أحمد قعبور بدّي غنّي للناس: من كنت «أناديهم» بالجملة في السابق أصبحت أغني لهم اليوم بالمفرّق
بيروت المدينة الحاضنة، لملمت تفاصيل معناها، من وافدين، ومقيمين أبناء المدينة الأصليين. أحمد قعبور إبن هذه المدينة، الذي غادر الخمسين في عطاءات فنية، موسيقية وغنائية، علّمت في المعنى الشرقي وفي جذر التراث، تراثنا الإبداعي الذي لم يحد عنه قعبور، بل أضاف عليه وعمّقه ببصمته الموسيقية التي لا تخطؤها الأذن. أعمال قعبور تشهد عليه، نسأله في هذا الحوار عن جديده وعن مشاريعه الفنية المقبلة:
بداية، ما هي مشاريعك الفنية؟
يصدر قريباً جداً، مجموعة غنائية وموسيقية، بصوتي مع الغناء الجماعي الذي لم أبتعد عنه يوماً تحت عنوان: «بدّي غنّي للناس» التي هي في الأصل أغنية فرنسية للراحل ميشال برجيه، وقد أخذت حقوق تعريبها من زوجته الفنانة فرانس غال. كما يتضمن قصيدتين لمحمود درويش الأولى سميتها «لهذا أستقيل» وهي في الديوان «ويُسدل الستار». والثانية قصيدة بعنوان: «عنوان بيتي» لدرويش أيضاً. وهناك قصائد لزاهي وهبي وعبيدو باشا وعبد الغني طليس كتبت لتُغنّى. كما يتضمن ثلاث مقطوعات موسيقية ربما أبرزها مقطوعة: «بعد النداء» وهي صيغة موسيقية حديثة للحن «أناديكم».
ما علاقة هذه الأغاني بما غنّيت سابقاً، من حيث الموسيقى والأداءات؟
كما يغزو الشيب رأسي، أعتقد بأن نضجاً ما يغزو جُملي الموسيقية. أظن بأن جملتي الموسيقية أصبحت أكثر عمقاً وأعمق إنسانياً. حتى في الاختيارات الشعرية تعاطيت مع الانسان، ليس بوصفه شعارا او مشروعا او ايديولوجيا، انما تعاطيت معه على أساس «إنسان من لحم ودم».
من كنت أغني لهم بالجملة في السابق و«أناديهم» أصبحت أغني لهم اليوم بالمفرّق. أود ان أغني لشخص بعينه. في الأمس مثلاً، أنجزت كتابة أغنية بعنوان: «يا عبد الكريم» وعبد الكريم هو ضابط إيقاع فلسطيني كان صديقاً للمرحوم والدي، وأمضى حياته يضبط إيقاع الفنانين، وإيقاعه الأول الذي تعلّمه في عكا كان قد ضاع.
أكتب الآن عن من أحب. وعن من أخاف. عن بيروت التي رثاها الزعني قبل عقود بقوله: «يا ضيعانك يا بيروت» و«بيروت زهرة في غير أوانها». أقول له اليوم في أغنيتي الجديدة: «مش راح قول يا ضيعانك يا بيروت/ لو فيّي زهّر رمّانك يا بيروت/ مع كل اللي عاشوا حروبك/ واللي غنّوا بعتم دروبك/ واللّي لعبوا بيت بيوت/ يا بيروت».
كتبت ما كتبت، لأني لم أستسلم لما تعرض له والدي قبلي، من زهد ويأس وإحباط. وما تعرضت له أحياء بيروت في الاجتياح الاسرائيلي من محاولات تجويع وتركيع. وأتذكر افتتاحية جريدة السفير يومها «بيروت تحترق، ولا ترفع الرايات البيضاء». كما ولن أستسلم لما تعرضت له.
الآن فأقول: «فمأساتي التي أحيا، نصيبي من مآسيكم».
آفاق الطرب
يقول البعض إن آفاق الطرب والفن الجيد قد وصل الى آفاق مسدودة. كيف ترى الى المشهد الفني في البلد راهناً، والعالم العربي؟
يعتقد البعض ان الموسيقى العربية، هي مجموعة مقامات وإيقاعات، والتعاطي معها على هذا الأساس يوصل الى طريق مسدود. وفي الحقيقة هي أعمق وأشمل من كونها مقامات وإيقاعات. هي بناء وتراكمات معرفية وشعورية ومزاجية شكلت هوية وشخصية، جزء منها المقامات والإيقاعات. هي تماما كشجرة الصبّار، كل ورقة تبنت ورقة، وليست كالجذع الذي تتفرع منه الأغصان، بمعنى أنها ليست مبنية على قاعدة جامدة، خشبية، وبالتالي يجب ان ننفتح عليها من جهة، ونفتحها أمام آفاق جديدة من جهة اخرى. أليس غريباً ان نفتخر بأن الموشحــات الأندلســية جزء أساسي من هذا التراث الموسيــقي العربي؟ وهذه الموشحات أدخلت دماً جديداً وسمات جديدة عجنـها الموسيقيون بمزاج عربي شرقي، فأضحت من تراثنا.
كيف يتطابق هذا الكلام مع أعمالك، أعطني مثلاً كيف اشتغلت بروحية جديدة على عمل أثير لديك؟
تعاطيت مع القوالب الغنائية المتعارف عليها، كوسائل تعبير وليست كقوالب نهائية. أعني تعاطيت مع «الدور» بما يخدم أغنيتي. وربما ينتج هذا الـ «دور» موشحاً في لحظة ما، والموشح ينتج أنشودة. هنا أصبحت القوالب وظيفية وليست نهائية.
ألا يحصل الخلل هنا في الوحدة الفنية المتبعة كقواعد لازمة للتأليفات الموسيقية؟
لا بد من صدمة. لا بد من التمرد على اللغة التي ورثناها. ليس لإقصائها إنما لتشديدها وتحويلها من أداة للوصف إلى أداة للتعبير. وكبار في التراث «القصبجي» هي نتيجة احتكاك مجموعة قوالب غنائية عمل عليها القصبجي. ممكن في مجال التطوير ان نتأثر بالجاز والبلوز والسول وهذا وارد، لأن العالم غدا قرية واحدة، ولكن الأهم أن يبقى لكل منا صوت مختلف، وهوية وبصمة لا ترتكز فقط على مقدسات لا تمس، إنما على عصيان وتمرد ما ينتج لغة موسيقية متجددة وليست جديدة.
وهنا أمر آخر له علاقة بالآلة الموسيقية. آن الأوان لكي يكون العازف مبدعاً في العمل الموسيقي او الغنائي، وليس ببغاء يردد ما يقوله النجم او النجمة. وفي هذا المال لا بد من التنويه بما يبذله بعض الموسيقيين في هذا المجال، وخاصة اللاعبين على آلة العود كشربل روحانا مثلاً، والقانون كإيمان حمصي. ولا أستطيع إلا أن أتذكر هنا علي الخطيب الذي لا مجال إلا لحضوره في أغنيتي وموسيقاي عدا كونه ملحنا جيدا، والقليل يعرف هذا الأمر.
ماذا عن مشاريع جديدة عدا الإصدار الذي تكلمنا عنه؟
عدا المسرحيات الغنائية للأطفال وهي سنوية، أعمل على عرض فني وليس أمسية غنائية. لقد مللت الوقوف لساعات والغناء. أريد ان أمثل وأقرأ الشعر وأرقص وأغضب وأحاكي عمر الزعني وجاك بريل في ما يسمى «ميني شو» عسى تسمح لنا الظروف بذلك، بعدما حصدت الحروب أعمارنا، وتكاد تحصد أنفاسنا وأحلامنا. ولكن لعيون «تاتو»، وهو حفيدي بالمناسبة، سأبقى أحلم وأغني لبيروت ورام الله و«الميدنة» ولعبد الكريم الرشيدي، وكل من أحب من أهل هذه المدينة الصابرة.
عناية جابر