كل الطيبات وكل الأشياء الأخرى أيضاً
ياسين الحاج صالح
من كل قلبها، تريد نخب السلطة في بلداننا الازدهار والتفتح والديموقراطية لمحكوميها الأعزاء، لكنها تريد أشياء أخرى: أن تبقى في الحكم لا تتزحزح عنه، وأن تضرب أي خصم أو منافس محتمل لها، وأن تكون المرجع الحصري لأي تفاعل عام محتمل بين رعاياها، وأن تُعرِّف الوطنية الصحيحة لمحكوميها، فتُخوِّن من تشاء حين تشاء، وأن تحوز نفاذاً امتيازياً إلى الموارد الوطنية، وأن يعمل أربابها في التجارة (مباشرة أو من وراء واجهة)، وأن يكونوا من أصحاب البلايين، وألا تكون النخبة ككل موضع مساءلة أو محاسبة، بينما يسعها أن تحاسب أي معارض أو مسائل محتمل لها، وألا توجد وسائل إعلام مستقلة، وأن يكون القضاء فاسداً وتابعاً، والبرلمان أفسد وأتبع، وأن يُرفع الحكام فوق المرتبة البشرية. نظمنا ليست مخلصة في طلب الديموقراطية والازدهار لما في عهدتها من بلدان فقط، وإنما يمتد إخلاصها إلى جمالات أخرى كثيرة.
وكانت أميركا في عهد بوش أرادت الديموقراطية في «الشرق الأوسط»، لكنها أرادت معها بضعة أشياء أخرى: أن تكون مرجعاً أعلى لتفاعلات دولها، أي أن تدين لها السيادة الحقيقية في المنطقة، وأن تبقى إسرائيل أقوى دولها ومكفولة التفوق على مجموع هذه الدول، التي عليها أن تتصالح مع إسرائيل وتقيم علاقات سياسية واقتصادية وأمنية طيبة معها، وأن تنتشر قواعدها العسكرية في الإقليم، وألا تفكر دول الإقليم الغنية بالبترول في فرض عقوبات بترولية على أميركا، وألا ينجح الناس الخطأ، الإسلاميون أو أي وطنيين مستقلين، في أية انتخابات ديموقراطية حرة تجرى في أي من دول الشرق الأوسط، الصغير أو الكبير أو الأكبر. أميركا جادة في تصدير الديموقراطية إلى الشرق الأوسط، قدر ما هي جادة في كمالات أخرى كثيرة.
وهي تريد اليوم، في عهد أوباما، تحقيق سلام عربي – إسرائيلي، لكنها تريد أشياء أخرى معه: ألا تقوم دولة فلسطينية تامة الاستقلال والسيادة، وألا تضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان أو تجميده، وألا تطالبها بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وأن تتحكم بعلاقات وتحالفات الدول العربية المعنية، وأن تشترك الدول العربية معها في محاصرة إيران، وربما في ضربها. أميركا أوباما راغبة في السلام في الشرق الأوسط، وفي ما هو أكثر من السلام.
وتريد إسرائيل سلاماً مــــع العرب، غير أنــها تريـــد بضعـــة أشياء أخرى معه. ألا ترجع الأراضــي المحتلة للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وألا تقـــوم دولة فلسطينية قابلة للحـــياة ومتمتعة بالاستقلال والسيادة، وألا تعتــــرف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينــــية المنتظرة أو تتنازل عن شيء منها، وألا يعود اللاجئون إلى مواطنهم، وأن تقيـــم كل الدول العربية معها علاقات طيــــبة سياسية واقتصاديـــــة، وأن تبقى أقوى من الدول العربية مجتمعة، وأن تنتهك حين يطيب لها أية اتفاقات سلام معقودة مع الدول العربية، فتتجسس عليها جميعاً وتغتال من تريد اغتيالهم. إسرائيل حريصة فعلاً على السلام والازدهار في المنطقة، وتعمُّ بركات حرصها أشياء أخرى كثيرة أيضاً.
ويريد عموم الإسلاميين السياسيين الوحدة والمنعة وكل الخير لبلدانهم، وفوقهما بضعة أشياء أخرى: أن يكونوا هم الحاكمون، وأن يراقبوا الحريات الاجتماعية المتاحة للسكان في بلدانهم، وألا يتمتع السكان بحرية الاعتقاد الديني، وأن ترتدي النساء الحجاب أو النقاب، وألا يختلط الجنسان في المدارس والجامعات، وأن تغلق دور السينما، وألا تغني نساء في التلفزيون، وألا تقدم الخمور في المطاعم والفنادق، وأن يكون الشعر عمودياً، وأن يقاوم «الغزو الثقافي» والقيم الدخيلة على ثقافة «الأمة». ليسوا ضد الديموقراطية بحال. هم معها ومع «ثوابت الأمة».
قد يمكن تعريف «الشرق الأوسط» بأنه الإقليم الذي يريد فيه كل الفاعلين الأساسيين كل الأشياء المتناقضة. وبما أن هذا لا يستقيم، فإنهم يجعلون من الأشياء الطيبة تعريفات لهم أو هويات. كل ما تفعله نظمنا الطيبة هو تقدم وطني وديموقراطية وازدهار، وأي شيء يصادف أن يفعله الأميركيون الأخيار هو ديموقراطية وسلام، وتتوحد كل سياسات إسرائيل الفاضلة في سعيها وراء السلام هدفاً وحيداً لها، وأياً يكن ما يفعله الإسلاميون الأطهار فهو في خدمة رفعة الأمة ووحدتها وخيرها.
الشيء المشترك بين الجميع هو رفض السياسة بما هي اعتراف بأطراف أخرى ومصالح أخرى، وما يقتضيه ذلك من تفاوض وتسويات وحلول وسط وتنازلات متبادلة. لا تقر نظمنا الحاكمة بأطراف اجتماعية أو سياسية مستقلة تقدم أمامها حساباً أو تقبل منها مساءلة أو تتفاوض معها.
هي الوطنية مُقطَّرةً، فلماذا تتفاوض مع من لا يمكن أن يكونوا إلا خونة أو عملاء؟ ولا يتفاوض الأميركيون مع أي خصوم متصورين في «الشرق الأوسط» حول قضايا الإقليم الأساسية. هم معتدلون تعريفاً، فلا يمكن خصومهم إلا أن يكونوا متطرفين. والسياسة الصحيحة حيال المتطرفين هي المواجهة وليس التفاوض. ومعلوم أنه لا شريك فلسطينياً تتفاوض معه إسرائيل لصنع السلام.
ولا تتحمل إشكالية التيار العام من الإسلاميين الاعتراف الجدي بأطراف سياسية وإيديولوجية أخرى، مستقلة. من يتفاوض مع من لا يمكن أن يــكونوا إلا كفـرة أو مرتدّين؟
لكن جعل الوطنية تعريفاً لحكامنا والسلام والديموقراطية والاعتدال تعريفاً لأميركا والسلام تعريفاً لإسرائيل وخير الأمة ووحدتها تعريفاً للإسلاميين لا يرفع التناقض بين عناوين مرغوبة وسياسات مضادة لها. «يضطر» القوم إلى ممارسة العنف لرفعه. تذل نظمنا رعاياها لبناء الوطن، ويقتل الأميركيون من أجل الديموقراطية، وتحارب إسرائيل من أجل السلام، ويمزق الإسلاميون الأمة من أجل وحدتها ورفعة شأنها.
إلا أن هناك ما يحول دون تحقيق النجاح المطلوب رغم ذلك: يصر معاندون كثيرون هنا على أن الحرب ليست سلاماً، وأن الرعايا المهانين ليسوا «إخوة مواطنين»، وأن الاحتلال ليس ديموقراطية، وأن التمزق ليس وحدة. لكن ما لا يتحقق بالعنف يتحقق بمزيد من العنف، وفق شُرعة بن غوريون، الدستور الحقيقي لـ «الشرق الأوسط».
لا بد من أن مقدار العنف غير كاف.
خاص – صفحات سورية –