الزعامة الطائفية هي البوصلة: وليد جنبلاط.. المتأرجح أبدا
محمد داود
يصعب –كما يتفق الخصوم والأنصار– حصر المثير من تصريحات وليد بيك كما يسميه أتباعه، فالسياسي اللبناني قادر على خطف الأضواء من الجميع، رغم صغر حجم طائفته في بلد يعتمد ميزانه على الطوائف وأحجامها، وإذا كثرت الإثارة قلّت.
تقلب وليد جنبلاط بين المواقف حتى خبرها جميعا من إعلان نفسه مقاوما لإسرائيل إلى إعلان نفسه عدوا لمن يقاومها، ومن تأييد سوريا واعتبارها حصن العرب وقلعتهم الأخيرة إلى دعوة لتفجير سيارات في دمشق، ردا على سلسلة تفجيرات أودت بحياة عدد من المقربين من تيار 14 آذار اللبناني.
لم تقف خصومة “البيك” مع دمشق عند هذا الحد فقد شتم الرئيس السوري بشار الأسد مرارا، ودعا لإسقاط حكمه، بعد أن وصفه بـ”طاغية دمشق”، يومها تغنى جنبلاط منتشيا بشتم الأسد -وسط صراخات حشود هستيرية- “يا قردا لم تعرفه الطبيعة، يا أفعى هربت منه الأفاعي، يا حوتا لفظته البحار، يا وحشا من وحوش البراري، يا مخلوقا من أنصاف الرجال، يا منتجا إسرائيليا على أشلاء الجنوب وأبناء الجنوب”، ثم توعده بالمحكمة والقصاص.
سقط المحافظون الجدد الذين راهن عليهم جنبلاط، وبدأ الحصار الدولي يتصدع حول سوريا، وعاد جنبلاط ليصف لحظات النشوة تلك بأنها “لحظة تخل”، وهو مصطلح درزي يشير إلى نوع من فقدان القدرة على الحكم على الأشياء، كما يبدو.
الزعيم الدرزي -المولود عام 1949، والذي تقلد الزعامة شابا خلفا لوالده كمال جنبلاط- تعهد بنسيان ثأره مع من قتلوا والده، وكان لسنين خلت يقول إنه يسامح ولا ينسى، بدت كلماته -كما كتب الصحفي اللبناني إبراهيم الأمين رئيس تحرير جريدة الأخبار- عرضا “للمقايضة” مع دمشق، مقايضة نسيان دم والده مقابل نسيان التحريض على احتلال سوريا وشتم رئيسها.
يقول أنصاره إن وليد جنبلاط مرن يجيد قراءة التغيرات والتحرك على وقعها لحماية طائفته الصغيرة، إذ يبلغ عدد الدروز في لبنان أكثر من 110 آلاف نسمة بقليل.
ترمومتر الخارج
ويرى فيه البعض “ترمومترا” لمعرفة نوايا الخارج تجاه المنطقة، ومجسا يمكن قراءة المتغيرات بناء على موقفه.
ويقول خصومه إن استقراءه للأحداث كثيرا ما كان خاطئا، مما أرغمه على التقلب بين النقائض أحيانا، وهم يرون فيه سياسيا بلا مبادئ.
يرى المعجبون بنهج جنبلاط في قدرته على التحول تبعا للظروف “ذكاءً سياسيا”، لكن آخرين يعتقدون أن التقلب من النقيض إلى النقيض في الموقف ليس ذكاء وإنما دليل ضعف، وعلامة فاقعة على تكرار الأخطاء، وانعدام الضوابط.
لم يجهد وليد جنبلاط كثيرا للحصول على زعامة طائفته فقد ورثها عن والده، لكنه بذل الكثير للحفاظ عليها، ولا يخفي عزمه توريثها لنجله البكر تيمور المولود عام 1983، رغم حديثه المتكرر عن أشواق لوطن “علماني ديمقراطي” بعيدا عن الطوائف، ورغم تسميات حزبه باشتراكي وتقدمي.
استثمار الحرب
نجح جنبلاط -الذي ينحدر من أسرة كردية الأصل اعتنقت الديانة الدرزية لاحقا- في استثمار الحرب الأهلية ومسامحة دمشق على تصفية والده كما يقول لتثبيت زعامته لدروز لبنان في مواجهة أخواله نسبا وخصومه سياسة من آل أرسلان.
تلك الزعامة تعرضت لتحديات جسام حينما قررت الحكومة اللبنانية بزعامة فؤاد السنيورة التحرك ضد شبكة اتصالات حزب الله.
فقد تحرك الحزب في الجبل وبيروت لمواجهة خصومه، وكان المتضرر الأكبر وليد جنبلاط الذي اكتشف هشاشة تحالفاته الداخلية ومحدودية تحالفاته الخارجية، فارتد إلى الطائفة طالبا الحماية من خصمه السابق الوزير والنائب طلال أرسلان، لقد ثبت مرة أخرى أن قراءته للأوضاع كانت خاطئة.
امتص “البيك” الضربة وانقلب “بمهارة” على حلفائه دون أن يسقط في حضن خصومه، وقف بين الفريقين بعد الانتخابات متحرزا من اتخاذ موقف حاسم، فلا هو في معسكر ساهم في بنائه يوم اغتيل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ولا هو عاد لمربع حزب الله وحلفائه، وظلت زيارة دمشق شوكة تدمي حلقه.
تصريحاته الأخيرة صيغت بدقة وحملت اعتذارا ضمنيا للرئيس السوري لا لسوريا، ومراجعة شاملة لمواقفه، وتشبثا بزعامة الدروز لا في لبنان وحدها وإنما في بلاد الشام كلها.
حلم الزعامة
بعد التصريحات أعلن حزب الله أن تلك “المراجعة” جاءت في سياق وساطة مع سوريا طلبها جنبلاط من الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله لفتح طريق “البيك” إلى دمشق، ولقاء الرئيس السوري الذي يؤكد جنبلاط أن لديه “الكثير” ليقوله.
وهي طريق تبدو ضرورية لمد نفوذه إلى الدروز خارج لبنان، خاصة دروز سوريا، وذلك في إطار حلمه بزعامة الدروز في المنطقة.
ما يراه وليد جنبلاط توحيدا يراه كثيرون غيره حلمَ تفتيت آخر ضد الهوية العربية في المنطقة، وهي هوية كثيرا ما أكد عليها جنبلاط عند انتقاء عباراته.
ويسعى الزعيم الدرزي إلى حلمه قبل إحالة ملف الطائفة وحزبه السياسي “دون أحقاد” لنجله الصاعد.
اقترب جنبلاط من خصوم الأمس القريب، وابتعد قليلا عن “ثوار الأرز” الباحثين عن الحقيقة في أروقة المحكمة الدولية، لكن عينيه كما يقول المراقبون ظلت مسمرة على الطائفة وموقعه فيها حتى لو اجتاز المواقف والحقائق، فكل شيء لسيد المختارة مسموح به، كما يقول أنصاره.
باتت زيارة جنبلاط لدمشق قريبة، لكن البعض يتساءل: لم تشغل الزيارة بال الإعلاميين والسياسيين في لبنان رغم أن وليد جنبلاط ليس سوى زعيم طائفة صغيرة، ورغم أن مواقفه تصنعها الحوادث ولا تصنع الأحداث؟.
الجزيرة نت