مؤتمر قمة عربي دوري آخر!
ميشيل كيلو
في أوائل الثلث الأخير من شهر آذار الحالي، سيعقد في ليبيا مؤتمر قمة عربي دوري آخر، سيشهد ما عرفته مؤتمرات القمــة السابقة من خلافات، وسيثار حوله لغط كثير، سيطاول قضايا متنوعة، ومن المرجح أن يكون مصيره مماثلا لمصير غيره من مؤتمرات القمة، التي لم تنجح يوما في تنقية الأجواء العربية،
ليس بمعنى الكلمة الآني، الذي يتركز على تسوية الخلافات العابرة، التي كانت سائدة قبل وخلال فترة انعقاد المؤتمر، بل بمعناها الحقيقي، الذي يركز على إقامة أرضية فهم وتأمل ورؤية مشتركة بين مختلف حكومات ودول العرب، يتم انطلاقا من مبادئها الموحدة اتخاذ مواقف مشتركة بالفعل حيال المسائل التي تتخطى اللحظة الآنية والمشكلات الظرفية، فتأتي معالجتها في العمق، وتكون متقاربة أو متماثلة، لأن أرضية التصدي لها توحيدية، باستطاعتها التصدي لأية مسائل جزئية وتفصيلية، والحيلولة دون تحـولهــا إلى مسائل عامة ومزمنة، تضخم الخلافات العربية / العربية، مع أنها ليست من طبيعة هيكلية، رغم ما تثيره من تناقضــات بين الأطراف المهتمة أو المعنية بإدارتها واستغلالها.
بسبب غياب هذه الأسس السياسية والروحية المشتركة، التي تشكل أرضية بوسعها توحيد نظرات ومواقف ومصالح البلدان العربية، وبسبب رجحان المصالح الجزئية على المصالح العليا والعامة، تفشل مؤتمرات القمة في الخروج من دائرة الخلافات الوقتية، القائمة أثناء انعقادها أو قبله بقليل، وفي طرح ومعالجة مشكلات العرب الحقيقية، البنيوية، التي يفترض بالقمة أن تعتبرها موضوعها الرئيس وأن تتصدى لها، لكنها لا تفعل ذلك في واقع الأمر، لأن الافتقار إلى رؤية موحدة، وإلى الاتفاق على طابع وهوية المشكلات العابرة للأمة، يحتم طريقة في النظر تتقاسمها سائر الحكومات، ترى العام العربي انطلاقا من الخاص القطري أو الحكومي وغالبا الشخصي، بدل رؤية الخاص في جزئيته بدلالة العام في شموله، فتترتب على ذلك ليس فقط نظرة مشوهة وخاطئة إلى مشكلات العرب، تتجاهل مشكلاتهم وآمالهم الحقيقة، الفاعلة والمؤثرة في عمق حياتهم العامة والسياسية، الوطنية والقومية، وتثير نزاعات كثيرة حول المغانم الخاصة بكل نظام عربي، هي البديل العملي للإنجازات والمكاسب القومية، العابرة للدول والكيانات القائمة، والمعبرة بحق وعمق عن مصالحها الحقيقية، التي ينتظر من ‘قمة عربية’ تستحق اسمها أن تحققها، وأن تجد السبل الكفيلة بترجمتها إلى مصالح جامعة لا اختلاف عليها، تلبي حاجات البلدان العربية المختلفة، هي بالبداهة من طبيعة توحيدية، تخفق القمة العربية، بسبب غيابها، في تحقيق الغاية منها، وتنقلب إلى ميدان صراع على مغانم ومسائل جزئية بين متنافسين متعادين، كما هو حال مؤتمرات القمة العربية، التي عرفناها منذ عام 1964 إلى اليوم.
السؤال الذي يطرح نفسها علينا الآن هو: هل يمكن للقاء سنوي عابر أو قصير بين أطراف متناقضة ومتصارعة، تتنافس على احتلال مواقع جزئية متضاربة في مجال قومي واحد، أن يحل مشكلاتها ومشكلاته، مهما كانت نقاشاته معمقة ونوايا المشاركين فيه سليمة ؟. وهل يمكن للقادة العرب حل مشكلات لا ريب في أنهم يتأثرون جميعهم بنتائجها، لكنهم يختلفون في نظراتهم إليها، ومقاصدهم من حلها، وطرقهم في معالجتها، والنتائج التي يردونها منها؟
أكثر من ذلك: هل توجد اليوم، بعد قرابة قرن ونيف على نشوب الصراع الإسرائيلي ضد العرب عامة وفلسطين بصورة خاصة نظرة عربية موحدة حقا إلى هذا الصراع، تقوم على أرضية لحمتها وسداها أسس ومشتركات واحدة تتقاسمها نظم وحكومات العرب، ولا تختلف حولها، كل واحدة انطلاقا من ما تتوهم أنه مصالحها، ضاربة عرض الحائط بالمصلحة العربية والفلسطينية الجامعة؟. إذا كان قرن من الصراع الدامي والعنيف على فلسطين لم يفض إلى إقناع الحكام العرب ببلورة نظرة عربية موحدة أو مشتركة أو متقاربة أو منسقة إلى قضيتها، رغم أنها أثرت بعمق في مصير بلدانهم جميعها، القريبة منها والبعيدة، فما الذي يمكن أن يفضي إليه لقاء يدوم أربعا وعشرين أو ستا وثلاثين ساعة، يذهب بعدها المختلفون المتصارعون كل إلا بلده، لينسى ما قاله وتعهد به خلال قمة حضرها وهو قليل الاقتناع بجدواها قليل الالتزام بنتائجها، ويستأنف الصراع على الجزئيات والنفوذ والمصالح مع من كان يدعوهم إخوته وأشقاءه ؟!.
ثمة خلل بنيوي وعميق في حياة العرب السياسية وفي علاقاتهم البينية، ينعكس على جامعة الدول العربية ومؤسسة القمة، فيعطلهما، ليس فقط لأن الحكومات العربية غير جادة أو صادقة في التصدي لمشكلات العرب، بل كذلك لأنها تفتقر إلى جوامع ومشتركات تجعل من يتبنون معاييرها الموحدة يتخذون مواقف مشتركة أو متقاربة، حتى دون أن يجتمعوا أو يلتقوا، وقد ضربت مثالا على ما أحدثه الافتقار إلى هذه المشتركات والجوامع من دمار في المسألة الفلسطينية، التي يوجد سياسات عربية كثيرة، متناقضة ومتعادية، حولها، ولا ولم يوجد إطلاقا، في أي وقت من تاريخنا الحديث، أي موقف عربي موحد أو متقارب أو حتى منسق، ثابت وفاعل، منها، رغم كثرة المؤتمرات التي عقدت بذريعتها، من عام 1929 إلى اليوم، وتحولت من مؤتمرات لحمايتها إلى مؤتمرات للتخلي عنها، لأسباب أهمها تناقضات السياسات والمصالح والرؤى.
لا سبيل إلى التخلص من هذا الخلل بغير عمل منظم، منهجي وطويل الأمد وصادق، يتم على صعيدين رئيسين، من الضروري أن تتولاه جامعة عربية لها وظائف تختلف اختلافا جديا عن الجامعة الحالية، جامعة الخلافات العربية، وأن يتم قسمه الأول على مستوى خبراء مشهود لهم بالموضوعية والعلم، يكلفهم مؤتمر القمة القادم، على سبيل المثال، بوضع رؤية شاملة تصف وتحدد بدقة الأسس الكفيلة بتوحيد مواقف العرب حيال مشكلاتهم الكبرى، العابرة للزمان والمكان، والتي لا تفضي ترجمتها في الواقع العربي إلى الإضرار بمصالح الدول الجزئية أو الخاصة، وتؤسس لمساحات من التوافق الفكري والروحي لا خلاف عليها، تملي عليهم نظرات عملية متقاربة أو موحدة، تبين سبل تصديهم لمشكلاتهم العامة وحلها، دون أن يؤجج ذلك نيران صراعاتهم، ويؤدي إلى تغيير علاقات وتوازنات القوة بينهم، أو يفزعهم، ودون أن يضعف أطرافا منهم ويقوي أخرى، ويستدعي حماية بعض نظمهم من أطراف خارجية.
بعد انتهاء عمل الخبراء، يجب أن يعود المؤتمر الحالي على دورة انعقاد استثنائية، تقر ما توصل الخبراء إليه، وما حددوه من آليات تنفيذية توسع مساحة ما هو مشترك بينهم، وتقيد خلافاتهم، وتقنعهم بتبني أساليب متقاربة أو متشابهة أو موحدة في التعاطي مع قضاياهم القومية والعامة، التي لا يجوز لهم الاختلاف حولها، لأن اختلافهم يقوض مصالحهم.
بتوفر هذا الزاد الفكري والعملي، وباعتماده من حكومات العرب، ستنجح مؤتمرات القمة وسيكون عائدها هائل الأهمية بالنسبة للأمة ودولها، وسينتهي الابتزاز المتبادل بين الدول والأحزاب والسلطات الحاكمة، وسيحسب العالم حسابا حقيقيا للعرب، الذين ستتحسن كثيرا مكانتهم فيه وسيؤخذون على محمل الجد، لأنهم سيحققون تقدما حاسما في حل مشكلاتهم، بدءا من فلسطين.
بدأت مصاعب مؤتمر القمة الوشيك الانعقاد تظهر في الحياة السياسية العربية، مثلما كانت مصاعب غيره من المؤتمرات هي علاماتها الفارقة. إن انعقاد لقاء عابر بين مختلفين، يناقشون خلاله مسائل يتنازعون بشدة عليها، ليس أمرا مجديا، وإن وجد بعض العرب فيه شيئا من التسلية، واعتبره معظمهم صورة مجسدة لفضيحة دائمة، لم تتمكن ‘خير أمة أخرجت للناس ‘التخلص منها خلال فترة نيف ونصف قرن هي عمر مؤتمرات القمة!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي