حوار مع إلياس صنبر: جيل دولوز والهنود الفلسطينيون الحمر
ترجمة وتقديم: كمال الزغباني
تقديم:
ينتمي جيل دولوز إلى تلك القلة النادرة من مفكري فرنسا ومبدعيها الكبار الذين تنبَهوا مبكرا لعظمة الملحمة الفلسطينية والذين لم تؤثر فيهم مكينة البروباغندا الصهيونية المتحكَمة على نحو كبير في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية الأوربية والأمريكية الشمالية. ورغم أنه جاء إلى السياسة متأخرا أي بعد تعرَفه على فيليكس غتاري وتوني نغري وإلياس صنبر، فإن رؤاه ومواقفه السياسية كانت على درجة من العمق والنفاذ جعلها تتجاوز حيَزها التاريخي الظرفي لتتَخذ بعدا نظريا كونيا لا محدودا (ماي 68، حرب الخليج، مسألة الحجاب الإسلاموي في المعاهد الفرنسية، بداية العولمة وبدايات تشكل شبكات مقاومتها،الخ..). وكان دولوز قد تعرَف إلى القضية الفلسطينية خلال السبعينات بفعل صداقة جمعته بإلياس صنبر الذي سيرأس بعدئذ تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية التي صدر أول أعدادها بفرنسا سنة1981. حيَا دولوز بحرارة تلك المبادرة التي كرَست في نظره صورة جديدة للمناضل الفلسطيني باعتباره لا حامل سلاح فقط وإنما كذلك حامل قلم ومبدع رؤية جديدة لمصيره وللوجود الإنساني جذريَا. وأجرى بالمناسبة حوارا مع رئيس تحرير المجلة نشر بجريدة ليبيراسيون (وأعاد نشره دافيد لابوجاد ضمن المجلَد الثاني الذي جمَع فيه مقالات وحوارات دولوز المتفرَقة تحت عنوان Deux régimes de fous et autres textes, Minuit, 2OO4) وهو الذي نترجمه هنا. أما النص الثاني فقد نشره على أعمدة المجلة الفلسطينية نفسها وعنونه ‹‹عظمة ياسر عرفات›› أكَد فيه خصوصا على المعاني العميقة لكلمات الزعيم الفلسطيني الراحل إبان خروج الفدائيين من بيروت وبعيد المجزرة الإسرائيلية البشعة في صبرا وشتيلا.
في هذين النصين يصوغ دولوز ثلاثة أفكار أساسية تلخَص ما هو أساسي لا بخصوص التراجيديا الفلسطينية فحسب وإنما كذلك فيما يخص التحولات العميقة والخطيرة التي مازال يعيشها العالم بسبب إصرار الأمريكان والأوروبيين على تجاهل أبسط حقوق الشعب الفلسطيني:
1- المقارنة بين الإبادة التي تعرَض لها الهنود الحمر على أيدي الغزاة الأوروبيين وبين الإبادة والتهجير الذين عانى منهما،وإلى الآن ،الفلسطينيون على أيدي العصابات الصهيونية التي ولدت من رحمها دولة إسرائيل المدعومة على نحو مطلق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وهو دعم يرجعه كل من دولوز وصنبر إلى التماثل الأصلي بين الكيانين من جهة نشأة كل منهما على مسار إبادة للسكان الأصليين.
2- تأكيد أن الشعب الفلسطيني إذ يناضل في سبيل تحرَره وسيادته على أرضه إنما يساهم أيضا في تحرير الأوروبيين خصوصا والإنسانية عامة من عقدة الذنب الأبدية التي ترعاها الآلة الإعلامية الصهيونية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي تتلخَص في القول إن اليهود هم الضحية دائما وأبدا وفي أي زمان أو وضع يكونون فيه، وذلك بفعل فظاعة الجريمة التي تعرَضوا لها على أيدي النازيين. تلك العقدة التي جعلت الجميع يقبلون واقع كون إسرائيل دولة “فوق العادة” لأن شعبها هو شعب لا ككل الشعوب وأن كل الجرائم التي يمكن أن يرتكبها لن تكفَر عن الجريمة المطلقة التي كان لها ضحية. أما الفلسطينيون فإن كل ما ينشدونه هو أن يكونوا “شعبا مثل باقي الشعوب” وهو ما تكمن فيه في الوقت ذاته عظمتهم ومحنتهم.
3- أن عدم تمكين هذا الشعب من أبسط حقوقه وأشدها بداهة أي العيش على أرضه حرَا وسيَدا سيؤدي ضرورة إلى إطلاق العنان لكافة أشكال التعصب والإقصاء لا في المنطقة العربية وحدها وإنما في العالم كلَه. وتكمن عظمة دولوز هنا في كونه قد تنبَأ بوضوح منذ بداية الثمانينات بما هو بصدد الحدوث الآن بسبب العنصرية الإسرائيلية وبسبب العمى الأمريكي والأوروبي عن واقع ما كان يحدث منذ 1948. فالفلسطينيون كانوا يشكَلون ضمن منظمة تحريرهم نموذجا مبدعا للديمقراطية واللائكية جعلهم يُنبذون من قبل الديكتاتوريات العربية رغم مسانداتها الخطابية الجوفاء. وهاهم بسبب أشكال العسف والتجاهل الذين سلَطا عليهم من الجهات كافتها ينزلقون في خطاب ههويَ إسلاموي مغلق تؤججه يوميا آلة الجريمة الإسرائيلية في تقتيلها العبثي للأبرياء العزَل. وهاهو “الشرق الأوسط” بل العالم كله ينحدر أكثر فأكثر نحو منطق ههويَ وإقصائي سواء كان مصدره اليمين المتطرَف في مختلف تلويناته وتعبيراته في العالم اليهودي- المسيحي أو التطرَف الإسلاموي الذي لم يفتأ يعيق نموَ هذه الشعوب والذي تزيده حدة آلة القمع الأمنية لكافة الديكتاتوريات العربية ، ولا عجب مطلقا أن المؤسسة العربية المشتركة الوحيدة التي تسير أمورها على أفضل حال هي تلك التي تضم وزراء الداخلية العرب .
فيما يلي ترجمة لأجزاء من حوار دولوز مع صنبر. ورغم أن دولوز يأخذ فيه دور المحاوِر فإن أسئلته وملاحظاته تعكس في نظرنا عمق اطلاعه على معطيات القضية وروعة موقفه المساند للحق الفلسطيني تسنده في ذلك رؤيته الملحمية النيتشوية للفكر وللفعل الإنسانيين وللإقامة الإبداعية في العالم باعتبارها فن وجود.
جيل دولوز: يبدو أن أمرا قد تناضج من جهة الفلسطينيين. هناك نبرة جديدة لديهم وكأنهم قد جاوزوا حال تأزَمهم الأول أو كأنهم أدركوا جهة أخرى من يقينهم ومن رصانتهم أو لنقل من “الحق” الذي يؤشَر على وعي جديد. ذات هذا الوعي الذي يمنحهم إمكان الحديث على نحو جديد لا هو بالعدواني ولا هو بالدفاعي، بل “ندا لند” مع العالم كلَه. كيف تفسَر هذا والحال أن الفلسطينيين لم يدركوا بعد مبتغاهم؟
إلياس صنبر: لقد استشعرنا ردَة الفعل هذه منذ صدور العدد الأول. هناك من الفاعلين من قال ” هكذا إذن، للفلسطينيين أيضا القدرة على إخراج مجلات مثل هذه”. وهو ما خلخل الصورة التي في أذهانهم. لا ينبغي أن ننسى أن صورة المقاوم الفلسطيني التي نقدَمها تبقى شديدة التجريد. أفسَر. قبل أن نفرض واقع حضورنا، لم يكن ينظر إلينا إلا باعتبارنا لاجئين. وعندما فرضت مقاومتنا أن يقرأ لقضيَتنا حساب تم من جديد حصرنا داخل صورة اختزالية. وهذه الصورة، مكررة ومعزولة على نحو لا نهائي، جعلتنا نبدو عسكريين لا غير وينظر إلينا كما لو لم نكن شيئا غير ذلك. من أجل الخروج من هذه الصورة نفضل أن نكون مقاتلين لا عسكريين بالمعنى الحصري للَفظ.
وأعتقد أن الاندهاش الذي أثاره صدور المجلة يتأتى أيضا من أنه صار ينبغي على البعض أن يقولوا إن الفلسطينيين موجودون فعلا وأنهم لا يصلحون فقط للتذكير بمبادئ مجرَدة. لئن كانت هذه المجلة قادمة من فلسطين فإن ذلك لا يمنع كونها تشكَل أرضية يعبَر فيها عن انشغالات عدة. حيزا تعطى فيه الكلمة لا للفلسطينيين فقط وإنما أيضا للعرب وللأوروبيين ولليهود..الخ..
ينبغي على البعض أن يتحققوا أنه طالما يوجد عمل مماثل ويوجد كل هذا التنوع في الآفاق، فإن ذلك يعني أنه في نواح أخرى من فلسطين يوجد رسامون ونحاتون وعمال وفلاحون وروائيون ومصرفيون وممثلون وتجار وأساتذة…باختصار يوجد مجتمع واقعي تنطق المجلة بلسان حاله ﴿…﴾
دولوز: عدد كبير من مقالات مجلة الدراسات الفلسطينية يذكر بالكيفيات التي أطرد بها الفلسطينيون من أراضيهم ويحللها على نحو جديد. وهذا مهم جدا. لأن الفلسطينيين ليسوا في وضع المستعمرين وإنما في وضع المبعدين أو المطرودين، وفي الكتاب التي أنت بصدد إعداده تشدَد على المقارنة مع الهنود الحمر. ذلك أنه توجد عمليتان مختلفتان في الرأسمالية. يتعلق الأمر حينا بإبقاء شعب ما على أرضه وتشغيله واستغلاله من أجل مراكمة مزيد من الثروة وهذا ما يسمى عادة بالمستعمرة. وطورا يتعلق الأمر على العكس بإفراغ الأرض من شعبها بغرض تحقيق طفرة حتى لو تطلَب الأمر جلب يد عاملة أجنبية. وقد مرَ تاريخ الصهيونية مثله في ذلك مثل تاريخ أمريكا بهذه العملية الأخيرة: كيف يمكن إحداث الفراغ، كيف يمكن إفراغ شعب ما.
في أحد الحوارات يعين ياسر عرفات نقطة الحد في هذه المقارنة وهو ذات الحد الذي يشكل أفق مجلة الدراسات الفلسطينية: هناك عالم عربي، في حين أنه لم يكن للهنود قاعدة أو قوة خارج الأرض التي كانوا يطردون منها.
صنبر: نحن مطرودون من نوع خاص لأننا لم نهجَر نحو أرض غريبة وإنما نحو الامتداد الطبيعي “لديارنا”. لقد هجَرنا إلى أرض عربية حيث لا يكفي أنه لا أحد يريد أن يجعلنا نذوب وإنما أيضا حيث تبدو هذه الفكرة ذاتها شناعة. تحضرني بهذا الصدد المخادعة العظمى لبعض الادعاءات الإسرائيلية التي تأخذ على العرب الآخرين عدم “إدماجنا” وهو ما يعني في المعجم الإسرائيلي “جعلنا نضمحل”. بغتة إذن أمسى الذين يطردوننا منزعجين من عنصرية مزعومة يمارسها العرب علينا. هل يعني هذا أنه لم يكن علينا مواجهة تناقضات مّا داخل بعض البلدان العربية؟ قطعا لا. ولكن هذه التناقضات ليست على أية حال متأتية من كوننا عربا. وقد امتنع في بعض الحالات تجنَبها لأننا كنا وما نزال ثورة مسلَحة. نحن أيضا الهنود الحمر بالنسبة للمستوطنين اليهود في فلسطين الذين يتمثل دورنا الوحيد في نظرهم في أن نضمحل. من المؤكد بهذا الصدد أن تاريخ تركيز دولة إسرائيل هو استعادة للمسار الذي منه تولَد وجود الولايات المتحدة الأمريكية.
من الأرجح أن في هذا التماثل بعض العناصر التي تفسَر التضامن المتبادل بينهما﴿…﴾ لقد جلبت الحركة الصهيونية الجالية اليهودية إلى فلسطين لا على أساس أن الفلسطينيين سيرحلون يوما، وإنما على أساس أن البلاد كانت “خالية”. كان هناك طبعا من لاحظ الأمر فور وصوله وكتب ذلك. لكن غالبية هذه الجالية كانوا يتعاملون مع الناس الذين كانوا يحاذونهم كل يوم فيزيائيا وكأنهم لم يكونوا هناك. لم يكن هذا العمى فيزيائيا بالمرة. لم يكن هناك مخدوعون من الدرجة الدنيا. لكن الجميع كانوا يعلمون أن هذا الشعب الماثل اليوم كان “منذورا للاضمحلال”. والجميع أيضا كان يدرك أن تحقَق هذا الاضمحلال كان يقتضي التصرَف منذ البدء وكأنه قد حصل فعلا. وهو ما يعني عدم “رؤية” وجود الآخر أبدا رغم أنه كثيف الحضور في الواقع. حتى يتحقق الخلاء على الأرض، كان ينبغي طرد “الآخر” من رؤوس المستوطنين أنفسهم.
وحتى تتمكن من ذلك استخدمت الحركة الصهيونية رؤية عنصرية كانت تجعل من اليهودية قاعدة إقصاء الآخر ونفيه. وكان هناك عنصر مساعد حاسم هو التنكيل الذي مورس على اليهود ومن قبل عنصريَين آخرين والذي كان يمكَنهم من إيجاد تبرير لمسارهم الخاص. علاوة على ذلك، نحن نعتقد أن الصهيونية قد حبست اليهود وأسرتهم ضمن هذه الرؤية التي ذكرتها. أقول جيدا إنها تجعلهم أسرى ولا أقول إنها جعلتهم كذلك للحظة معينة. أقول هذا لأنه بمجرَد انتهاء الهولوكوست فإن المسار قد تطور ليتحول إلى ضرب مغلوط من “المبدأ الأعلى” الذي يقتضي أن يكون اليهود هم “الآخر” دوما بالنسبة للمجتمعات التي يعيشون فيها ﴿…﴾
في الشرق الأوسط اليوم، الآخر هو العربي، هو الفلسطيني. وتكمن قمة الصفاقة وقمة الكلبية في أنه من هذا الآخر الذي يمثل اضمحلاله مشغلا يوميا يطلب الغرب الضمانات. وفي واقع الحال فإننا نحن الذين نحتاج إلى ضمانات ضد جنون القادة العسكريين الإسرائيليين.
وبالرغم من ذلك كله فإن منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلنا الشرعي والوحيد، كانت قدمت رؤية لحل الصراع: دولة فلسطين الديمقراطية التي تزول فيها كل الجدران الفاصلة بين سكانها مهما كانت انتماءاتهم.
دولوز: مجلة الدراسات الفلسطينية لها بيان ورد في الصفحتين الأوليين من عددها الأول: «نحن شعب مثل باقي الشعوب». وهي صيحة ذات معان عدة. بمعنى أول هي تذكير أو نداء.
لقد أخذ على الفلسطينيين دائما عدم اعترافهم بإسرائيل. أنظروا، يقول الإسرائيليون، إنهم يريدون إبادتنا. لكن الفلسطينيين يقاتلون منذ خمسين سنة في سبيل أن يعترف بهم.
من جهة ثانية يمثل هذا البيان اعتراضا. لأن بيان إسرائيل هو بالأحرى “نحن شعب لا كباقي الشعوب”، عبر تعالينا وعبر هول ما ألحق بنا من تنكيل. ومن ثمة تأتي أهمية نصّين لكاتبين إسرائيليين في العدد الثاني من المجلة بخصوص الهولوكوست وبخصوص ردة فعل الإسرائيليين عن الهولوكوست والدلالة التي اتخذها ذلك الحدث في إسرائيل وضمن علاقتها بالفلسطينيين وبالعالم العربي الذي هو منه براء. فدولة إسرائيل التي تفرض أن «تعامل باعتبارها دولة شعب فوق كل المعايير» تعيش في وضع من التبعية الاقتصادية والمالية للغرب على نحو لم تعرفه أبدا أية دولة أخرى، كما يقول بواز عفرون. لذلك يتمسك الفلسطينيون بالمطلب المقابل: أن يكونوا ما هم عليه فعلا، أي شعبا “عاديا” تماما.
في مقابل التاريخ القيامي، هناك معنى للتاريخ في تماهيه مع الممكن، مع تعدد الممكن ومع توالد الممكنات في كل لحظة. أليس هذا ما تبتغي المجلة بيانه تحليلاتها الراهنة، وخصوصا في هذه التحليلات بالذات؟
صنبر: بلى. مسألة تذكير العالم بوجودنا هي بلا شك مليئة بالمعاني. ولكنها أيضا على درجة قصوى من البساطة. إنها نوع من الحقيقة التي حالما يتم قبولها فعلا ستعسَر مهمة الذين تنبَئوا باضمحلال الشعب الفلسطيني. لأن ما نقوله في نهاية التحليل هو بمعنى مّا أنه لكل شعب “الحق في الحق”. نعم هي بداهة، غير أنها على درجة من القوة تجعلها نقطة البدء ونقطة المنتهى في كل نضال سياسي. ما الذي يقوله الصهاينة بهذا الصدد؟ إنك لن تسمعهم أبدا يقولون “ليس للشعب الفلسطيني الحق في أي شيء”، إذ لا قوة على الأرض يمكنها أن تسند مثل هذا الموقف. وهم يعلمون ذلك جيدا. لكنك بالتأكيد ستسمعهم يجزمون: ” ليس هناك شعب فلسطيني“.
وعليه فإن جزمنا بوجود شعب فلسطيني، ولنقلها صراحة، لهو أقوى كثيرا مما يمكن أن يبدو عليه لأول وهلة.