تطورات كبيرة في الشرق الأوسط
بدأ تغير عميق في موازين القوى في الشرق الأوسط يفصح عن نفسه مع صمود حزب الله و معه لبنان، وفشل العدوان الإسرائيلي في تموز 2006/ ، وتعزز الأمر في غزة 2008/ 2009 بصمود حماس والشعب الفلسطيني،ثم جاءت أزمة النظام الرأسمالي العالمية لتضعف إمكانات الإمبريالية الأمريكية أساسا، والأوربية بدرجة ثانية، بدءا من العام 2009/ ، وتجبرهما على إرخاء قبضتيهما عن المنطقة أكثر، واتخاذ القرار بسحب الجيوش من العراق تحت ضغط النزف المستمر الذي سببته المقاومة لقواتها، ومن ثم العمل لتركيزها في أفغانستان التي أوشكت تفلت من السيطرة،. أدى كل ذلك إلى خلق وضع عالمي وإقليمي موات لتعزيز تغير ميزان القوى والمضي به نحو آفاق أبعد، الأمر الذي وصل إلى بدء تبلور أوضاع جديدة في المنطقة ،ترسمها بعض دولها، ستزيح بالمحصلة إذا ما نجحت، مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي، وقد تكون لها نتائج كبرى على المدى المتوسط والبعيد، على دول المنطقة وشعوبها، وحتى على الوضع العالمي .
أبرز مظاهر هذا التغير هو ترسخ حالة الردع المتبادل مع الكيان الصهيوني عسكريا، في مواجهته مع ( محور الممانعة)، حيث باتت كل الأراضي المحتلة في فلسطين في مرمى صواريخ إيران وسوريا وحزب الله، والتي باتت على درجة من التنوع والكثافة والقدرة التدميرية ودقة التوجيه بحيث تجعل من أي عدوان صهيوني واسع على أي من أطراف المحور المذكور .
خياراً مكلفاً، بما في ذلك المراكز العسكرية والصناعية والاقتصادية والسكانية للكيان الصهيوني.
فبالإضافة إلى العلاقة السورية الإيرانية التي تزداد رسوخا وعمقا منذ ثلاثة عقود، بذلت جهود ناجحة من قبل النظام السوري لاستمالة تركيا في الأعوام الثلاثة الماضية ( وكانت قد بدأت منذ عقد من السنين)، أسفرت مؤخرا عن توقيع عدد كبير من الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية التي كرست شبكة قوية من المصالح المشتركة، وفتحت لتركيا باب دور ونفوذ إقليمي ينسجم مع تاريخها، وتحتاجه على أكثر من صعيد ، لاسيما بعدما تأكد لها أن طريقها إلى الاتحاد الاوربي طويلة، وفيها من العقبات الكثير. كما تلعب العلاقات السورية الجيدة مع كل من تركيا وإيران دورا مهما في تذليل عقبات العلاقات بينهما وتعبيد طريق تطويرها.
وبسعي وتفاهم مشترك بين إيران وتركيا وسوريا يجري العمل حثيثا لتعزيز العلاقات والتعاون السياسي والاقتصادي بين هذه الأطراف الثلاثة ، وبينها وبين محيطها الإقليمي الواسع، في قضايا السياسة والاقتصاد الإقليميي ، وفق نظرية البحار الاربعة ( مع الجوار التركي والإيراني والعربي في كامل منطقة جنوب غرب آسيا، و وسطها)، بالافادة من خصائص الجغرافيا السياسية والمصالح الاقتصادية ، كما من الجذور القومية والثقافية والدينية المشتركة على امتداد تاريخ طويل،( مثلا: تصدير الغاز من كازاخستان إلى سوريا بالأنابيب عبر تركيا).
وتشكل الدول الثلاث سوارا يحيط بالجزء الأكبر من حدود العراق، ويضعها جميعا في موقع بالغ القوة للتأثير في اتجاهات تطوره، لاسيما بعد الانسحاب الأمريكي منه وفق ما هو مقرر نهاية عام/2011 ، كما يرهن آفاق تطور الوضع الكردي بإرادتها المشتركة، أكثر مما مضى.
يزيد في أهمية التطورات المذكورة آنفا ، بؤس الوضع العربي الرسمي وهزاله الشديد، حيث حشرت اتفاقيات كامب ديفيد المارد المصري في قمقم العزلة عن قضاياه العربية( وعن مداه الإفريقي والإسلامي أيضا)،وحولته إلى كيان هزيل ملحق بالسياسة الأمريكية والإسرائيلية في
المنطقة( أنظر دور النظام المصري المشين في حصار قطاع غزة مثلا). هذا في حين تبدو بقية الأنظمة العربية مكتفية بدور ( الكومبارس) في المشهد السياسي المرسوم أمريكيا في المنطقة، وهو دور وصل من التهافت حد التطوع لتقديم طوق الإنقاذ السياسي لحكومة نتنياهو في أسوأ توقيت من زاوية المصالح العربية، حيث تحيط بها ضغوط الاتهامات والعزلة العالمية من كل حدب وصوب ، بعد تقرير غولدستون، ورفضها وقف الاستيطان في القدس والضفة، في ظل أجواء خلاف صريح مع الإدارة الأمريكية، واستمرار حصارها لغزة، وفضيحة اغتيالها للشهيد المبحوح .
في وضع عربي شديد البؤس كهذا، تبدو التغيرات الإقليمية الجديدة- المشار إليها- تطوراً مهماً يمكن أن يملأ فراغاً خلقه تهافت الأنظمة العربية ونجاح الإدارة الأمريكية والصهيونية في إغراقها عميقا تحت أدنى حدود المواقف المطلوبة منها قوميا ووطنيا، سواء منفردة أو تحت يافطة ( التضامن العربي) الذي لم يعد له أي وجود منذ سنوات طويلة. وليس مستغربا بالتالي أن نرى ونسمع من الأطراف الإقليمية المذكورة مواقف وممارسات تكون فيها أحرص على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني من معظم الأطراف المسماة ( أنظمة عربية)، والتي تبدو وكأن همها الوحيد بات محاصرة قوى المقاومة وإخضاع الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني.
كما يزيد في أهمية الأفق الذي تفتحه هذه التغيرات، انسداد أفق التسوية مع الكيان، نتيجة تعمق وسيطرة الاتجاهات اليمينية المتطرفة في مجتمعه كما في صفوف نخبه وقواه السياسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهي اتجاهات ذات وعي توراتي ـ ظلامي يعتبر كل فلسطين أرضا مقدسة لليهود لا يحق لأحد (التنازل) عنها (للغرباء الفلسطينيين) وهو ما قاد إلى اغتيال رابين الذي عمل جادا للبحث عن تسوية ، و وصل بأتباع هذا اليمين إلى حد المطالبة بإعلان الكيان( دولة يهودية) سيتعين على كل سكانها أن يقسموا يمين الولاء لها ولمصالحها، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام احتمال تهجير كل عرب / 48 والتسبب بكارثة سياسية وإنسانية جديدة في مدى غير بعيد تتشابك هذه التطورات الإقليمية والدولية مع مسارات التطورات الداخلية التي تعيشها دول الإقليم، والتي ستترك آثارها بدورها على الوضع الإقليمي، كما على تعاون هذه الدول.
فتركيا في ظل ( حزب العدالة والتنمية) تخوض انعطافة عميقة لتعديل جمهورية أتتاتورك عبر: رفع وصاية الجيش عن الدستور والحياة السياسية من جهة، وصياغة إيديولوجيا وعلاقات داخلية بين أبناء شعبها، وعلاقات إقليمية وسياسة خارجية، تنسجم أكثر مع واقعها القومي والثقافي، ومع تاريخها وجوارها، على حساب تبعيتها المفرطة التي كانت ، للأطلسي وأمريكا وإسرائيل، كما على حساب الشوفينية الطورانية المتعالية على جوارها وعلى ماضيها، مستقوية بالمزاج العميق لأكثرية شعبها، وبالمطالب/ الشروط الأوربية لتكييف دستورها وقوانينها وواقعها مع الاتحاد الأوربي الذي تتطلع إلى الانضمام إليه. وليس تعديل جمهورية أتتاتورك بالأمر اليسير الذي يمر دون صراعات مع المؤسسة العسكرية والنزعات القومية الشوفينية، قد تصل إلى ذرى عالية ومفارق خطرة، لن يكون مستبعدا صب الزيت على نارها من قبل من يغضبهم مسار التطورات الراهنة( إسرائيل على الأقل)، الأمر الذي ستكون له انعكاساته الأكيدة على الأوضاع الإقليمية الجديدة، وليس على الوضع التركي الداخلي فحسب.
وإيران التي تمضي بزخم واندفاع على طريق نهضتها القومية، مسجلة معدلات عالية من النمو الاقتصادي والعلمي والعسكري، ودينامية عالية من الحراك السياسي الداخلي ، وتناميا كبيرا في النفوذ الاقليمي، يمكن أن تواجه بدورها تطورات داخلية مهمة في المدى المنظور ، سواء بالطرق الدستورية أو بغيرها، قد تكون لها انعاكاسات كبيرة على سياستها الإقليمية والدولية، وهو ما تؤشر له التباينات المهمة في الطروحات السياسية بين التيارين الكبيرين الذين كشفت الانتخابات الأخيرة عن تقاسمهما للشارع الإيراني( المحافظون والإصلاحيون). الأمر الذي سيترك في حال حدوثه، انعكاسات مهمة أيضا على الإقليم وعلى التطورات الإقليمية المذكورة.
وسورية التي تلعب دورا محوريا في هذه التطورات، تعيش تحولات اقتصادية ـ اجتماعية عميقة ومتسارعة، تدفع بالملايين من أبناء الشعب من الطبقات الوسطى والدنيا إلى مستوى معيشي أكثر قسوة و صعوبة، في حين يرون بأعينهم مظاهر الثراء الفاحش الذي تحتكره طبقة ضيقة نسبيا من المترفين … هذا في حين تحرم تلك الملايين ونخبها المثقفة من أبسط حقوق التنظيم النقابي والسياسي المستقلة عن النظام، و الضرورية للدفاع عن حقوقها ، كما من وسائل الإعلام الحرة الضرورية لإسماع أصواتها المستقلة الحقيقية، الغاضبة أو الهادئة على حد سواء. مثل هذا الواقع الذي يتغير اقتصاديا واجتماعيا بسرعة وعمق وقسوة، في حين يظل ممنوعا حتى من التعبير والشكوى، ناهيك عن ( التغير السلمي والتدرجي والآمن ) الذي تنادي به القوى السياسية المعارضة.
إن ضمان تطور مستقر وراسخ ومرغوب للعلاقات الإقليمية ، هو بدوره متشابك بعمق مع تطور قضية الحريات السياسية والنقابية والإعلامية في سورية، وقضية الديمقراطية في البلاد عموما ، بقدر ما هو متشابك مع قضية الخبز ومستوى معيشة الشعب.
طريق اليسار