اعتذار أقبح من جريمة
خيري منصور
تماماً كما لو أن أرييل شارون اعتذر عن التوقيت الذي اجتاح به لبنان وليس عن الاجتياح ذاته، أو كما لو اعتذر باراك عن التوقيت الذي اغتيل فيه خليل الوزير في تونس، والنجار وناصر والعدوان في بيروت وليس عن الاغتيال. هكذا بدت عبارة نتنياهو وهو يعتذر لواشنطن وإدارتها عن إعلان المشروع الاستيطاني الموسع للقدس أثناء زيارة نائب الرئيس بايدن. وأول ما يلاحظه المراقب لهذا العزل بين الجرائم وتوقيت اقترافها هو منطق غير مسبوق في التاريخ، اللهم إلا في عهود من طراز عهد الامبراطور كاليجولا، وتبدو المسألة في هذه الصيغة التي تزاوج بين المأساة والملهاة كما لو أن للجرائم مواسم محددة يجب التقيد بها، وتتغلب الملهاة على المأساة حين يصبح الوقت غير المناسب لاقتراف مثل هذه الجرائم هو زيارات عابرة ليوم أو اثنين يقوم بها نائب رئيس، سواء كان بايدن أو سواه.
اعتذار نتنياهو لواشنطن بعد تقريع هيلاري كلينتون الهاتفي أقبح من أي ذنب، لأنه يقيم وزناً لزيارة بروتوكولية أكثر من احتلال مسلح، يسعى إلى تهويد التراب والهوية والمقدسات، وإذا أراد العالم أن يثبت بأنه على قيد الوعي وأنه ليس سادراً في الغيبوبة السياسية فإن عليه أن يقرأ هذا الاعتذار في ضوء منطق عمره آلاف السنين، وليس في ضوء منطق مضاد استولد للتو بأنبوب استيطاني.
وبغير ذلك فإن على هذا العالم أن يتهيأ منذ هذا الاعتذار للفصل الحاسم بين الجريمة وموعد تنفيذها، فثمة أوقات محللة وأخرى محرمة أو شبه محرمة مؤقتاً، ولو شئنا الاستطراد في قراءة تتغلب فيها الملهاة السوداء لقلنا مثلاً إن احتلال فلسطين عام 1948 كان يمكن له أن يصبح مشروعاً ومحللاً بكل المعايير لو حدث عام 1950 أو عام ،1960 وإن العدوان على غزة كان سيصبح منطقياً ومقبولاً لو حدث عام 2010 وليس قبل ذلك.
هذه العينة الاعتذارية نموذج لعقل سياسي من طراز جديد، وكأنه يقترح للبشرية منظومة أخلاقية طازجة، لم تستخدم من قبل وخلاصة هذا الاختراع أن القتل مباح والاحتلال مسموح به والاستيطان الذي يتأسس على فقه الإبادة وإحلال الطارئ مكان الأصيل لا غبار عليه، شرط أن يتم في أوقات محددة، منها للمثال فقط عدم وجود زوار سياسيين إلى البلاد.
ولو قدم مثل هذا الاعتذار شخص آخر غير نتنياهو لضحك العالم ملء الفم وحتى البكاء لكن المعتذر نادراً ما فعلها واعتذر من قبل، لهذا يستكثرها منه حتى ضحاياه الذين أصابهم الخرس وبحثوا عمن ينوب عنهم حتى في الأنين والاستغاثة.
وإذا كان العربي الميت هو المثالي بالنسبة للصهيونية في كل مراحلها وفصول كتابها الأسود فإن الضحية الخرساء هي الضحية المثالية أيضاً، فهي ضمانة لاكتمال الجريمة خصوصاً في غياب الشهود.
وأمام المشتغلين في العلوم السياسية والفلسفة والمنطق فرصة ذهبية لإدراج هذا الاعتذار عن التوقيت في باب جديد، يصبح فيه القتل مشروعاً تبعاً لتوقيت ما، وكذلك الاحتلال والاقتلاع والاستيطان.
إنه اعتذار أقبح من كل الذنوب.