مكسيم رودنسون الذي نادى بالعدالة طريقاً للعيش مع العرب
إميل أمين
ولد مكسيم رودنسون في كنف عائلة يهودية متواضعة في السادس عشر من كانون الثاني (يناير) 1915 من والد روسي وأم بولندية، قضيا على أيدي النازيين، وفي السابعة عشرة من عمره بدأ دراسة اللغات الشرقية في فرنسا، إضافة إلى لغات أخرى حتى وصل عدد اللغات واللهجات التي يتقنها إلى نحو ثلاثين، لذا فقد استحق وعن جدارة لقب «لغوي نادر». لم تكن البدايات ممهدة لأن يُصبح رودنسون ذا شأن، فولادته في باريس لأبوين مهاجرين فقيرين كانت أمراً كافياً لأن ينضم إلى زمرة الضائعين، وفي أحسن الأحوال تحتويه فئة العمال، ولا سيما أن تربية والديه غلب عليها الفكر الشيوعي والاشتراكي، وإن كانت لهذا الأمر ميزة، فإنها محت بذلك الفكر آثار الانتماء اليهودي.
لكن رودنسون الذي لم يتلق علومه في الصغر كان عصامياً وأنهى دراسته وحده من دون مساعدة وبدأ العمل في عمر مبكر، فعمل حاجباً يلبي طلبات ويودع رسائل وأوراقاً بين الشركات إلى أن قرر التقدم لامتحان الدخول إلى معهد اللغات الشرقية حيث لم يكن مشروطاً دخوله بحيازة شهادة البكالوريا، وهناك برع رودنسون في دراسة اللغات التركية والعربية الفصحى والحبشية، كما تعلم اللهجات المغربية والشرقية. وفي عام 1937 وما ان تخرج في ذلك المعهد حتى اعتبر نفسه جاهزاً للخيارات الصعبة، فقرر أخيراً الانتماء إلى الحزب الشيوعي، وذلك بعد رفض كلي لاعتناق عقيدة أهله اليهود.
وإذا كان لرودنسون من جسر بين الشرق والغرب، فقد اختار الرجل القضية الفلسطينية ليجعل من ذاته معبراً ينقل من خلاله إلى الغرب أبعادها وعدالتها ويفضح فضحاً شافياً وافياً الفعل الاستعماري الإسرائيلي.
كان رودنسون يُعرف نفسه على أنه ملتزم الدفاع عن القضية الفلسطينية، الأمر الذي أثار حفيظة المتدينين اليهود وغالباً ما تعرض لهم بالانتقادات التي طاولت الديانة اليهودية، كما العقيدة الدينية التي تحكم سياستهم في العالم.
كما عُرف منذ بداياته بأنه من كبار المستشرقين الغربيين الذين تميزوا بجرأة في مواجهة الأفكار الموروثة حول مواضيع كثيرة أبرزها الأفكار المكتسبة حول الاستشراق بحد ذاته، وهو اعترف غير مرة بأن انجذابه لهذه المهمة لم يكن بسبب نزعة عنصرية معنية، لكنه بسبب اكتشافه أن الدول الأوروبية وحكوماتها، لم تكتف بالدافع العلمي للمعلومات التي جمعها علماؤها عن بلاد الشرق، بل إنها استفادت منها للسيطرة على هذه البلاد واستعمارها، وصرح في كتبه ومقالاته كافة بأن الدول الأوروبية وجدت في المعلومات والدراسات اللغوية والأنثروبولوجية والفقهية، وحتى الفلسفية والأدبية وغيرها، وفي التاريخ الوقائعي لبلاد الشرق، مساعداً قوياً لها في بسط هيمنتها على هذه البلاد لنهب خيراتها طوال أكثر من قرن. وكثيراً ما تساءل رودنسون حول الاستعمار وطرح أسئلة جريئة مثل: «بم يمكن أن نصف علماءهم الذين كانوا يأتون كرحالة؟ هل كانوا جواسيس يجمعون المعلومات لحكوماتهم من أجل التحضير للاستعمار؟ أم نعتبرهم علماء، فنجلّ أعمالهم مثل بوركهارت الذي اكتشف مدينة البتراء وآثار أبي سمبل؟».
لم يكتف رودنسون بالتنظير في قضايا الالتزام والتفاهم بين الشعوب، بل تجاوز ذلك نحو واقع عملي، من خلال ترجمة التزامه هذا بدفاعه عن قضايا العرب والمسلمين ومواقفه المؤيدة لعدالة القضية الفلسطينية، وقد أنشأ مع المستشرق الفرنسي جاك بيرك مجموعة من الأبحاث والأعمال من أجل فلسطين ودافع عن خيار التزامه هذا أمام موجة كبيرة من الانتقادات والتهديدات، وضعته وجهاً لوجه أمامها أصوله اليهودية وما صدر عنه من مواقف معادية للصهيونية وقناعاته بزوال دولة إسرائيل أمام صمود الشعب الفلسطيني وإرادته. ويقول في هذا السياق: «رأيي الخاص أن ليس على اليهود البقاء هناك. إن أمن بلدهم ليس هناك وعليهم الرحيل، وإلا فستكون العواقب وخيمة على نحو أو آخر، وبحسب رأيي لن يتمكن ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي من الوقوف أمام ملايين الملايين من العرب».
وفي أيام نكسة حزيران (يونيو) 1967 نشر رودنسون مقالاً في صحيفة «لوموند» الفرنسية تحت عنوان «العيش مع العرب» نراه فيه يُذكِّر إسرائيل بأن القوة ليست الطريق، ذلك على رغم الانتصار الإسرائيلي الساحق الماحق على العرب في ذلك الوقت.
يقول رودنسون: «اختارت الدولة الصهيونية العيش في فلسطين، أي وسط العالم العربي. الخيار خطير، والإنذارات توالت على لسان يهود من غير الصهاينة أو المؤيدين للصهيونية، والذين طالما مثـلوا غالبـيـة الشعب اليهـودي، وفي نـهايـة المطاف أصرت المجموعة المخططة والمؤسسة للدولة على خيارها وتتجلى اليوم نتائج هذا الخيار كلها. لا مجال للعودة إلى الوراء، لكن الشجرة تُعرف من ثمارها».
ويضيف: «إن الأزمة الحاضرة تظهر واقعاً جديداً مرتهناً بتطور الأحداث، فخطاب إسرائيل إلى العالم العربي كان بسيطاً وواضحاً: حتى الآن نحن هنا لأننا الأقوى وسنبقى طالما نحن الأقوى، شئتم أم أبيتم، وسنبقى دائماً الأقوى بفضل صداقتنا في العالم المتقدم وعليكم استخلاص العبر والاعتراف بهزيمتكم وضعفكم وقبولنا كما نحن فوق الأرض التي أخذناها منكم. كيف الجواب إن لم يكن بالرضوخ أو بالتحدي؟».
وفي ذلك الزمان وفي أوج احتدام المواجهات العسكرية وإراقة الدماء، كان رودنسون يتحدث عن التسويات السلمية المشروطة من خلال شعاره «يجب العيش مع العرب في مطلق الأحوال وحتى مع العرب غير الراضخين»، لكن كيف؟ يجيب: «هناك فرصة واحدة ولو ضئيلة خارج المأزق الذي حشر الصهاينة أنفسهم فيه على غرار مرتزقة قرطاجة في استعراض «لاهاش»، وهو تقديم إمكانية التفاوض للعرب ليس كما يعتمد قبل 20 عاماً على قاعدة قبولهم بالأمر الواقع، ولو على حسابهم بل من خلال إعلان مبدأ العدالة وتعويضهم الضرر اللاحق بهم، ذلك أنها اللغة الوحيدة في رأيي التي يمكن أن تلقى قبولاً من الطرف الآخر والوحيدة التي يمكن أن تثير عند الآخر رغبة في الاعتراف المنتظر بالواقع القومي الإسرائيلي الذي بني من طريق الإنجازات والعذابات طوال العشرين عاماً الماضية وليس من طريق ذاكرة وهم عمره عشرون قرناً».
كان ويمكن إسرائيل بحسب رؤية رودنسون وقتها أن ترفض هذا التنازل العلني، كما كان يمكن الشوفينية المتقدمة في صفوف سكانها في ذلك العهد أن ترى في الأمر «جبناً» وتعارض الموقف الحكيم المطلوب ويمكن إسرائيل كذلك أن تربح هذه المعركة خصوصاً بدعم حماتها الأقوياء. وهو ما حدث في 1967 وكان رودنسون يقرأ التاريخ وهو بلا شك يفعل من خلال عمله كمؤرخ، لذا أكمل هذا الطرح بقوله: «من لا يشك في أن هذا النصر يمكن أن يتكرر؟ أليس الاضطراب الحالي مؤشراً إلى ذلك؟». وهو ما حدث في 1973.
ويذكّر رودنسون إسرائيل ومؤيديها المتشددين وأصدقاءها الأوفياء بأن الصهاينة سعوا بكل قوتهم إلى استمالة القوى العظمى الأوروبية منذ أيام هرتزل فيقول: «إنهم طلبوا دعم القيصر والسلطان والبابا وانكلترا وما كان لهم أن ينجحوا لولا وعد بلفور وهو خطوة سياسية بريطانية، ولولا قرار التقسيم في الأمم المتحدة العام 1947 وهو فعل سياسي سوفياتي – أميركي».
ويخلص رودنسون إلى القول: «ها نحن في العام 1967 وقد آن الأوان للسعي إلى اتفاق مع العرب الذين انتزعت منهم هذه الأرض. ليس العرب المرغوبين كما نريدهم مؤيدين بأعجوبة للأطروحات الإسرائيلية من خلال ما يطالبهم به أنصار الصهيونية في العالم وأساتذة الأخلاق وقارئو العهد القديم وأدبيات الماركسية اللينينية، بل مع العرب كما هم عليه، الرافضين من دون مقابل غزواً تم على حسابهم. إنه وضع مؤسف، لكن أي حل آخر هو مضيعة للوقت».
وقبل هذا التاريخ تعرض رودنسون لهجوم صهيوني مكثف، فقد شارك في أحد أيام أيار (مايو) 1966 في ندوة سياسية نظمها الاتحاد العام لطلبة فلسطين في إحدى قاعات العاصمة الفرنسية باريس في ذكرى النكبة، وفيها أكد مواقفه المناصرة للحل العادل للمسألة الفلسطينية، والمناهضة للصهيونية، ما أدى إلى تعرضه وآخرين شاركوا في هذه الندوة التي غطت وقائعها بعض الصحف الفرنسية، لحملة صحافية وإعلامية شرسة من جانب الأوساط الصهيونية التي وصفته بأنه «اليهودي الكاره نفسه».
كان المناخ السائد في فرنسا آنذاك مناخاً مناصراً لإسرائيل في معظم الاوساط والتيارات السياسية، ووسائل الإعلام باستثناء الشيوعيين والماركسيين وقلة من المهتمين بالشأن العربي من المثقفين أو الديبلوماسيين السابقين الذين نشأوا أو عملوا في المنطقة العربية، لكن رودنسون الذي أزعجته هذه الحملة على الصعيد الشخصي لم تتأثر مواقفه بها، بل عاد وكررها في مناسبات عدة وبخاصة بعد حرب 1967، ولا سيما في العدد الخاص الذي أصدره الأديب والفيلسوف الشهير جان بول سارتر من مجلته الدورية الفكرية الثقافية «الأزمنة الحديثة» والذي تناول في شكل خاص الصراع العربي – الإسرائيلي.
كتب رودنسون مقالاً مطولاً تحت عنوان «إسرائيل… واقع استعماري»، وهو مقال صدر لاحقاً ككتاب مستقل، وترجم إلى لغات عدة، بما فيها العربية، وكانت إجابة رودنسون في مقاله على علامة الاستفهام في العنوان لا تحتمل اللبس، إذ أكد كون إسرائيل واقعاً استعمارياً وأن أي حل للصراع لا يمكن أن يقوم على أساس علاج مشكلة سياسية وإنسانية وبشرية بخلق مشكلة جديدة في وضع تعيش مثله بلدان أخرى في العالم الثالث كانت تضم كتلاً بشرية ناجمة عن الغزو الاستعماري مثل جنوب إفريقيا.
ولم يكن رودنسون كذلك بعيداً من الإسلام، ففي العام 1961 صدرت سيرته حول النبي محمد (صلّى الله عليه وسلم) التي تعتبر إلى اليوم مرجعاً للطلاب والباحثين في الغرب، كما أنه باعترافه الكتاب المفضل من بين الكتب الكثيرة التي وضعها.
كان رودنسون واحداً من الخارجين على المألوف الذين أعطوا تجارب مغايرة، فهو مثلاً حاول تفسير النبوة القرآنية تفسيراً ينسجم مع ظاهر النص القرآني ويتوافق مع الواقع التاريخي، وبهذا الطرح وضع أمام القارئ رؤية جديدة، لا سيما في ما يتعلق بنبوءة قرآنية في شأن ظهور الإسلام «على الدين كله».
يقول رودنسون في كتابه «أوروبا وسحر الإسلام» عن العلاقة العاطفية التي جمعته بالإسلام والمسلمين: «كرست سنوات طويلة من عمري لدراسة الإسلام والتاريخ الإسلامي والشعوب الإسلامية، وفي الوقت نفسه كنت شغوفاً بالطريقة التي تعامل بها الشعوب الأوروبية، بخاصة الباحثين منهم، الشعوب الإسلامية». ويتساءل عن سبب هذا الشغف، ويجيب: «ربما لأنني لم أكن متيقناً من فهمي للإسلام».
وكما ذهبت بعض الآراء العربية، فإن كتاب رودنسون المشار إليه ليس كتاباً عن الصور التي وجدت في المخيلة الغربية عن الإسلام، ولكنه قراءة في تاريخية الصورة، فقارئ الكتاب يعثر على منعطفات أسهمت في تشكيل الصورة أو مرت بها، ورودنسون يؤمن بأن الصورة او قولبتها تغيرت بتغير العقلية الأوروبية القديمة والحديثة. فموقف الغربيين من الإسلام والمسلمين تأثر بفهمهم للعالم وموقع الإسلام فيه.
وإذا كان جمهور عريض من المؤرخين في الغرب يرون أن بداية المعرفة الحقيقية للغرب بالإسلام كانت إبان الحروب الصليبية، فإن رودنسون يغاير ذلك الرأي ويذهب إلى أن المعرفة بين الطرفين هي نتاج لمنظومة الوعي الغربي بالعرب، التي استوت على إدراجهم في خانة التهديد قبل أن يتحولوا إلى مشكلة فعلية، بحسب رؤاهم، أقلقت الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) ودفعتها للتهاوي، وبعد ذلك تأتي مرحلة الأندلس وموقف الكنيسة التي كانت في العصر الوسيط تمثل السلطة المرجعية للفكر وأثر الإسلام الحضاري في المفاهيم الغربية، إذ إن كتابات الفلاسفة المسلمين بعد ترجمتها ظلت مداراً للبحث، واختلف الغربيون عليها حيث ولدت أكثر من مدرسة لفهم الرشدية أو لفهم ابن سينا. فالتلاقي والاختلاف بين عالمي الغرب والإسلام نبعا في النهاية من أسس المرجعية الفكرية للثقافة الأوروبية.
وقد بقي رودنسون على إصراره حتى آخر رمق حيال أفكاره ومعتقداته كافة، وعرف بموضوعية الباحث على رغم تعارض ذلك مع موقفه من أصوله اليهودية. فظل ينتقد العرب والعالم العربي، حين يلزم الانتقاد، ولم يطمح إلى إعطاء الإسلام مرتبة مرتفعة على بقية الأديان، بل حاول وبكل بساطة أن يقارب الإسلام عقلانياً وبالأسلوب نفسه الذي قارب فيه جميع الأديان والأيديولوجيات. ويشير بعض كبار المؤرخين العرب مثل محمد حربي الجزائري إلى أن رودنسون مثّل وعن جدارة القنطرة التي نحن في صدد الحديث عنها، ففي كتابه «جاذبية الإسلام» أراد إدراك جوهر هذا الدين عبر القرون الوسطى الأوروبية وحتى القرون المعاصرة، والحديثة منها ثم في كتابه «الإسلام والرأسمالية» نرى أن العنوان لا يستدعي رغماً ولا اضطراراً كتاب «ماكس فيبر» عن الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية.
وفي مؤلفه «الإسلام: سياسة وإيمان» تتبدى بعض عناوين فصوله ذات دلالة عميقة مثل «الانقسامات السياسية في الإسلام كخدع أيديولوجية» مرتبطة بالأوضاع الراهنة مثل «بزوغ التشدد الإسلامي»، وفي صدد الإرهاب يتحدث عن الإرهاب كذريعة.
وفي حال من الأحوال نجد عند رودنسون اهتماماً بأطروحات صموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات، إذ يقول: «بما أن الحضارات يمثلها الدين، فهي تتشابه في هذه النقطة بالذات، ولكنني جزئياً أحاول أن أجد صيغة لإنقاذ الدين، نوعاً ما يعني أنه يجب ألا يطغى الدين على الإنسان، هذا هو رأيي، يجب ألا يطغى الدين على الإنسان». وينطلق رودنسون في رؤيته هذه من معرفته بخفايا الثقافتين اليهودية والإسلامية، وفي هذا السياق قام بمشاركة صديقة المؤرخ جيرار خوري في نشر كتاب حواري تحت عنوان «بين الإسلام والغرب».
يقول جيرار خوري المؤرخ الذي عرف رودنسون منذ أكثر من ثلاثين عاماً إنه كان شخصاً شديد التدقيق، والتمحيص، وموسوعياً كبيراً، ويصف أعماله المعترف بها من الأوساط العلمية بأنها تصل في الوقت نفسه إلى العموم وأن تلك الكتابات ساهمت في تعديل القراءة الطائفية للإسلام الذي لا يعجز بحسب رأيه عن الدخول إلى الحداثة، وهو إسهام كبير على نقيض ما نشهده اليوم، أي الجهل بالإسلام. ويضيف أن رودنسون الذي عمل من أجل التقارب بين ضفتي المتوسط من طريق التعددية وحوار الثقافات، لقي أشد العنت والانتقادات التي وصلت إلى حد التهديدات المباشرة جراء دعوته للثقافة ولإحقاق الحق في ما يخص القضية الفلسطينية، وذلك بسبب صفته كيهودي وواقع حاله كمعاد للصهيونية، كما أنه لم يكن يتخذ أبداً موقفاً من دون الأخذ في الاعتبار كل الاحتياطات اللازمة. فقد كان يخشى خدش الحقيقة العلمية وجرح الآخرين. كان يقف عند مفترق القيم اليهودية وتلك الخاصة بالعالمين العربي والإسلامي في جو من التفاهم وليس الاستبعاد.
وأحسب كذلك أن رودنسون قدم للعرب والمسلمين خدمة جليلة، ففي حواراته مع خوري ينبه إلى أزمة العقل العربي، وما تعرض له في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين جراء تصاعد النهج الأصولي الذي يستخدم وسائل المعلوماتية والانترنت من جانب، ويجابه الكثير من معطيات الحداثة على الناصية الأخرى.
يقول رودنسون «إن العرب أو المسلمين لم يكتشفوا الفكر النقدي ولم يطبّقوه على تراثهم، كما فعل فلاسفة أوروبا وهو يعتقد أنه بناء على هذه المعطيات، فإن جمهور المسلمين لا يزال يعيش في مرحلة العصور الوسطى التي خرجت منها على نوع ما، وربما كان حديث رودنسون هنا دعوة حقيقية لإعادة إعمال العقل وطرح قضية عدم مساءلة الأيقونات جانباً، ذلك أنه إذا كان يقصد وهو يفعل بلا شك القول إننا بحاجة إلى فترة طويلة لحل مشكلة التزمت والعقلية الطائفية الموروثة، فهو هنا على حق من دون شك.
وفي دعوة رودنسون هذه هزة عنيفة للعالم العربي، فقد استطاع أن ينقل التجربة الأوروبية الى العالم العربي، من خلال افكاره التي حملت أول ما حملت المطالبة بالتغيير وأن أول شيء ينبغي تغييره هو الفكر وهو عقلية الناس وبعدئذ يجيء التغيير الآخر من تلقاء ذاته، ويؤكد أنه لولا فلسفة التنوير الأوروبية لما كانت الثورات السياسية الحديثة، أي الثورة الانكليزية فالثورة الأميركية فالثورة الفرنسية… ولا غرو في ذلك، فالفكر هو أعلى وأنبل شيء في الوجود.
وعلى رغم أن رودنسون قام ولا مراء في ذلك بتجسير الهوة بين العقلية الأوروبية والعربية، بأبلغ صورة وعبر أكثر من أربعة عقود، إلا أن حظوظه كما حظوظ جاك بيرك لم تكن طيبة في حال من الأحوال في العالمين العربي والإسلامي إذا استثنينا لبنان الذي خدم فيه جندياً في الجيش الفرنسي وبقي معلّماً لسنوات في صيدا، فقد مُنع كتابه الأشهر «محمد» من التدريس في الجامعة الأميركية وصبّت عليه بعض الأقلام جام غضبها بسبب هذا الكتاب الذي قال عنه: «إنني كتبته بملء الحب والإنصاف للنبي محمد (صلّى الله عليه وسلم)، ولكن كثراً من العرب والمسلمين عاملوني وكأني عدو لهم وكأني أميركا أو إسرائيل التي صددتها لسنوات طويلة».
زار رودنسون القاهرة أكثر من مرة منها مرة بعيدة في منتصف القرن الماضي ومرة في العام 1968. ويصف الكاتب المصري كامل زهيري هذه الزيارة بقوله: «منذ نحو نصف قرن زار رودنسون القاهرة واكتشفت فيها شغفه بالبحث في الواقع الاجتماعي بعيداً من النظريات، وفاجأني بطلب غريب وهو أنه يريد أن يحضر حفلة «زار»، وقلت له إن الظاهرة اختفت تقريباً من القاهرة وليس أمامك سوى ذكريات قوت القلوب الدمرداشية لأنها كتبت بالفرنسية عن الزار عام 1937، فقال إنه يريد أن يكتب بحثاً ويحتاج إلى مشاهدة الزار بعينيه، وإزاء حماسته عثرت له على مكان في شارع الإمام محمد عبده في جوار الأزهر الشريف، وبات رودنسون يومين وهو يلبس الجلباب الأبيض ويضع يديه في دماء الذبيحة كما روى، وهذا يدلل على أنه المستشرق الملتزم بالبحث في دقائق الأمور وتفاصيلها من دون مداراة أو مواراة».
وإذا كان مكسيم رودنسون قد رحل، فإن اعماله الباقية تشير ومن جديد إلى وحدة النوع الإنساني وإلى إمكانية التلاقي عبر الجسور، ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع بعض آرائه وهو من طبائع الأمور، فإننا لا يمكننا إنكار أن الرجل الذي نشأ في بيئة يسارية ويهودية الأصل الديني ولكن معارضة في آن واحد قد شكل علامة حقيقية على إمكانية العودة إلى الأصل المدافع عن الحق المجرد والعدالة المنزهة عن المصالح جهة العالمين العربي والإسلامي من دون أن تلوثه نزعات الاستعلاء أو خدمة المشاريع الاستعمارية التي اتسمت بها كتب عدة، وكثير من الكتاب الاستشراقيين في الغرب لم يقدّر لهم أن يجسروا بحياتهم وأفكارهم الجسر بين الغرب والشرق.
الحياة