لقاء مع المفكر السوري صادق جلال العظم: هناك صراع حول معنى الإسلام وتعريفه وتطبيقاته
زينب نبوه
يثير المفكر الكبير صادق جلال العظم في كتاباته وحواراته وأحاديثه أكثر القضايا إلحاحاً وأهمية، ويطرح ما هو مثير وإشكالي بجرأة وصراحة. ويتطرق هذا الحوار لمشكلة العلمانية والدين والحركات الدينية، ويتوقف عند التجربة التركية التي قد تكون دراستها مفيدة لنا نحن العرب في هذه الظروف.
* هناك الكثير من الإشكالية والتشابك تسود المناقشات في مجتمعاتنا العربية، ومنها سورية، حول العلاقة بين الدين والعلمانية والليبرالية والديموقراطية والمجتمع المدني، ما رأيكم بذلك؟.
** ما يجري حالياً من مناقشات وممارسات عربية، وبخاصة في بلدنا العزيز سورية، بين الدين والعلمانية.. إلخ، دون الدخول في الشربكة القائمة وذلك بمقاربة الموضوع. فما يقال ويحُتج به على نطاق واسع في بعض تلك المناقشات من أن العلمانية كفكرة ودولة وممارسة وتطبيق نشأت في أوربا بسبب من الحروب الدينية الدموية الشهيرة هناك. وعلى خلفية صراع مديد مع الكنيسة مما لا ينطبق على الإسلام وأراضيه، ولاسيما أنه ليس في الإسلام كنيسة أو ما يشبهها أصلاً.
وبما أن الحديث عن الدولة العلمانية والمسألة الدينية يدور على هذه الخلفية الحربية ـ الصراعية أرى من المناسب التركيز على الصراع الحاد والحاد جداً الجاري منذ فترة غير قصيرة في أراضي الإسلام وغير الإسلام على ضبط معنى الإسلام ذاته وتحديد تعريفه والهيمنة على طبيعة تطبيقاته. ولاشك عندي أن هذا الصراع المستمر للسيطرة على معنى الإسلام وتعريفه يشكل الجزء الأهم من المسألة الدينية ولاسيما عندما ينحل هذا الصراع ويُبتذل إلى مستوى التناحر الدموي الأهلي العنيف بين طوائف الدين ومذاهبه وملله ونحله في البلد الواحد، كما شاهدنا ونشاهد في أكثر من بلد عربي ودولة إسلامية في الوقت الحاضر.
*ما هي الأطراف الرئيسة الداخلة في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه؟
** ثلاثة أطراف، كما تمكنتُ من رصدها وتصنيفها، هي على النحو التالي:
أولاً ـ أنظمة سياسية وحكومات وأجهزة دولة ومؤسسات دينية ورسمية تديرها نخب من رجال الدين، تعمل كلها على الدفاع عما يمكن تسميته هنا بـ (إسلام الدولة) الرسمي، وعلى صياغة تعالميه وتوجهاته صياغات مناسبة وفقاً للظروف والأحوال المتبدلة، وعلى نشره وبثه عبر الوسائل المتوفرة للدولة وأجهزتها.
أما النموذج الأعلى لهذا النوع من الإسلام فنجده في إسلام البترو دولار لبلدين مثل العربية السعودية وإيران، وهو إسلام مدعوم جداً ليس محلياً وإقليمياً فقط بل ودولياً أيضاً، وفي شتى أنحاء العالم بقوة. فإسلام البترودولار الإيراني هو (ولاية الفقيه)، في حين أن العقيدة الأساسية لإسلام البترودولار السعودي تقول: (القرآن دستورنا)، مما يعني أننا لا نحتاج إلى أي دستور مهما كان نوعه، لأن الحكم المطلق هو الأفضل والأنسب للإسلام الحقيقي والأصيل. ولا أعتقد أنني أبالغ حين أقول إن كل دولة من دول العالمين الإسلامي والعربي اليوم قد طورت لنفسها نسخة مناسبة وطبعة ملائمة من إسلام الدولة الرسمي هذا، تستعملها في خدمة مصالحها الحيوية وغير الحيوية داخلياً وخارجياً من ناحية أولى، وفي مناوأة وإحباط المصالح المشابهة لدول أخرى منافسة لها من ناحية ثانية.
ثانياً، أما الطرف الثاني في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه وتفسيره وتأويله فنجده على الجانب الآخر البعيد من إسلام الدولة الرسمي، وأعني به الإسلام الأصولي الطالباني التكفيري العنيف بأجزائه المتكاثرة، وفئاته المتنوعة المتفرعة، وعقيدته الأساسية هي الحاكمية، ومنهج عمله شبه الوحيد تقريباً هو (التكفير والتفجير) بلا مقدمات وبلا نظر إلى العواقب أو النتائج مهما كانت. هذا هو الإسلام الذي احتل الكعبة سنة 1979 بقيادة جهيمان العتيبي، واغتال أنور السادات سنة ،1981 وخاض معارك إرهابية خاسرة في سورية ومصر والجزائر. وهو الإسلام الذي نفذ ضربات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001 داخل الولايات المتحدة الأمريكية، إنه إسلام يائس إلى حدود العدمية من تحقيق أية أهداف أو برامج بأسلوب أو منهج آخر غير أسلوب (التكفير والتفجير) الإرهابي الانتحاري شبه الأعمى، ولتكن النتائج مهما تكن، حتى لو انعكست تدميراً على الإسلام التكفيري نفسه. إنه الخيار الشمشوني الصارخ يأساً وعدمية: (عليَّ وعلى أعدائي يارب).
* ما هو موقع إسلام حزب الله اللبناني وموقع إسلام حماس الفلسطينية من إسلام (التكفير والتفجير)؟
** أرى أن حزب الله وحماس يشكلان اليوم البقية الباقية من حركات التحرر الوطني التي عرفها القرن العشرون في العالم عموماً، وفي العالم العربي تحديداً. لكن مع ضيق مذهبي أدنى بكثير من المستوى الوطني الرحب.
لكن في الوقت ذاته يناضل التنظيمان من أجل أهداف محددة جيداً، وقابلة للتحقيق من حيث المبدأ، وعلى رأسها تحرير أرض محتلة باعتراف العالم أجمع، كما يحصران بدقة كفاحهما المسلح في الساحتين المحليتين المعنيتين، ولا يهاجمان عنفياً إلا الاحتلال ودولته، كما أنهما يتمتعان بقاعدة شعبية كبيرة ومنظمة نسبياً في أوساطهما، وبتعاطف جماهيري ملحوظ في الأوساط الأوسع. وهذا كله لا ينطبق على إسلام (التكفير والتفجير) المنفلت من هذه الشروط كلها.
ومع ذلك أعود لأؤكد أن حزب الله وحماس لا يمكن أن يرتقيا إلى مستوى حركة تحرر وطني جدية، بسبب من انتمائهما المذهبي الصافي، ومن الأيديولوجية الطائفية الخالصة لكل منهما. فتجارب التحرير الوطني السابقة بينت بما لا يترك مجالاً للشك أن حركات التحرر الوطني تتطلب نسبة عالية من العلمانية المحايدة دينياً وطائفياً وإثنيا بحيث تكون الحركة حركة لكل شعبها تمهيداً لدولة وبلد ومجتمع تكون كلها هي أيضاً لكل مواطن من مواطنيها.
*كيف تنظر إلى تطورات الوضع في العراق تحت الاحتلال الأمريكي مع فقدان العناصر الأساسية التي ذكرتها لحركة تحرر وطني حقيقية؟
**لا بد من الإشارة هنا إلى أن غياب هذه العناصر في حالة العراق تحت الاحتلال أدى إلى استحالة قيام حركة تحرر وطني جدية تواجه الاحتلال الأمريكي وتقاومه بجبهة وطنية متحدة. بل الذي حدث هناك كان خرقاً فاضحاً ومنتظماً من جانب الإسلام الطائفي والمذهبي والتفجيري للحكمة الاستراتيجية والتكتيكية التي راكمتها حركات التحرر الوطني الناجحة، وحتى غير الناجحة، خلال القرن العشرين. فمالت الأمور هناك ميلاً مفجعاً نحو إشعال الحروب الأهلية والدينية والطائفية والمذهبية.
* ذكرت في حديثك الطرف الأول والثاني المنخرط في الصراع الجاري على معنى الإسلام وتعريفه، من هو الطرف الثالث؟
**أقصد إسلام الطبقات الوسطى والتجارية، في جميع البلدان الإسلامية تقريباً، أي الإسلام المفيد والجيد للأعمال.. وإلى الحد الذي تشكل فيه بورجوازيات هذه البلدان العمود الفقري لمجتمعاتها المدنية المتنوعة، فإن إسلامها يكون أيضاً هو إسلام المجتمع المدني فيها، إنه إسلام معتدل ومحافظ، ولهذا يجب تمييزه جيداً عن إسلام الحكم المطلق من ناحية، وعن إسلام التكفير والتفجير من ناحية ثانية.
إنه إسلام غير مهووس بالمشركين والكفار والمرتدين والمجوس والملحدين والزنادقة والمنافقين والروافض، وأحفاد القردة والخنازير وقانون العقوبات الجسدية.
إنه إسلام يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العام وإلى التشدد في الشأن الشخصي والفردي والعائلي والخاص.
* الحزب الحاكم في تركيا هو حزب العدالة والتنمية، كيف يمكن المقارنة بين الإسلام السياسي التركي اليوم وبين الإسلام السياسي العربي؟
** حزب العدالة والتنمية في تركيا يسمي العقيدة الأساسية للإسلام بالديموقراطية المحافظة، خاصة أن القاعدة الشعبية الواسعة للحزب وحكومته موجودة في وسط الأناضول وهي المنطقة الصاعدة بسرعة فائقة اقتصادياً وإنتاجياً وتجارياً وعولمياً في الوقت الحاضر، والمحافظة سياسياً واجتماعياً ودينياً في اللحظة ذاتها.
وأعتقد أن جزءاً من المحافظة التي يتصف بها هذا النوع من الإسلام في تركيا اليوم يعني التمسك الناضج والشديد والمحافظة المتأنية على مؤسسات الدولة التركية الكمالية والعلمانية ودستورها الأساسي، كما تطورت كلها ونمت، وكما خدمت المصلحة القومية التركية على امتداد القرن العشرين. ولا أعتقد أن هذا النوع من الإسلام سيفرّط للحظة أو يتلاعب بمكتسبات هائلة ومنجزات عصرية ونوعية مثل:
1) المجتمع المدني التركي المتطور والنامي بسرعة كبيرة بمنظماته.. وتياراته وقواعد تعامله وقوانينه الضابطة.
2) المستوى المتقدم الذي بلغه البلد في ممارسة ديموقراطية المواطن وتطبيق إجراءاتها بحدود 60 إلى 70% لا أكثر بدلاً من ديموقراطية المذاهب والطوائف والعشائر وما إليه كما هو معروف جيداً بالنسبة لنا.
3) فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية علماً بأن الفصل الكمالي الشهير للدين عن الدولة يندرج ضمن عملية فصل السلطات هذه. وما المانع في أن تنطوي علمانية الدولة في بلدان مثل بلداننا على خمس سلطات منفصلة بدلاً من ثلاثة هي: السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والسلطة الرابعة أي الصحافة المستقلة والإعلام الحر. والسلطة الخامسة هي التي تُعني بشؤون الأديان والمذاهب والطوائف والأوقاف والمعابد. والمزارات وما إلى ذلك من شؤون دينية أخرى ومتنوعة في البلد الواحد.
4) استقلال القضاء حتى لو لم يصل هذا الاستقلال إلى نسب عالية جداً بعد كما ينبغي في تركيا.
5) الحريات العامة، وعلى رأسها طبعاً حرية الصحافة والإعلام والميديا عموماً، وحرية تداول المعلومات والمعارف وتبادلها وحرية الرأي والتعبير والاحتجاج والمعارضة السلمية.
6) الإصلاحات التشريعية الكثيرة التي أنجزت مؤخراً باتجاه التزام تركي أكبر بشرعة حقوق الإنسان الدولية واحترام تركي أفضل لحقوق المواطن والمواطنة داخلياً.
بعبارة أخرى نجد اليوم في تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية النموذج الأفضل والوحيد على ما يبدو على هيمنة هذا النوع من الإسلام pro – businessوالـ pro – west على بلد إسلامي مركزي ومحوري صاعد وكبير.
*ما هو أثر الوضع الذي ذكرت بعض جوانبه الإيجابية في تركيا على الوضع في بلداننا العربية؟
** سأقدم بعض الملاحظات، علماً بأني لم أنظر ولا أنظر إلا إلى الملامح العامة جداً للتجربة التركية، كما تبدو لي من بعيد، ودون الدخول في التفاصيل التي لا أعرفها أصلاً وأتشوق لمعرفة رأي زملائي الأتراك فيها.
أولاً: لاشك أنها كانت مفاجأة كبيرة ومفارقة محيّرة أن ترى البلد الإسلامي الوحيد الذي أعلن علمانية دولته رسمياً منذ البداية، وفصل الدين عن الدولة نظرياً وعملياً منذ لحظة التأسيس الأولى، وطوّر أيديولوجية علمانية صريحة ومتماسكة بتطبيقات فعالة على الطريقة الفرنسية (Lai k lik) خلال القرن العشرين.
ثانياً: هو البلد الإسلامي الوحيد الذي تمكن من إيصال حزب سياسي لا يخفي إسلاميته، لا بل ويفاخر بها إلى السلطة بصورة ديموقراطية وسلمية وسلسة اعترف العالم كله بها وبشرعيتها، ذلك كله بدون أن تضرب البلد كارثة كبرى كما حدث في الجزائر على سبيل المثال لا الحصر.
ومما ضاعف المفاجأة وعمق المفارقة أن تجد أن الحزب الإسلامي نفسه بشعبيته الكاسحة وأكثريته الحاكمة وديموقراطيته الناجزة هو الذي يسعى سعياً استراتيجياً حثيثياً للانضمام إلى الاتحاد الأوربي الذي كان الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان قد نعته بـ (النادي المسيحي)، كما نجد في الوقت نفسه أن الجيش الذي أسسه أبو الأتراك والمحامي التقليدي الصارم لحمى العلمانية التركية والجمهورية التركية هو الذي يبطئ الخطا ويعترض ويضع العراقيل في وجه مسيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي العلماني.
ولاشك عندي هنا أن الإسلام العملي هذا يعرف تماماً من أين تؤكل الكتف سياسياً واقتصادياً، أي أنه يعرف جيداً أن الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، أو حتى الاقتراب منه، سوف يجعل رجوع المؤسسة العسكرية إلى عادتها القديمة في التدخل الفظ في شؤون الدولة التركية أكثر صعوبة بما لايقاس مما كان في السابق. كما يعرف جيداً أن مثل هذا الانضمام سوف يجعل ارتداد أية أحزاب ذات صيغة دينية إلى أي نوع من أنواع الأصولية أو النصوصية الإسلامية متعذراً أشد التعذر.
إن الاستنتاج الذي أوصلتني إليه هذه المفارقة هو أن لحظة وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة ديموقراطياً وسلمياً شكلت لحظة النضج للتجربة التركية مع الجمهورية الكمالية والدولة العلمانية مع الآليات الديموقراطية، أي لحظة نضج للشعب التركي نفسه ولقواه وأحزابه العلمانية من ناحية، ولإسلامه السياسي من الناحية الثانية. لهذا أرى أن العلمانية التركية قامت على امتداد معظم القرن العشرين بدور في المجتمع التركي يشبه كثيراً الدور الذي قامت به الليبرالية في أبرز المجتمعات الأوربية الغربية حتى الحرب العالمية الأولى، أي تثبيت الجمهورية ومؤسساتها وقيمها، تثبيت فصل السلطات، تثبيت استقلال القضاء، تثبيت فكرة المواطنة والمواطنية وتوطيد قيمها، تثبيت حقوق المواطن والحريات العامة المعروفة، تثبيت فكرة التداول السلمي للسلطة على أوسع نطاق إذ تتحكم الأكثرية السياسية الانتخابية مع حفظ حق الأقلية السياسية الخاسرة في إعادة تشكيل نفسها كأكثرية انتخابية جديدة بحيث لا تعود أية أكثرية قادرة على الاستبداد بنفسها وبشعبها وبمجتمعها. ومن قال إن الأكثرية لا تستبد؟
ومن علامات النضج الذي ذكرته أنه عند نشوء الخلافات الكبيرة والأزمات الحادة بين أطراف وأجنحة وأجهزة الحكم التركي الجمهوري وفي داخله بما فيها المؤسسة العسكرية ذاتها يجري الاحتكام بسرعة إلى المؤسسات الشرعية المعروفة، مثل الدستور والقضاء والبرلمان والمحكمة الدستورية العليا، بدلاً من الاحتكام المعهود إلى السيناريوهات الانقلابية والتدخلات العسكرية والأساليب المؤامرتية. ولاشك عندي كذلك أن الامتحان الأكبر لحزب العدالة والتنمية ولمستوى نضج نظام تركيا الجمهوري العلماني الديموقراطي على العموم سيأتي يوم تشكيل أكثرية انتخابية سياسية جديدة من أحزاب علمانية وشبه علمانية وتتقدم لتتسلم السلطة من الحزب الحاكم في الوقت الحاضر، وهذا يوم آت لاريب فيه.
من ناحية أخرى، هناك من يعيب على العلمانية التركية أنها قامت واستمرت بإرادة سلطوية، لا بإرادة شعبية معبر عنها ديموقراطياً. في هذا المأخذ الكثير من التبسيط التاريخي وسوء الفهم، إن لم يكن سوء النية أيضاً. لذا لابأس من التذكير هنا بأن العلمانية التركية قامت في اللحظة الكاريزمية المؤسسة للجمهورية التركية، لا بإرادة سلطوية تسلطية ومتعالية بالمعنى المعتاد للعبارة كما يريد أن يوحي أصحاب المأخذ المذكور. ولابأس من التذكير أيضاً بأن الخلفية التي صنعت اللحظة الاستثنائية كانت انهيار ما تبقى من الدولة العلية الهرمة، أي الموت العنيف لرجل أوربا المريض، ووقوع الأرض التركية بأكملها تحت الاحتلال الأجنبي من جهة أولى، ونجاح أتاتورك في قيادة حراك شعبي وعسكري جبار نجح في طرد جيوش الحلفاء كلها من البلاد وفي تطهير أرضها من الاحتلال الأجنبي من جهة ثانية. إن القرارات الكبرى والدراماتيكية لتلك المرحلة مثل إلغاء الخلافة والسلطنة، وإنشاء الجمهورية، وفصل الدين عن الدولة، والعمل سياسياً بآليات النظام الديموقراطي والتمثيل الانتخابي، كتابة اللغة التركية بالأحرف اللاتينية بدلاً من الخط العربي، جاءت كلها بإرادة سلطوية هي بنت اللحظة الكاريزمية المؤسسية والمنتصرة، بما يفسر ديمومة تلك القرارات واستمراريتها وتجذرها وتقبل الإرادة الشعبية لها، وإن كان ذلك على مضض في بعض الأحيان، ومع ممانعة قوية في أحيان أخرى.
عربياً لنتصور على سبيل المثال الرئيس جمال عبد الناصر في لحظته الكاريزمية المؤسسة لقامته ولزعامته الكاسحة، أي لحظة تأميمه قناة السويس وانتصاره سياسياً ودولياً وعالميا على جيوش العدوان الثلاثي الغازية والمحتلة عام ،1956 كيف سيكون استقبال الإرادة الشعبية والجماهيرية العربية الواسعة يومئذ لأية قرارات دراماتيكية تحررية كان يمكن أن يتخذها كسلطة في أي شأن من شؤون دنيا مصر والعرب.
أعرف رأياً للزميل الدكتور فهمي جدعان يعيب فيه على الفكرة العلمانية العربية منبتها الأقلوي المسيحي، إذ يقول:
(يجب أن نضع هنا الحدود والفوارق والتمايزات ما بين المفكرين المسلمين والمفكرين المسيحيين، فالقضية الأساسية التي كانت لدى المفكرين المسيحيين في تلك الفترة، هي قضية الملل والأسس الاجتماعية والسياسية التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع. وعلينا أن نقرأ: بأن المفكرين المسيحيين لم يكونوا مرتاحين لأوضاعهم في الدولة العثمانية، ولم يكونوا أيضاً مرتاحين لمبدأ أن تكون المرجعية العقائدية في الدولة مرجعية دينية إسلامية. وبحكم اعتقادهم المسيحي.. فإنهم تمثلوا بسهولة القيم الغربية، ووجدوا في مسألة فصل الدين عن الدولة حلاً مثالياً لأوضاعهم الخاصة، ولذلك كانوا يدعون بقوة إلى بناء الدولة على أسس مدنية بحتة).
المشكلة في هذا الرأي الشائع جداً عربياً وإسلامياً، خاصة كما طرحه د. جدعان، هي عدم تنبُّهه البتة إلى ازدواجية المعايير التي ينطوي عليها، علماً بأننا نحن العرب لا نكل ولا نمل من توجيه تهمة ازدواجية المعايير إلى الغرب والتشنيع عليه بها. فالأقلية المسلمة في الهند على سبيل المثال وليس الحصر (وهي ليست قلة قليلة، بل يزيد تعدادها على 150 مليون نسمة) هي أكبر متمسك وأهم مدافع وأقوى مروج لعلمانية الدولة الهندية ولأسسها المدنية البحتة. ولا أعتقد بأنها (أي الأقلية المسلمة) يمكن أن ترضى بغيرها أساساً يقوم عليه البلد سياسياً واجتماعياً. وإنه لا يمكن لهذه الأقلية المسلمة أن ترتاح لمبدأ أن تكون المرجعية الاعتقادية في دولتها مرجعية دينية هندوسية أو بوذية أو سيخية، فإنها أي الأقلية المسلمة تمثلت بسهولة بالقيم الغربية على ما يبدو في مسألة فصل دين الأكثرية الهندية عن الدولة الهندية حلاً مقبولاً وليس مثالياً بالتأكيد، لأوضاعها الخاصة.
ونلاحظ أيضاً في هذا السياق، أن الأقلية السنية في العراق اليوم هي التي تجاهر برفضها القاطع للدولة الدينية هناك (دولة ولاية الفقيه ونائب الإمام مثلاً)، وبدعوتها القوية إلى إرساء دعائم دولة عراقية علمانية مدنية تكون لكل مواطنيها استناداً إلى أوّلية المواطنة العراقية المحايدة دينياً وطائفياً ومذهبياً. وإلا فإن السيناريو الأسوأ هو الذي سيسود هناك، وحتى لا يسود السيناريو الدموي الأسوأ أرجح بأن صناديق الاقتراع في العراق سوف تميل على نحو ملحوظ ومتزايد لصالح الاتجاهات التي تعمل على تعزيز الملامح العلمانية للدولة العراقية الجديدة وعلى دعم طابعها المدني.
*ما هو الأثر الذي تركته التجربة التركية على سورية، خاصة أن العلاقات السورية التركية تتطور تطوراً لافتاً في الظروف الحالية؟
** لقد ترك النضج السياسي والديموقراطي الذي حققته التجربة التركية الكمالية أثراً هاماً وقوياً في القوى والتيارات السياسية في العالم العربي عموماً، وفي سورية بصورة خاصة.
فاليسار العربي عموماً ـ وبخاصة في سورية ـ كان على خصومة عالية مع تركيا أثناء الحرب الباردة كلها، ورافضاً لتوجهاتها الداخلية والخارجية بسبب من عضوية تركيا في حلف الناتو (الحلف الأطلسي)، وتحالفها الوثيق مع الغرب في الحرب الباردة، ومناوأتها للاتحاد السوفييتي وللفكرة الشيوعية محلياً وعالمياً، وعلاقاتها الطيبة بإسرائيل. هذا إضافة إلى النزاعات الحدودية المعروفة مع سورية والموروثة من الماضي وإلى مشاكل مالية مزمنة مع سورية والعراق أيضاً.
بعد انتهاء الحرب الباردة، وتراجع الكتلة الكبرى من اليسار العربي، وبضمن ذلك الأحزاب الشيوعية إلى خط دفاعه الثاني، أي إلى الخط الذي يعطي الأوَّلية المطلقة لبرنامج يلتف حول حقوق الإنسان، المواطن، الحريات العامة، العلمانية الديموقراطية، العدالة الاجتماعية، المحاسبة والمساءلة، والدفاع عنها كلها، فقد تغيرت علاقة هذا اليسار جذرياً بكل ما تمثله التجربة التركية وتعنيه ولاسيما بعد استلام حزب العدالة والتنمية السلطة بهذا الشكل السلمي الديموقراطي الباهر وغير المعهود في منطقتنا كلها، وبعد الإصلاحات التشريعية التي رعى الحزب إصدارها والتي تلتقي تماماً مع أوَّليات البرنامج المدني الذي تبناه اليسار العربي المذكور وأخذ يدافع عنه ويطالب بوضع بنوده موضع التنفيذ.
* هذا عن اليسار العربي. ماذا عن اليمين العربي الديني وموقفه من التجربة التركية؟
** معروف كذلك أن اليمين العربي الديني بتياره العريض، وبضمن ذلك الإخوان المسلمون بطبيعة الحال كان هو أيضاً يكره التجربة التركية كره العمى، بسبب من كماليتها الصريحة وعلمانيتها المتقدمة وتصفيتها لمؤسسة الخلافة وإرثها وتوجهها الغربي ـ الأوربي الحداثي على المستوى الاجتماعي، إضافة إلى علاقاتها المعروفة مع إسرائيل. أما الآن فإن السؤال الذي يطرحه الإسلام السياسي العربي على نفسه على ضوء ما آلت إليه تجربة تركيا الكمالية والعلمانية المحتقرة سابقاً فيقول: لننظر أين هو الإسلام السياسي العربي اليوم؟ لننظر في ماذا يرفل الإسلام السياسي التركي الآن، وفي ماذا يتخبط الإسلام السياسي العربي في الوقت الحاضر.
وأعرف جيداً، أن مناقشات واسعة ومراجعات كبيرة ونزاعات حادة تتفاعل على الأرض في وسط الإسلام السياسي العربي في محاولة منه للتعامل مع هذا النوع من الأسئلة والتساؤلات، ومع الأزمة الحادة التي خلقتها.
أما الوسط القومي في العالم العربي فلم يكن يوماً أقل إدانة لتركيا وتجربتها ولسياساتها من الطرفين الآخرين المذكورين وللأسباب ذاتها في معظم الأحيان. يضاف إليها لوم التيارات القومية وخاصة في سورية (الاحتلال التركي المتخلف) على حد تعبيرها، على حال التأخر الحضاري والعلمي والثقافي والإنتاجي الذي وجد العرب أنفسهم فيه في القرن العشرين، وما تختزنه الذاكرة العربية المحلية من تصورات ومشاعر معادية لحملات التتريك التي أدارها المركز في بدايات القرن الماضي، والاضطهاد الذي تعرض له الفكر العربي ورجالاته في ذلك الحين من جانب الدولة العليا المنهارة، والنزاعات الإقليمية على الحدود السيادية والسياسية التي نجمت عمّا أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى من نتائج إقليمية ودولية.. إلخ.
أما اليوم فأعتقد أن هذا الموقف القومي العربي السلبي من التجربة التركية طرأت عليه تبدلات كثيرة في اتجاه إيجابي.
أولاً: في ضوء النجاحات البارزة التي تمكنت من تحقيقها الفكرة القومية التركية، وخاصة على صعيد المصالح القومية العليا للبلد والدولة.
وثانياً: على ضوء الإخفاقات المأسوية التي لازمت الفكرة القومية العربية بالمقابل، وخاصة على صعيد خدمة المصالح العليا للأمة. فهل من درس وعبرة لنا في ذلك كله كعرب أحياء اليوم خاصة أننا نبقى هاملت القرن العشرين وما بعده بامتياز؟
زينب نبوه – صحيفة النور