صفحات أخرى

“من شرفة ابن رشد” لعبد الفتاح كيليطو

الــقـــــــــــراءة مــنــفــــى تــــأويـــلي
يستعير الادب صفة الهيام من الحب، فتصبح الكتب معشوقة والتعلق بها هياماً يشتد حضوره ساعياً إلى حيازة التطرّف، فلا طلاق مع الكتب تلك، وإن يسود الفراق في الحب. تبدو الاقامة في الموضوعات الاثيرة (ألف ليلة وليلة، الفيلسوف ابن رشد، مقامات الحريري) من دون التفكير في مغادرتها، واضحة لدى الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو. فها هو لا يغادر هيامه بالكتاب الممنوع أو المحبوس، الذي يسيطر عليه منذ مقالته “الكتاب الغريق” في كتابه “لسان آدم 1995″، مقارن الحضور في نصّ “كيف نقرأ كليلة ودمنة”، في اصداره الاخير “من شرفة ابن رشد” (2009 – دار توبقال)، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي. تعيش الكتب حياتها المختلفة عن حياة كتّابها بعد انجازها، فهي تفرض غوايتها عليهم وإن اكتسبت علامة الكتب المارقة. صفة المروق هذه، تتسبب إما بالنجاح وإما بالاخفاء والاعتقال، سواء من طرف أصحابها أم من نظام سياسي اجتماعي. كتب “مارقة” يجب أن تُحرق ككتب ابن رشد، أو تُغرَّق بالماء كي لا تغوي آخرين وتتسبب بالضلالة. يكتب كيليطو: “الكتاب المحرَّم لن يبقى كما هو. لا بدَّ للكتاب أن يحلّ، ويُغسل، أو إذا شئنا أن يغرّق”. أراد أبو زكريا المؤذن ان يغرّق كتابه مخافة “الاّ يفهمه أحد، يأتي بعدي فيكون سبباً إلى هلاكه”. تمنح الكتب السموية النجاة لملتزميها، وهي خير وسيلة اقتداء، كتب صالحة، والويل لمن يهدّد سيرتها بالسوء، أما الكتب الارضية فتحتمل الصواب إذا تقرّبت في نهجها من السلاطين، والعقاب عندما تثير في النفس الشكوك والريبة. تتطابق ارادة التغريق عند أبي زكريا الموذن مع مسعى الفيلسوف بيدبا مؤلف كتاب “كليلة ودمنة” مطالباً الملك دبشليم “بالاحتياط عليه”. الكتابان يتشاركان صفة المروق المؤدية إلى الحجب والتخفي، بغض النظر عن نجاة “كليلة ودمنة” من الاندثار ككتاب وكمؤلف، إذ جعله ابن المقفع أشهر الكتب، ثم نجا بيدبا من القتل، بينما بقي كتاب الموذن مؤمناً بغرقه وبموت مؤلفه بعد اتلافه.
يقول المؤلف: “تغريق كتاب يكاد يكون تغريقاً لمولفه”، مستشهداً بهاينه “هناك حيث يحرقون الكتب سينتهون بحرق البشر كذلك”. يهدف الخطاب في “كليلة ودمنة” بحسبه إلى “اثبات صواب وجهة نظر أو قضيّة، أو الاقناع بسداد فعل. لكن يلزم أن يكون المخاطب راغباً في الاصغاء”.
تقود القناعة إلى الصواب، وكي يلمّ الكاتب بها، ينبغي أن يقرأ المفاهيم بتطلع مغاير: “صارت القراءة هي الكتابة”. اتحد الفعلان في مفهوم الاختلاف، لأن الشائع هو أن الكتابة تلي القراءة، أي انفصالهما. الاختلاف يولّد القناعة (الاقتناع)، ويبقي السائد محاطاً بالنقض، بسبب من ولوجه الرتابة. ففي إحدى قراءاته المبطنة للبيت: “كنا نقطن في المدينة القديمة بالرباط، في بيت كان يبدو لي وقتها كبيراً، ولكن لما عدت اليه، بعد اربعين سنة، وجدته صغيراً”. انحصرت القراءة الطفلية لبيت الولادة والنشأة، بعالم الصبي القابل للرحابة، وتحمل عبارة “عدت اليه”، التفحص والتفتيش عما صاحبَ التجربة المعرفية من التطور، الذي أفصح بما لا يقبل الشك، بأن ذلك البيت صغير، ليس حجماً فحسب، بل معرفة.
منْ يسرد، ومنْ يصغي؟ يلوذ السرد دائماً بالحيلة كي ينطلق، لأنه يحتاج البقاء، وفعلاً تتحقّق في ما بعد كينونة السرد عبر الحيلة، لذا تبقى الكتب على رغم زوال مؤلفيها. السرد ضعيف عندما يبدأ وينتهي إلى القوة والسؤدد. يستنتج الكاتب في مقالته عن “كليلة ودمنة” ان “السّرد سلاح الأعزل، كما تعلمنا إياه ألف ليلة وليلة، حيت لا يروي خليفة أبداً حكاية، إلاّ ان يكون خليفة مخلوعاً”، معتبراً أن ألف ليلة وليلة ذو حمولة كونية. مَن من الكتّاب الأوروبيين لم يرجع، في لحظة ما إلى حكاية شهرزاد؟ إنه في المحصلة، الكتاب الوحيد المعروف في العالم”.
لكتاب شهرزاد بعد استعاري، أقله قابلية السرد على انقاذ حياة شخص مهدّد، يبقى حياً ويرتاد السلطة التي ينالها بفضل لسانه. هذه هي حال المرأة الراوية؛ من امراة مستوفية شروط القتل، محظية، إلى ملكة ذات عاصفة بقاء. في جل مؤلفاته، يستعير كيليطو من “الليالي” قابلية الحكاية على البقاء موظفاً اياها، علامة ضد الفناء، ولا يخفي اعجابه بهذا الكتاب الذي أهمله العرب، وكرّمه الأوروبيون: “بعد ثلاثين سنة أعدت قراءة الليالي، أو بالاحرى قرأتها، بيد أنني لم أعد قراءة عنترة (ولن أفعل ذلك أبداً على الأرجح). لمَ هذا الامتياز المخوّل لألف ليلة؟ هل كنت سأعيد الارتباط بالليالي لو لم أقرأ في غضون ذلك، “زاديغ لفولتير”، و”جاك القدري” لديدرو، و”البحث عن الزمن الضائع” لبروست؟” . تبدو القراءة الاولى ذات صلة بالطفولة، قراءة شغف ووله، ناقصة الحضور، كي تؤسس معالمها في البنيان المعرفي، الذي حققته قراءة مختلفة بعد ثلاثين عاماً. وهنا تأويل كوني لليالي، فإعادة اكتشافها لها علاقة بوسيط أوروبي، لم يستغن قط عن سحرها وتأثيرها.
يحضر الحريري بمقاماته ملازماً الواسطي الذي رسمها، لكنهما يفترقان ظاهرياً في “من شرفة ابن رشد”، ويقترن الحريري هذه المرّة بجاك بيرك، ويميل الكاتب إلى احتمال ان بيرك، تعرّف إلى الحريري من طريق المستعرب أرنست رينان. المقامات: “كتاب جامع؛ فيه أنواع وأساليب ومستويات وأصوات مختلفة، وكذا استثمار أدبي لمواد مختلفة غير أدبية كالفقه. وقد تُرجم إلى لغات عديدة، وزيّنه رسامون مرّات عديدة، وهذا فن آخر من الترجمة أو الشرح”، مستطرداً في كتابه “لسان آدم”: “كانت منمنمات الواسطي تريد أن تكون انعكاساً للنصّ الذي تصاحبه وتخضع له. لم تكن منذورة إطلاقاً لتنفصل عنه وتوجد بذاتها… لم يعد الواسطي هو الذي يشرح الحريري، بل الحريري هو الذي يشرح الواسطي. احتل الخادم موقع السيد. والحريري المقلّد أنْسَى الهمذاني المبتكر. هذا مثال جيد عن مكر التأريخ أو انحرافه”. تجتمع “الليالي” في معظم ما كتب كيليطو بالواسطي والحريري. رسمَ الواسطي مقامات الحريري، بما يسمّى اليوم منظور المنارة، أي من علٍ، ويعدّ من ابتكاره، وربما الطريقة المتميزة تلك، حفظت فن الواسطي من الاندثار، أي جعلته حيّاً، مثلما، أنقذ السرد شهرزاد. العلو في المنمنمات يقابل لسان شهرزاد في الحكايات. اللسان له مكانة الارتفاع والتسلط، ويقال سليط اللسان، ومثلما يمنح الارتفاع الرفعة، يعطي في المقابل فرصة السقوط، كاللسان تماماً، كلاهما وثاق ذو حكم، يقول علي بن ابي طالب: “الكلام في وثاقكَ، ما لم تنطق به، فإن نطقت، أصبحت في وثاقه”. ولربما للتشابه هذا بين اللسان والعلو، يتكرّر في معظم مؤلفاته وجود “الليالي” مع الحريري. لا يغيب ابن رشد مطلقاً عن رصده، وعنوان الكتاب يشي بهذا، يلازم نظرة الفيلسوف إلى العالم، ويتبناها دليل لقاء معرفي. يفسر الحنو الشديد من قبله، تعاطف المثقف المعرفي بما لحق بفيلسوف تنويري كابن رشد من اجحاف؛ حُرقت كتبه ومات منفياً في المغرب. أعاد الغرب اعتباره كما “الليالي”. يذكر في “ترحيل بن رشد”: “جثة ابن رشد لم يكن منظوراً اليها بوصفها منبعاً للكرامات والنعم، فلم يحتفظ به في الارض الافريقية. جرى التخلص على نحو ما من كتبه، فالجثة، في مسيرها نحو الشمال، جُعلت على أحد جانبي الدابة، وتعادل في الجانب الآخر مؤلفات الفيلسوف ذاتها”. حرقُ كتب المعلم، مهّد للنكران الشامل الاسم والمؤلفات، وكذلك الجسد، فتعاقبت عليه سلسلة الخسارات والعقوق. كيليطو يتكلم العربية والفرنسية مثلما ابن رشد العربية والاسبانية، هل هناك علاقة نفي غير اللغة بين الاثنين؟ عاش ابن رشد ومات منفياً، الحرق وسيلة أخرى للنفي، يعضده الطرد المكاني من قرطبة ووفاته في مراكش. النكران، هو نفي من الاعتراف. والجحود، استبعاد من التكريم. ولكن، هل ثمة دلالة نفي، غير تلك اللغة الاجنبية التي يتكلم ويكتب بها كيليطو؟ (كلّ مؤلفاته بالفرنسية، ما عدا لن “تتكلم لغتي”) بيد انه غير مستاء من المنفى اللغوي هذا: “لم أعتبر نفسي قط في منفى، في أي من لغتيّ”. اتحاد اللغتين في ثقافة مغايرة للمتداول، بغض النظر عن عدم تشابههما البنيوي، قد تصالح مع الاغتراب اللساني، على أرضية التبادل المعرفي المزدوج. إنما ينفر اسلوب القراءة، اساس التكوين الفكري من الانسجام ذاك. وعليه، يقع النفي، أحساساً ومكاناً من طريقة قراءة الاشياء، لا من نافذة اللغة، يقول: “أليست القراءة شكلاً من أشكال المنفى”.

علي البزاز
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى