف وهي لا تري في الحياة المعاصرة إلا الفساد. هاتان الصيغتان ظلتا في حالة توتر منذ بداية القرن العشرين. وبسبب هذا التوتر ظهر خطاب التحريم. تزداد مساحة التحريم والتكفير كلما زادت المجتمعات شعوراً بالاختناق.
قلت إن الخلافة انتهت عام 1924. أي خلافة تقصد؟
أقصد الخلافة العثمانية.
ألم تكن العلاقة القائمة ما بين النظم السياسة والسلطة الدينية، ما بين الحاكم ورجل الدين، سبب هذه التحريمات تاريخياً؟
إذا رجعت في التاريخ ستجد عكس ذلك. لم يكن هناك وحدة ما بين مؤسسة الدولة كسياسة ومؤسسة الدين. كان الفقيه مستقلاً عن الدولة. القاضي كان يتم تعيينه من قبل الدولة، لكن الفقيه لا. لا مالك بن أنس ولا أبو حنيفة ولا الشافعي أو ابن حنبل كانوا يعملون لرضا السلطان. بل كان لديهم مواقف من بعض الحكام.
وقد سجن بعضهم…
صحيح، هذه المواقف أدت إلي اضطهادهم. الخليفة كان حاكماً مدنياً. لم تكن هذه العلاقة ما بين الدولة والدين قائمة بهذا الشكل. هذا إسقاط معاصر يقوم به أصحاب هذه الدعوة.
إذا دخلنا إلي الراهن، هل من علاقة ما بين تصاعد الأصوليات الدينية وتكاثر التحريمات. هل تساهم ـ مثلاً ـ في هذا التحريم حرفية السلفيين في قراءة النص التي لا تحرّم الفن فحسب بل تحرّم التخييل، تحرّم تأويل النص الديني، ما تسمّيه أنت المطابقة ما بين الممثل والممثول أو بين الذات والموضوع؟
ما أشرت إليه نتيجة وليس علة. لماذا يحرص بعض الناس علي ما يُسمّي التمسك بمرجعية لا تفهم إلا فهماً حرفياً، وبالتالي لا يمكن تأويل هذه المرجعية، سواء كانت هذه المرجعية دينية أم ثقافية أم اجتماعية؟ أصحاب الفهم الحرفي ليسوا أصوليين إسلاميين فحسب بل هناك الأصوليون الماركسيون والأصوليون الوطنيون أحياناً. ثمة الكثير من الثوابت الدينية والثوابت الاجتماعية والثوابت الوطنية. كل دعوة للثوابت هي معناها دعوة لفهم مجموعة من المبادئ فهماً حرفياً، واعتبار أي فهم آخر انحرافاً عن الفهم الحرفي. هذه الظواهر ناتجة عن اختناق في المجتمع، اختناق في الحريات. الأطراف جميعها تخفف من الحرية. كل طرف يريد الحرية لنفسه والاضطهاد للآخرين. حين تختنق الحرية في المجتمع يصبح التحريم الأداة التي تؤمن الحماية للقيم في نظر الذين يتمسكون بهذه القيم. مثلاً، تجد وراء التحريم حماية الأخلاق، حماية عقائد الناس من أن يصيبها الفساد. هذه الحماية تفترض أن المواطن الفرد أو الجماعة غير قادرة علي حماية القيم وعليه تحتاج إلي حماية خارجية. بهذا المعني فإن التحريم بأنواعه الدينية والسياسية والاجتماعية محاولة لفرض هذه الحماية. كل هذا يقودنا إلي سؤال الحرية. الفن البصري، الفن التصويري، الفن الجسدي، الفن القولي، هذه الفنون ممارسة للحرية ضد قوانين الجاذبية، ضد قوانين الزمان والمكان، ضد الأبعاد… الحرية شيء مخيف بالنسبة إلي الذين يريدون الحفاظ علي الثوابت أياً كانت هذه الثوابت. الثوابت الدينية أخطر طبعاً. ادعاء الثابت الديني، ثم ادعاء معني معين للدين، يعني أن الخروج علي هذا المعني كفر، والكفر يعني القتل. المحرّمات في الثوابت الأخري ـ وإن كانت ليست أقل خطورة علي مستوي الحياة ـ لكنها أقل خطورة علي مستوي النفي. لهذا أصبح التحريم في حياتنا القاعدة وليس الاستثناء. حين يتكلم البعض عن الحرية ـ وبين هذا البعض مثقفون ـ يبدأ بوضع ضوابط. بدل أن نمارس الحرية نبدأ بوضع ضوابط لهذه الحرية. في المجتمعات المتقدمة ثمة محرّمات أيضاً. كنت في نقاش الأسبوع الماضي مع أحد المفكرين الهولنديين وتحدثنا في هذه المحرّمات كالهولوكوست. كان ردُّ هذا المفكر أنهم يحاولون تقليل عدد المحرّمات. نحن بالعكس، المحرّمات تزداد كل يوم. وهذا يعني أننا نعيش حالة اختناق تزداد هي الأخري سواء في الاجتماع أم السياسة أم الدين.
اقتراحات لا قواعد
إذا انتقلنا إلي الحديث عن مشروعك الفكري، نلاحظ أنك بدأت بالدعوة إلي تفسير القرآن تفسيراً تاريخياً كما في كتبك الاتجاه العقلي في القرآن ، فلسفة التأويل و مفهوم النص ، لكنك انتهيت فقيهاً كما في دوائر الخوف و المرأة في خطاب الأزمة . ألا تخشي أنك وقعت في ما وقع فيه السلفيون، أي تقييد تفسير النص الديني؟
بأي معني؟
بمعني أنك وضعت مناهج لتفسير النص الديني. تكلمت عن منهج القراءة التأويلية. جزء من هذا المنهج يقوم علي منهج خارجي أي السياق التاريخي للنص، وهناك القراءة الداخلية، أي العلاقة الدلالية للغة وما إلي ذلك. ألا تري أن هذا المنهج يقيّد النص أيضاً؟ ثم إنك انتقلت من قراءة النص إلي الفقه، أي الاجتهاد، وتحديداً في كتابك المرأة في خطاب الأزمة الذي عطلت فيه العديد من الآيات القرآنية أو اجتهدت فيها مفسّراً إياها تفسيراً جازماً؟
لكن هذا ليس تفسيراً نهائياً. لا أملك أي ادعاء سواء كان منهجياً أم في بعض القراءات التي أقدّمها، بأن هذا التفسير الذي أقدّمه نهائي. أرجو ألا أكون وصلت إلي مثل هذا الادعاء. طرح منهج يعني بالنسبة إلي طرح مبادئ منهجية وليس منهجاً مغلقاً. مثلاً، التأويل ليس إنتاج معني للنص يزعم أن هذا المعني نهائي. التأويل هو ثمرة التفاعل بين القارئ والنص. القارئ إنسان تاريخي والنص ظاهرة تاريخية. النص كظاهرة تاريخية له حدود تسمي المعني التاريخي. الإنسان كظاهرة تاريخية ينتمي إلي مجتمع وثقافة وأفق فكري. عملية التأويل هي التفاعل بين القارئ والنص. هذا ليس كلامي بل هو كلام المعرفة الحديثة. هذا يعني أن ثمة عنصراً متغيراً في هذه العملية وهو المفسّر العصري. لهذا فإن التأويل ليس دوغما. شخصياً، أحاول قدر ما أستطيع ألا أخلق دوغما جديدة. هذا لا يمنع مشاركتي في طرح الآراء والنقاش حول المرأة وحقوقها وحقوق الإنسان عموماً من خلال النظر في معني النص الديني. لكن كل هذا يتم طرحه بوصفه اجتهادات قابلة للنقد وللنقاش وليس للفرض. في النهاية نصر حامد أبو زيد فرد.
هذا ما تقوله الآن في حوار، لكن من خلال كتبك تبدو مفسّراً للنص الديني أكثر منك طارحاً اقتراحات. مثلاً، لا تأخذ علي الإمام الشافعي تقديسه اللفظ فحسب بل تأبيده المعني الديني للنص، وذلك من خلال وضعه ترتيباً للاستدلال يقوم علي تراتبية القرآن، السنة، الإجماع والقياس. أنت أيضاً وضعت قواعد ـ ليست بالطبع كقواعد الأئمة الأربعة ـ مثل العلاقة بين المعني والمغزي أو العلاقة ما بين السبب والنتيجة. هل هذه قواعد علمية لتفسير القرآن؟
هذه كلها اقتراحات. العلاقة ما بين المعني والمغزي هي العلاقة ما بين المؤول والنص كما شرحتها قبل قليل. المعني ليس هو النص فقط أو المؤول فقط. أنا لا أضع قواعد بل أقدّم اقتراحات. ثم إن نقدي للإمام الشافعي ليس بسبب وضعه قواعد لأن لا بد للقواعد في أي منهج. لكن أن تكون هذه القواعد جامدة فهذا يعني أن المنهج جامد. نقدي للإمام الشافعي يتعلق بمفهوم السنة وهو بالتالي أوسع من فكرة الأبستمولوجيا (علم المعرفة) لأن الأبستمولوجيا استقرت في الفكر الإسلامي منذ زمن. محمد أركون مثلاً يقول يجب أن ننتقل من الاجتهاد إلي نقد العقل الإسلامي. الاجتهاد كما نعرف مفهوم محدد ومرتبط بإطار علمي وبمحاولة البحث عن حلول لمشكلات راهنة بناء علي مشكلات سابقة. وهذا يعني أخذ تجربة من الماضي وتطبيقها علي تجربة في الحاضر. لأ الحياة مش كده. ما سمّيته أنت نقداً هو نوع من الحوار مع التراث، لأنني سأظل أبحث في التراث. ليس هناك قطيعة مع التراث كما يزعم البعض. يعني أنت تعيش في زمن مختلف بينما الفقهاء والمفسّرون عاشوا في زمن آخر. في النهاية نحن ننتمي إلي التراث لكن من خلال وعينا المعاصر. ولهذا نظل علي صلة بهذا التراث. في كل حال، إذا كان عندي بعض القواعد الجامدة، وأرجو عدم وجود هذه القواعد، فهي تستحق النقد، وتستحق النقض أيضاً. وأكون سعيداً جداً إذا قام أحد من تلامذتي بهذا النقد.
السياق بدل الانتقائية
تكلمت عن محمد أركون في مطالبته بالانتقال من الاجتهاد إلي نقد العقل الإسلامي، وقد عمل محمد عابد الجابري علي مشروع نقد العقل العربي. لكنك تنتقد محمد أركون وطارق رمضان اللذين تعتبرهما تعاطيا مع النص الديني بطريقة براغماتية، أخذا من القرآن ما ينسجم مع الغرب وأهملا الآيات الأخري التي لا تتلاءم مع الغرب..
محمد أركون لم يفعل ذلك، ربما طارق رمضان..
قد أكون مخطئاً. في أي حال، انتقدت أيضاً محمد عمارة. هل هذا ما تسميه اليوم نقد الفكر الإسلامي، وهي مرحلة متقدمة في مشروعك؟
إذا نظرت إلي التراث الإسلامي فستجده تيارات. أن تركز علي تيار وتتجاهل التيار الآخر خطأ ارتكبته سابقاً في حياتي وذلك من خلال الانتقائية، كأن تنتقي الآيات التي تتكلم عن المساواة والحرية وتقول هذا هو المعني المركزي في القرآن، في حين تهمل نصوصاً أخري تقول بغير ذلك. السلفي أيضاً ينتقي نصوصاً محددة. ثمة نوع من التجاذب حول مركزية المعني في القرآن. وهذا الأمر صدي للتجاذب الذي حدث بين فرق المتكلمين سابقاً. لهذا ثمة في القرآن برأيي آيات تاريخية أي زمنية، وهناك آيات إنسانية. مع ذلك، سنظل نتفق علي المبدأ ونختلف في التفصيل. ما هو الإنساني: هل هو الجهاد أم الصبر والتحمل والعفو؟ هل الإنساني حرية المرأة والمساواة أم الرجال قوّامون علي النساء؟ ما أطلبه هو أن نطور منهجاً لا يستبعد جزءاً لحساب جزء آخر، أطالب بمنهج يحررنا من هذه الانتقائية.
وهذا ما فعلته في كتاب دوائر الخوف في الآيات التي تتناول المرأة، وأقصد القراءة العصرية للنص الديني؟
لكنها قراءة عصرية لا تهمل الجوانب التي تبدو مزعجة من وجهة نظر الحس المعاصر. مثلاً، الآيات التي تحض علي القتال تحس حين تقرؤها أن الخطاب القرآني خطاب تحريض. لا بد من أن تحلل تحريضية الخطاب في سياقها، وتحريضية الخطاب هذه لا بد من أن تعكس أن المتلقي كان متردداً في القتال. متي يكون الخطاب تحريضياً؟ حين يريد تغيير قناعة المتلقي. وهنا يجب اللجوء إلي السياق. المسلمون الذين هاجروا من مكة إلي المدينة كان مطلوباً منهم أن يدافعوا عن مجتمعهم الجديد لأنهم كانوا يقاتلون أهلهم وليس أمريكا. وهذا الفعل غير مقبول طبقاً للتقارير العربية.
طيب، يمكن إسقاط وضع المسلمين آنذاك علي وضعهم اليوم. وربما كان وضعهم اليوم أصعب من وضع النبي محمد وجماعته وقتها؟
طبعاً طبعاً. لكن العالم المعاصر طرح حلولاً مختلفة. يعني لا تستطيع أن تنظر إلي الظرف الحالي وتقيسه علي قضية سابقة. هذه قراءة تفترض أن العالم لا يتغير. أحاول أن أشرح أن الخطاب القرآني يتعامل مع متلقٍ. وتعامله مع المتلقي يراعي هذا الظرف. هل هذا الخطاب التحريضي علي قتل أقرب الناس إليك، يظل هو الخطاب المقصد المقدّس للقرآن؟ أطرح هذا السؤال كسؤال استنكاري وأضمّنه الإجابة. سئلت ـ مثلاً ـ بعد أحداث 11 ايلول (سبتمبر)، هل تعتقد أن أسامة بن لادن مسلم؟ قلت للسائل: هل تريد مني أن أصدر فتوي تكفير؟ من المؤكد أن هذا الرجل يظن أنه يخدم الإسلام.
حين تطلب مني الإجابة علي هذا السؤال فإنك تضعني مكانه (بن لادن) بالضبط. لهذا لا بد أن ننظر إلي تلك الآيات ليس بوصفها صراعاً لاهوتياً. ما نعيشه اليوم ليس صراعاً لاهوتياً، دينياً. هذه قضية يجب أن نفككها. صحيح نحن نعيش في صراع، في خصومة، ومطلوب منا أن نمارس نوعاً من الصراع، لكن رفع اللافتات الدينية إلي أي حد سيكون خادماً لتحقيق هدفك؟ من هنا، فإنني حين أحلل، أضع التفسير في سياق. هل هذا المعني المقصود في ذلك السياق (التاريخي) هو المعني نفسه المقصود في سياقنا الحالي؟ وعليه، فإن أي تفسير لن يكون موضوعياً مئة في المئة. العلوم الإنسانية نفسها هي علوم موضوعية ـ إلي حد كبير ـ تأويلية.
علي حافة النص
يؤخذ عليك في هذا الموضوع أنك تضع التفسير علي حافة النص. البعض يقول إنك تأتي بالنص لكنك تجتهد خارجه. يعني أنت تجتهد في النص لكنك تنتهي في الواقع المعاش، أو تنطلق من الواقع وتسحب النص إلي هذا الواقع؟
العلاقة بين النص والواقع، العلاقة بين النص والمفسّر، ليست علاقة يحكمها ما تريد أو ما أريد. نحن نصف ظاهرة خارج إطار الإرادة. حتي من يزعم أنه لا يخرج عن النص، هل يستطيع هذا الزاعم أن ينكر أنه إنسان يعيش في ظروف وملابسات تشغله طوال الوقت. الفرق بين الوعي المعاصر وبين الوعي غير المعاصر مسألة موضوعية. لا يوجد مفسّر في الحياة يستطيع أن يحيّد نفسه كلياً. مثلاً، حين يقول لك أحدهم العين تزني والأذن تزني هل هو خارج الواقع؟ هذا الواقع ـ سواء أراد أم لا ـ يخلق له الموجِّهات التي تجعله يتعامل مع النص. في النظريات المعاصرة ثمة مشكلة تقول بأنه لا بد من أن تعترف بهذا، أن تكون علي وعي بهذا، لأنك إذا تركت هذه الموجهات تعمل من دون وعي بها، عندها تدخل هذه الموجهات في الأيديولوجيا. وعيك المعاصر بهذه الموجهات يحميك من أن تتركها تعمل في الخفاء. لا يوجد مفسّر يدخل النص ببراءة الذئب من دم ابن يعقوب، وإلا نزعم أن هناك بشراً قادرون علي التملص من واقعهم والعيش في عالم مقدّس. المقدّس والإنساني في حالة افتراق. عدم إدراك هذا يؤدي بنا إلي ادعاء تفسيرات مقدّسة.
لهذا ثمة من يري أن مشروعك هو نقد للنقد الديني وليس مجرّد تفكيك؟
لم أفكك النص، لا أفهم ما معني كلمة تفكيك النص. ليس لدي منهج محدد أتبناه. أنا مستفيد من الإجراءات المنهجية التي أقرؤها هنا وهناك. ربما علاقتي أكثر ما تظهر في فلسفة التأويل، كفسلفة تعمل علي العلاقة ما بين المؤوَِّل والظاهرة المؤوَّلة، وتضع المشكلات المضمّنة في هذه العلاقة، وبعض هذه المشكلات تحتاج إلي مبادئ من البنيوية أو التفكيكية وغيرهما. لكنني أتحاشي هذه المصطلحات، لأن كل منهج هو نتاج ظروف ثقافية معينة. وهنا يجب أن نكون حذرين، لأن كلمة تفكيك في الوعي العام هي الهدم والتحطيم. حتي كلمة نقد تحمل الاشتباه نفسه. كلمة نقد لدي الجمهور كلمة سلبية. ما أفعله هو التحليل التاريخي. وكذلك كلمة تأويل لها معني سلبي لدي الناس مع أن كتاب الطبري كله قائم علي التأويل. في كل صفحة يكرر وتأويل قوله تعالي… . لقد اكتسب خطاب التأويل سمعة سيئة بعد القرن الرابع للسنة الهجرية، وذلك في سياق الصراعات بين الدولة العباسية والدويلات الشيعية. وعليه، فإن ما تسمّيه تفكيكاً ليس إلا محاولة لتحليل ظاهرة تحليلاً تاريخياً. اكتساب بعض المصطلحات سمعة سيئة يجب ألا ترعبنا نحن الذين نتعاطي الفكر، وإلا لن نتقدم في بلورة مفاهيم تساعد في صوغ أفكارنا. عندها سنظل نستخدم كلمة تفسير بدل تأويل، مع أن التفسير مرتبط بشرح المفردات.
لكن البعض يقول إنك تسعي إلي تجميد المعني الديني، إلي تعطيله. كأن هذا نوع من الالتفاف علي النص؟
هذا البعض دعه يجيب علي السؤال الآتي: هناك نصوص قرآنية كثيرة عن العبودية. طيب العبودية اختفت من العالم. هل يعني هذا تعطيلاً للنصوص الدينية التي تتحدث عن العبودية؟ ومن الذي عطّلها أنا أم التاريخ؟ أم أن الأمر يفرض علينا قراءة لهذه النصوص ليس بوصفها نصوص أحكام، بل كونها تتضمن دلالات روحية وأخلاقية لا تتوقف بانتهاء النظام الاقتصادي الذي كان قائماً وقت نزول هذه الآيات. هؤلاء يريدون منك أن ترفض المعني قبل أن ترفض خط الاستدلال الذي يؤدي إلي هذه النتيجة. النتيجة خلاص كلام فارغ، هم يقولون نصر حامد أبو زيد عاوز يعطل القرآن، وخلاص. دعونا نتناقش حول المناهج لا أن نختصم حول النتائج. من الممكن أن يكون المنهج صحيحاً، بينما النتائج مغلوطة. بمناقشة المنهج نستطيع تصويب المنهج. لكن ـ للأسف ـ يتم النقاش كله حول النتائج. أتكلم هنا عن الخصوم. لم أجد نقاشاً حول جزئيات المنهج، الخطوات التي وصلت علي أساسها إلي مسألة التاريخية. هناك رفض للتاريخية؟ طبعاً. تأبيد المقدّس. نحن نريد أن نحمي المقدّس. في كل حال، فإن المقدّس هو الذي يحمينا وليس نحن من نحميه. ليس هناك نقاش في المقدّمات، بل مجرّد انزعاج من النتيجة لأسباب ترتبط أحياناً ـ وآسف علي هذا القول ـ بضعف مناعة الإيمان. يعني أنت خائف علي إيمانك وتريد أن تحمي إيمان الآخرين. منطق الوصاية أو الحماية وعدم القدرة علي مناقشة المقدّمات، لا تنفع. في النهاية يجب أن يستمر الحوار الفكري، ويجب ألا نعطي السلطة السياسية فرصة أن تنصر هذا الفريق وتقمع ذاك الفريق. السلطة السياسية قادرة علي استخدامنا، وإذا استخدمتنا هذه السلطة سيكون ذلك أكبر جريمة نرتكبها. ينبغي أن ندافع كمفكرين عن الحرية سواء انتمينا إلي هذا المعسكر أم ذاك المعسكر. كنت أحد المثقفين العرب القلائل الذين وقفوا ضد إلغاء الانتخابات النيابية في الجزائر عام 1997….
مع المقاومة والحرية
ثم وقفت مع حماس في فلسطين ودافعت عن الاخوان المسلمين في مصر وناصرت حزب الله في لبنان بعد حرب تموز (يوليو) 2006؟
حزب الله يتصدي لعدوان إسرائيلي. أنا مع المقاومة. كما دافعت عن حرية الأخوان المسلمين. يجب أن نساعد الآخرين لتطوير أنفسهم.
يعني ليس نوعاً من الحنين للاخوان المسلمين؟
(يضحك) لا يمكن أن أكون سعيداً بالأحكام القضائية الصادرة في حق أعضاء الاخوان المسلمين وأيضاً الشبان والشابات الآخرين من غير الاخوان المسلمين. ثم إن فكر الأخوان المسلمين جزء من الواقع المصري والعربي. وحين تزعم الدولة أنها دولة تقدمية وتقوم بالقهر، أقول لها: إنت يا دولة دولة بوليسية.
أليس هذا نوعاً من الوسطية، يعني نراك تنتقد السلفية وتنتقد الليبرالية بشكلها الأيديولوجي. كتبت مقالاً، قلت فيه: أنا أتبرّأ منكم أيها العقلانيون العرب .
لم أكتب إطلاقاً هكذا. لا يوجد كلمة أتبرأ إطلاقاً.
المقال نشر في 30 من الشهر السابع عام 2006 في المصري اليوم .
كتبت عن العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء، أي العقلانية التي تستبعد الكثير من الأمور والليبرالية التي تسير في اتجاه واحد. وهذه مشكلتي في الغرب أيضاً. هذه مشكلتي مع المفكرين العلمانيين الذين يستبعدون الدين ويعتبرونه خطراً. هم لا يميزون بين الإيمان وبين الأيديولوجيا الدينية. هم لا يميزون بين مجتمع المتدينين ومجتمع دعاة الإسلام. الدين قوة محركة في الواقع ومخزون روحي وأخلاقي. في النهاية، هل نحن ضد الدين أم ضد فكر ما يرفع خطاباً معيناً. لهذا يري البعض أنني أغازل الإسلاميين. وهذا كلام لا يخيفني لأن الإسلاميين ليسوا أعدائي. الخصومة الفكرية ليست عداء. وعلي العموم، الكلام عن حماس أو الاخوان المسلمين أو حزب الله هو نوع من النقد.
ربما لأن الأزمة التي تعرضت لها لم تأتِ من الاخوان بل من المؤسسة الأكاديمية، من الجامعة التي تدرّس فيها، ثم من الدولة التي خذلتك، وهذا ما حدث مع كثيرين أمثالك؟
من الصعب أن تفصل بين المؤسسة الأكاديمية والاخوان المسلمين. الجامعات مملوءة بالاخوان المسلمين. وإذا كان الاخوان المسلمون لم يصدروا بياناً يؤيدون فيه الحكم ضدي لكنهم لم يصدروا بياناً يستنكرون فيه هذا الحكم. ثمة تشكيلات كثيرة تتحكم فيها قوي سياسية اسمها الدولة. والدولة المصرية وقعت في حرج. وقعت في حيص بيص، إلي درجة أن البعض ادعي أنه لم يكن يعلم بالقضية (يقصد محاكمته). هذا مضحك. مضحك أن يكون هناك رجل سياسي في منصب عال ليس علي علم بقضية كتب عنها ثلاث سنوات في الجرائد يومياً وفي التلفزيون. وبعد ذلك يطلع عليك وزير ويقول لك: والله ما كنت أعرف. في النهاية لا ألوم أحداً. طبعاً رددت لأنني أهنت وشتمت، لكن في النهاية، هذه ليست قضية شخصية. يعني لو أخذت المسألة بشكل شخصي لكنت دُمّرت نفسياً. كل ما في الأمر أن المجتمع يعيش حالة اختناق. الدولة استطاعت أن تجنّد المثقفين لحساب ما يُسمّي مشروع الحرب ضد الإرهاب. عدد كبير من المثقفين لم يستطع التمييز بين إرهاب الدولة وإرهاب الأفراد أو الجماعات المتطرفة.
إلي جانب الحالة الثقافية والاجتماعية التي تتحدث عنها، هناك النظام السياسي. هذا النظام سواء في مصر أم الأردن أم في الكويت أم في السعودية، يستعدي الإسلاميين ثم يتحالف معهم من خلال المنع والرقابة وغض النظر عن فتاوي التكفير. ثمة تكفير يؤدي إلي القتل. ثمة من يحرّض علي القتل علي مرأي أجهزة الدولة ومؤسساتها؟ ما الهدف من هذا التواطؤ بين السلطة السياسية والأصوليين؟
الأنظمة العربية الآن في مشكلة. تحالفت من أجل ما يُسمّي الحرب ضد الإرهاب. من أجل القضاء علي الإرهاب ينبغي الاستعانة بالمؤسسة الدينية. هذه المؤسسة الدينية تطلب مكاسب لقاء الفتاوي التي تصدرها. عندها تستطيع أن تصدر أحكاماً وفتاوي ضد الكتّاب. تصور أن يظل مجلس الشعب يناقش مدة شهرين عبارة عن الحجاب قالها وزير الثقافة. هذا يحدث ليس في العالم العربي فقط بل في العالم الإسلامي. في النهاية، أنا لست عالم اجتماع أو عالم سياسة. أنا أحلل الفكر. وتحليل الفكر لا يقيم فرقاً بين الاعتدال والتطرف. لا فرق بين الأزهر والأطراف. لا فرق بين الخطاب السياسي الذي تبديه الدولة أو الخطاب الديني الذي تبثه الدولة عبر مؤسساتها أو الخطاب الديني للأطراف. وهذا ما فعلته في نقد الخطاب الإسلامي . أحد الأصدقاء قرأ هذا الكتاب وقال لي: لم تترك أحداً يدافع عنك.
الأكاديميا والأيديولوجيا
هناك مدرستان عملتا علي النص الديني في العالم العربي: مدرسة المغرب العربي التي عملت علي نقد الفكر الديني من داخل النص الديني وبطريقة أكاديمية أمثال عبد الله العروي ومحمد أركون وفاطمة المرنيسي، وهناك المدرسة المصرية التي عملت علي نقد الفكر الديني من خارج هذا النص أحياناً أو بشكل أدق من منطلق أيديولوجي. المدرسة المغربية نجحت في حين أن المدرسة المصرية تعرض أصحابها للتكفير من علي عبد الرازق إلي حسن حنفي وسيد القمني وأنت أيضاً. ما السبب برأيك؟
المفكرون المغاربة الذين ذكرتهم مـتأثرون بالفكر الغربي أيضاً والمناهج الغربية…
لكنه تأثر أكاديمي وليس أيديولوجياً.
يعني أين الأيديولوجيا في كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين؟ أين الأيديولوجيا في كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق؟ طه حسين تكلم في قضية الشعر الجاهلي، لكنه هو نفسه من كتب الفتنة الكبري . في المغرب العربي، تمنح المؤسسة السياسية نفسها صبغة دينية. هذه المؤسسة تمثل ـ علي الأقل ـ رمزياً سلطة دينية. كما أن السلطة السياسية في المغرب تتقرب من هؤلاء المفكرين ما يمنحهم نوعاً من الحصانة. ثم إلي أي حد دخل فكر هؤلاء الشارع المغربي؟ المهم، ثمة نوع من الحماية السياسية لهؤلاء. الجابري ضيف علي الديوان الملكي. وكذلك محمد أركون. أما المشرق العربي فقد كان سبّاقاً في علمنة المجتمع من المغرب العربي. علمنة المجتمع هذه أدت إلي نقد هائل للسلطة والسلطان. وعليه، فإن القمع جاء من السلطة السياسية عبر مؤسساتها الدينية كما حصل مع طه حسين وعلي عبد الرازق. الحماية الموجودة في المغرب ليست موجودة في تونس الآن، لهذا يتعرض المثقفون هناك إلي ضربات رغم أنهم يعملون بطريقة أكاديمية وداخل الأكاديميا.
مثلاً، ألا تعتقد أن منهجك التاريخي في تفسير القرآن هو منهج ماركسي؟
المنهج التاريخي ليس ماركسياً فقط، هو منهج موجود استفادت منه الماركسية كما استفاد منه الاستشراق. طيب التمييز ما بين السور المكية والسور المدنية معناه إيه؟ هذا التمييز ليس علي مستوي المضمون فحسب وإنما علي مستوي الأسلوب. هذا إدراك بأن الظاهرة القرآنية هي ظاهرة تاريخية بالمعني الكلاسيكي، أي توظيف أسباب النزول، توظيف الناسخ والمنسوخ…. لهذا حين تنادي بالمنهج التاريخي المعاصر لقراءة القرآن لا تكون تفرض شيئاً علي التراث. ما أريد قوله إن الفكر العربي أو الفكر الإسلامي في حيويته كان علي صلة بالفكر العالمي. وحين نحاول اليوم وصل هذا الفكر العربي بالعالم يُصاب البعض بالذعر. الاستفادة من الفكر المعاصر قد تتقاطع مع جذور تراثية وهي ليست غريبة عن ثقافتنا. خذ مثلاً الهرمونيطيقيا وهو علم نشأ من الفكر اللاهوتي ومن فكر القرن الثامن عشر في ألمانيا، لكنه خرج من إطار التيولوجيا (الفقه) وأصبح نظرية في تحليل الخطاب. والخطاب هنا لم يعد مقتصراً علي الخطاب الديني بل دخل إلي علم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة وغيرها. هذه معرفة معاصرة ليست علي صدام مع التراث. المشكلة أن التراث في غناه وعمقه غائب عنا.