تحالف العجز الأميركي والشلل العربي
د. خالد الدخيل
لماذا استسهلت حكومة نتنياهو إهانة الحليف الأول والأهم لإسرائيل في العالم؟ ربما أرادت كسب شعبية لدى الإسرائيليين، والمستوطنين تحديدا، بأنها لن تتردد في مواجهة حتى الولايات المتحدة من أجل مصلحة إسرائيل. هل تنفصل مصلحة إسرائيل عن الولايات المتحدة؟ربما أرادت هذه الحكومة تجسيد الموقف السلبي للرأي العام الإسرائيلي حيال إدارة أوباما على الأرض بقرار يحمل التحدي لهذه الإدارة. مهما يكن، كان مضمون الرسالة واضحا، وهو أن ظروف الصراع قد ترغمنا على التفاوض مع الفلسطينيين، وعلى مجاراة الأميركيين في ذلك بحكم أنهم مصدر دعمنا وحمايتنا، لكن يجب عليهم أن يفهموا أن التفاوض لن يمنعنا من مواصلة الاستيطان في أرض “يهودا وسامرا”. ثم تأكدت هذه الرسالة مرة أخرى على لسان نتنياهو، في اليوم التالي لمكالمة وزيرة الخارجية الأميركية له الأحد الماضي، والتي استغرقت 43 دقيقة. اعتذر نتنياهو عن توقيت إعلان قرار الاستيطان الجديد، لكنه أكد أن الاستيطان سوف يستمر بالوتيرة التي كان عليها طوال أكثر من 40 سنة، مؤكداً بأن أحداً من رؤساء الحكومات الإسرائيلية منذ غولدا مائير لم يضع حدودا على الاستيطان في القدس، وبالتالي لن يكون هو الاستثناء في ذلك.
كانت مصادر أميركية وإسرائيلية ذكرت أن هيلاري قالت لنتنياهو أثناء المحادثة الهاتفية، إن إعلان حكومته عن المشروع الاستيطاني يترك انطباعا سلبيا عن نظرة إسرائيل لعلاقاتها مع أميركا. وأضافت المصادر بأن الوزيرة طلبت من رئيس الوزراء الإسرائيلي ثلاثة مواقف محددة: إلغاء مشروع البناء الجديد في القدس، واتخاذ خطوات لبناء الثقة مع الفلسطينيين، مثل إطلاق مئات الأسرى الفلسطينيين أو تسليم مناطق إضافية في الضفة للسلطة الفلسطينية، والإعلان رسمياً بأن المفاوضات تشمل جميع مسائل الحل النهائي، بما في ذلك الحدود النهائية، والقدس، وحق العودة. وقد أعقب ذلك الإعلان عن تأجيل زيارة المبعوث الأميركي، ميتشل، لإسرائيل، والربط بين عودته، حسب المصادر، وتلبية الحكومة الإسرائيلية لتلك المطالب. بعض الإسرائيليين اعتبروا أن المطالب الأميركية تهدف إلى إسقاط نتنياهو، وإخراجه من المشهد. ولعل شعورا مماثلا انتاب نتنياهو نفسه، مما دفعه للإسراع في تأكيد تمسك حكومته بمواصلة الاستيطان، في محاولة لقطع الطريق على هذه المطالب. لكن يصعب تصور أن نتنياهو أقدم على هذه الخطوة بعد أن سمع المطالب المذكورة من الوزيرة الأميركية مباشرة. الأرجح أن هذه المطالب جاءت عن طريق قنوات دبلوماسية أخرى. ومهما يكن، فمن الواضح أن علاقة إدارة أوباما مع إسرائيل تمر بأزمة يتعين انتظار نتائجها، وهو انتظار لن يطول كثيرا.
الكثير من المعلقين الإسرائيليين وجهوا نقدا حادا لنتنياهو، واتهموه بأنه يقدم التزاماته الأيديولوجية على مصلحة إسرائيل وعلاقتها مع الولايات المتحدة. وكالعادة جاء النقد الموجه لرئيس الوزراء الإسرائيلي في الصحف الأميركية أخف في لهجته من النقد الإسرائيلي. الكاتب في الـ”نيويورك تايمز”، توماس فريدمان، يتهم حكومة نتنياهو بأنها تتصرف وكأنها مخمورة، موحياً بأنها لا تدرك مخاطر إصرارها على الاستمرار في توطين اليهود على أراض فلسطينية. أما روجر كوهين، كاتب يهودي أميركي آخر في الصحيفة نفسها، فربما كان أجرأ من كتب عن الموضوع. فهو يذكِّر نتنياهو بأن إحدى مصالح أميركا العليا إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يتطلب إنهاء الصراع، لكن الاستيطان الإسرائيلي يحول دون ذلك. لماذا إنهاء الصراع مصلحة أميركية؟ لأن استمراره يجعل منه أداة تجنيد جهادية تغذي الحروب التي يموت فيها شباب أميركا. المفارقة، كما يقول كوهين، أنه خلال العقد الماضي كان حجم المساعدات الأميركية لإسرائيل 28،9 مليار دولار، مما يعني أن الهدف الاستراتيجي الأميركي المتمثل في دولتين فلسطينية وإسرائيلية، يتعرض للتآكل بفعل دبلوماسية الشيكات الأميركية. يذهب كوهين أبعد من ذلك قليلا عندما يؤكد بأن “اليمين الإسرائيلي، بصيغتيه الدينية والعلمانية” لا يقبل بوجود دولة فلسطينية. ويستشهد على ذلك بما قاله له عمدة مستوطنة “إرييل” في الضفة الغربية، من أنه “لا يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية”، مضيفاً بأن “إسرائيل والأردن يجب أن يقتسما الأرض فيما بينهما”. حكومة نتنياهو رمز لليمين الإسرائيلي، وقرارها الأخير يتناغم تماما مع ما قاله عمدة “إرييل”. وبالتالي فالسؤال الذي يفرض نفسه، حسب كوهين أيضاً، هو: هل المصالح الإسرائيلية العليا تشمل استمرار البناء في القدس الشرقية، ومن ثم عدم التوقف عن الاستيلاء على الضفة الغربية، أم أن ادعاء نتنياهو بأنه يقبل بـ”حل الدولتين” هو مجرد ادعاء فارغ، لا معنى له؟
مقاربة كوهين تقترب قليلا، وليس كثيرا، من حقيقة السياسة الإسرائيلية تجاه “عملية السلام”. وذلك لأن رفض الدولة الفلسطينية لا يقتصر على اليمين الإسرائيلي وحسب، وإنما يشمل كل أطياف المجتمع الإسرائيلي، باستثناء أقلية تمثلها حركة “السلام الآن”. تؤمن هذه الأقلية بأن إقامة دولة فلسطينية من مصلحة الأمن الإسرائيلي. لكن ما طبيعة هذه الدولة، وأين تقع حدودها… فهذا أمر آخر. بالنسبة للقدس، يتفق الإسرائيليون، يمينهم ويسارهم، على أنها يجب أن تبقى عاصمة موحدة لدولة إسرائيل.
هل ما حصل لنائب الرئيس الأميركي في تل أبيب ينبئ بأزمة حقيقية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية؟ ليس تماما. إنها أزمة بالفعل، لكنها ليست جديدة، وليست من النوع الذي يتجاوز طبيعة التحالف بين الطرفين. حصل ما يشبه الأزمة الحالية عام 1991 عندما عبر وزير الخارجية الأميركية حينها، جيمس بيكر، أمام الكونجرس عن إحباطه من سياسة الاستيطان الإسرائيلي، وأعلن على الملأ رقم هاتف وزارة الخارجية قائلا “عندما يصبح الإسرائيليون جادين في عملية السلام، يمكنهم الاتصال بنا على هذا الرقم”. بعد ذلك خسر الرئيس بوش الأب، الانتخابات أمام كلينتون، وعادت علاقات الطرفين إلى طبيعتها، ومعها استمر الدعم المالي الأميركي الذي يغذي استمرار الاستيطان. قد يبدو وكأننا الآن أمام مرحلة جديدة، وأن إدارة أوباما أكثر تصميما على هدف السلام، وتحديدا على فكرة الدولتين، وبالتالي أكثر صرامة في التعامل مع الإسرائيليين. ربما، لكن يقف أمام الـ”ربما” هذه خرط قتاد يتضمن: أولا أن أوباما ليس أميركا، وأنه في فترته الرئاسية الأولى. ثانيا اللوبي اليهودي الذي أحس ببوادر خطر ما يحصل، أعلن أن موقف الإدارة مثير للقلق، وثالثا الكونجرس المعروف بتحيزه الأعمى لإسرائيل، وهو تحيز سيتواصل على أبواب انتخابات النصف الثاني.
ربما تساءل البعض: والحال هكذا، ما هي مصلحة إسرائيل في إثارة أزمة مع حليفها الأول، أميركا، حول السلام مع العرب؟ والإجابة الأرجح تكمن في أمرين: الأول أن أميركا إما عاجزة حقا عن الضغط على إسرائيل، أو أنها أنها لا ترى أن مصلحتها تقتضي مثل ذلك. وفي كلا الحالتين النتيجة واحدة بالنسبة لإسرائيل. الأمر الثاني، هو السياسة الإسرائيلية نفسها. إذا كانت المفاوضات بالنسبة لإسرائيل مجرد غطاء للاستيطان، من الطبيعي أن تثير الكثير من الأزمات مع واشنطن، وغير واشنطن حول هذا الموضوع. تستهلك هذه الأزمات الكثير من الوقت الذي تحتاجه تل أبيب لاستكمال السياسات نفسها. ما من أزمة تسببت قط في عرقلة الاستيطان. بل ما من أزمة تسببت في وقف الدعم المالي الأميركي. وفي السياق ذاته تساعد هذه الأزمات في تعميق الانقسام الفلسطيني، وفي إقناع الفلسطينيين والعرب بعدم جدوى المفاوضات. المأزق على الجانب العربي في هذه الحالة أنه لا توجد استراتيجية واضحة عندما تصل الأمور إلى هذا الحد. وبالتالي يتهيأ لإسرائيل الاستمرار في الاستيطان، وفي تهويد القدس. السؤال الحقيقي: لماذا لا تثير إسرائيل المزيد من الأزمات؟ ظهرها محمي في واشنطن، وخيارات خصمها أو عدوها في المنطقة محدودة جدا. والخوف في هذه الحالة أن تستخدم واشنطن أزمتها مع تل أبيب للحصول على مزيد من التنازلات العربية للخروج من الأزمة ذاتها. هذه مفارقة، لكنها ليست جديدة أيضاً.
الاتحاد