روايات أولى لكتّاب غير مبالين: جاؤوا ليبصقوا أوراقهم …ثم عادوا إلى نهر حياتهم الجارف
هاني درويش
من أين تأتي هذه الجرأة على الكتابة في مصر؟ في السنتين الأخيرتين لايستطيع مراقب إلا الإعتراف بهذا السيل المتدفق من إختراق العاديين لحدود التعبير عما يجول في حياتهم كتابة فنشرا. البعض يرجع ذلك إلى إقتصاديات جديدة للكتابة: دور نشر جديدة، ورساميل مغامرة تفتتح مكتبات خاصة، دخول شرائح جديدة من المستهلكين للكتاب، ألف تفسير يتأرجح بين حمأة البيست سيلر التي تسوقها العولمة بلغة أهل الإقتصاد، أو هجمة مالية تآمرية على ما اعتبر حقلا مجدبا تطيح بمواصفات الفن الراقي كما يعتقد هواة إقامة المعابد الأدبية.
سؤالي يقع في ما هو دون ذلك كله، في تلك الثقة التي تدفع آحادا من الناس إلى كتابة حياتهم دون تصنيف (رواية، قصة، شعر، مذكرات، متواليات) والمجيء من خارج المتن المستقر للكهنة، يسارعون إلى دور النشر الجديدة، دافعين أعمالهم وهم في غاية التقبل للنقد ومتطلبات إعادة الكتابة سواء من الناشرين أو محرريهم. الأمر لا يتعلق بالفعل بهواة شهرة كان الأجدى بهم في هذه الحالة إرتكاب جريمة عادية لتحتفي بهم صفحات الجرائد، أو الذهاب شوطاً أعمق في التعلق بحبال أوهام تلعب الصدفة فيها دوراً في تسويق مبتدئ الإبداع، أن تكون مطربا أو ممثلا مثلا، ولاهم متعلقون حتى بحبال نجاح كتابات دفعت بأصحابها إلى متن المشهد الثقافي بسرعة، على شاكلة علاء الأسواني في تحققه الأعم، أو بلال فضل مثلاً في أخذه بألباب قرائه عبر مقالاته الصحافية المجموعة لاحقاً في كتب الأدب الساخرة.
ولأنتقل سريعا إلى نماذج تضحض مثل هذه التداخلات، سأحدثكم عن نماذج رأيتها بأم العين وأخرى قرأتها وتشاركت مع الكهنة التندر بحكاياتها عند عتبة دار ميريت؛ الأولى مثلا لكاتب إستثنائي تشرفت بالدفاع عن عمله بعد قراءته كمخطوط، إنه مازن العقاد بعمله الأخاذ “الغضب الضائع”، مازن العقاد محام فاشل كما عبر عن نفسه في مقابلة شخصية تالية- يسكن إحدى قرى الدلتا البعيدة، جاء إلى القاهرة بمعناها الثقافي، أي وسط البلد ونواحيه من أماكن يتردد عليها منتجو المعرفة- لأول مرة في حياته منذ عامين. ترك لدى موظفة إستقبال الدار “قصته” وإختفى. أثناء تقليب محمد هاشم في تل نصوص ترد هكذا من مؤلفين مجهولين، إكتشف مسودة “الرواية” بإسم كاتبها دون أي تفاصيل أخرى، دون حتى عنوان أو رقم تليفون. ثم عبر أربع صفحات قرأها لمجرد التندر على طائفة الكتاب الجوالين إنقلب الحال، أرسل بالمخطوطة لي. لم أستطع أن أنام دون أن أكملها بعد التسلل المتثائب المعتاد مع مثل تلك التكليفات. يا الله، رواية كاملة متخيلة، الأماكن والأحداث والزمن، رواية بورخيسية كافكاوية تتحدث عن الإنتحار في القاهرة، شرم الشيخ، وغرف الشات المخصصة للمنتحرين القدامى. لا يمكن أن يكون هذا العمل نصاً أول، ربما هو كاتب إستعار إسماً مجهولاً ليمارس علينا وعلى القراء خدعة ما، وجلسنا ننتظر لنحو عام ظهور الكاتب المتنكر.
جاءني إتصال من محمد هاشم بعد ذلك بشهور. سلّم التليفون إلى شخص يبدو خجولا ويتحدث بلهجة ريفية. إنه مازن العقاد، نزلت مهرولا من المنزل لأرى الخدعة. لم يكن ثمة خدعة في الأمر، موظف بالشؤون القانونية بوحدة محلية لقرية قرب المحلة الكبرى وسط الدلتا، يدخن سجائر السوبر الشعبية ويرتدي ملابس خارج الموضة، خجل بشكل مرضي تحسبه تكلفاً أو خدعة تمثيلية، قال لي: أصل أنا فشلت أني اكون أي حاجة، أنا عندي 43 سنة، مش متجوز ولا عندي الظروف اللي تسمحلي بالجواز، عايش مع أمي وهيا اللي قالتلي يابني ماتكتب قصة يمكن تنفع الناس بدل قعدتك دي، أصل أنا جربت كل أنواع الشغل ومانجحتش في حاجة، قلت يعني لو كتبت إيه اللي حيحصل.
بلا مبالغة، كانت هذه لغة العقاد، كان مندهشا للغاية أن نكون قرأنا عمله، ثم تعمق إندهاشه من موافقتنا على نشرها. لم يأت إلى القاهرة مرة أخرى، لم يتسكع من بعدها على أي مقهى متفاخرا بروايته، يوم مناقشتها لم يصدق وجود التلفزيون فـ”هلفط” كلاماً على سجيته، ثم أختفى حتى دون أن يسأل عن نسخه، أو مبيعاته، أو أي شيئ، هكذا كفص ملح ذاب.
الرواية تحتوي لغة عادية، وبناء يشوبه بعض المشكلات، لكن الحكي بها والإنتقال من مكان إلى آخر، من زمن إلى آخر، من بؤرة إلى بؤرة، ثم قدرته الفذة على كسر كل الإحتمالات في تصاعدات الأحداث الدرامية لايضاهيها أحد في المشهد الكتابي الحإلى بمجمله. يكتب عن مدينة القاهرة وحبيبة مجهولة تصطاده لتتزوجه، تختفي فجأة بعد أن حملها منتحرة إلى المستشفى. بمجرد عبوره لشارع المنيل ومحاولة عودته لتسلم الجثة يكتشف عدم وجود جثة، ينكره أطباء المستشفى، ينكره حتي البواب في عمارته السكنية، يدخل الشقة التي تركها من ساعات ليجدها مهجورة وتعود لعائلة هجرت مصر منذ سنوات، … فالتقرأوها أفضل.
حالة مازن هي ماستر سين هذا النفق، تكرر الأمر مع طبيب ألف رواية للمرة الأولى إسمها الباخرة كليوباترا، رواية تاريخية تدور في العشرينيات بين الأقصر والقاهرة، زمن نشاط المخابرات السوفيتية الوليدة والإنجليزية العتيقة على ظهر سفينة سياحية يختبئ فيها عميل سابق لكل أنواع المخابرات. رواية جريمة متقاطعة الخطوط السردية، حبكة منضبطة وإعتماد مدهش على نثريات التاريخ غير الرسمي لمصر، عند مناقشتها في ميريت بحضور كاتبها المتأنق بحكم مهنته إندهشت من ذلك الدأب المهول الذي يدفع شخصاً عادياً لكتابة رواية بوليسية تاريخية. ثم إختفى هذا الشخص أيضا.
تكرر الأمر مع حامد عبد الصمد، مؤلف رواية” وداعا أيتها السماء” مدرس للغة العربية بجامعة ألمانية، سيرة ذاتية مدهشة للتمرد على المجتمع وأعرافه، حماسة محمد هاشم دفعته لترشيحها للبوكر، ثم أختفى الكاتب في المانيا وهو يصارع شظايا نجاح روايته التي انفجرت في وجه الروح السلفية.
أستطيع أن أعدد هكذا أعمال كثيرة، فقط لدى دار ميريت للنشر التي وفرت لي مشهد دخول معظم هؤلاء الناس علينا فجأة بأعمالهم الأولى قبل أن يختفوا، وكأنهم ألقوا ببصقتهم على العالم. لم يبالوا بالتغطية الإعلامية في خلق أوهام تتعلق بذواتهم، لم يتأنقوا في مقابلات تلفزيونية ليتحدثوا عن الثقافة وهمومها، لم يفرحوا بمراسيم إرتداء عباءة الكهنة الجدد في محراب الثقافة المصرية.
بالطبع يصح التشكك في إكتمال هذه التجارب كمشروعات مكتملة، ويصح أيضا عدم إطلاق صفة السذاجة الكاملة على أشخاص قطعوا مسيرة حياتهم ليعرجوا قليلا للأدب، معظمهم تجاوزوا الثلاثينيات إن لم يكن الأربعينات، ومعظمهم وجد في الكتابة الأدبية مساحة للبوح بما يعتريه من شكوك حول الحياة، مآلها، أوهامها، وغالبيتهم لم تؤثر تلك الإنعراجة المؤقتة على إستمرار جريان حياتهم العادية.
لمحمد أبي سمرا في زيارته الأخيرة لمصر سؤال شهير، هو إعتقاد جزء لابأس به من المصريين بضرورة حكي حكاية ما، لايهتمون في ذلك بتجسير هوة ما يعتبر إختلافا مع الآخر، وكأن نصا كبيرا هو الدراما المصرية الحياتية يكتبه الجميع، ولا يهتم أي منهم أيضا بكيف يحكي حكايته. ثمة إستغناء أصيل في التركيبة المصرية عن “كيف تكتب الحكاية” بل تركيز على “كيف تحكي حكاية”، يرى الكاتب اللبناني أن الكاتب في بلده يبحث عن لغة تخصه، عن طريقة للتفكير في الحياة، فيما الكاتب المصري ـ هكذا إجمالا بما لايعني الإطلاق المخل ـ يبحث عن المشاركة في الحكاية الكبيرة بصوت خاص.
بالعودة مثلا إلى النماذج، يتسلل إلى عالم المثقفين الآن عمل مدهش آخر من أبناء الأدب من تحت الحزام، إعترافات-هكذا صنف العمل على الغلاف- عادل أسعد الميري المعنونة بـ”كل أحذيتي ضيقة”، سيرة شبه روائية لستيني قبطي تقلب بين المهن والأماكن والدول والثقافات، من طنطا الخمسينات، إلى لندن السبعينات، إلى شارع الهرم أواخر السبعينات كعازف جيتار في الملاهي: طبيب، مرشد سياحي، مدرس لغة عربية، بلا أي خبرة في الحياة، بل بكل خبرة من لم يختبر الحياة أصلا. مشكلته الأساسية هي أدبه الجم وتربيته المسيحية السيكوباتية في شقها الأمومي التي عطلت إستمتاعه بالحياة، لكن توفرت له الفرصة أن يواجه كل هذا التأخر في إكتساب الخبرات مجموعة عوامل أولية، كونه قبطياً متحللاً نسبياً من القيم المحافظة للمجتمع من حوله، كونه تعلم تعليما عاليا في زمن كانت دراسة الطب تتوافق مع السفر الحر للندن للعمل في مخبز لإستكماله، كونه أبن أسرة متوسطة الحال بالمعني الستيني الذي يعني رفاهية التمرد. وكأن كل حياته سارت هكذا نتيجة للمناخ العام الذي كان يسمح حتى للمضطهدين عائليا ودينيا بأن يتنسموا بعضاً من الحرية إذا ما أختاروا ذلك في لحظة.
المدهش في كل تلك الأعمال أيضا عدم ثقة فاعليها في كونها ذات أهمية، في إعتبارها رواية، كما يوصف عتاة الأدب “جرائمهم الكتابية” عادة،هل هو إنفجار لتعبيرات السيرة الذاتية عن نفسها؟ وإن كان، ما مبرر ذلك في تلك اللحظة بالذات؟
المؤكد، رغم عدم صدقية أي تأكيد في مثل تلك الحالات، أن ثمة إحساساً طاغياً بإنفلات الحياة العامة والخاصة في مصر عن حدود الفهم المشترك، عن إنضواء زمن بالكامل لصالح لحظة غير مفهومة حاضرة ومنفلتة في آن، يصلح في مثل تلك الأحوال التشبث بما إفترض في زمن سابق بأنه “قانون الحياة” ، أو كونها كانت تسير هكذا قبل أن يعتريها الغموض، وربما هو التعبير عن ملل الضمير الجمعي بما أستقر أدبيا من التعبير عن سردية واحدة ذهبية لكل ماحدث في مصر، سردية يتردد صداها في الأدب الرسمي الشرعي، حيث يحتفي الكهنة بإجترار نفس التأسي الدائري “عما كناه يوما”، أو هي إنتفاضة لاواعية عن جمعية الوسائل الأخرى في التعبير عن الحياة الفردية، وسائل مثل السينما، التلفزيون، الصحافة، الكتب الساخرة الجديدة، المدونات، مثل هذه الوسائل التي فيما هي تدّعي تعميق فردية الأشخاص، تمحو دون أن تدرك في إبتذالها قيمة الصوت الفردي العصي على الجمع والإنحباس في تصنيف واحد.
مبعث هذه الثقة في الكلمة تحديدا كأداة لإشهار الذات، هو تعبير عن إرتداد جمعي إلى ما أتفق عليه كـ”مسوّغ وجود”. ثمة إنفلات في التعبيرات الخاصة عبر السينما المستقة مثلا، إلا أن الكتابة تظل في النهاية أداة ورأسمال معرفي في حده الأدنى. لاتحتاج الكتابة لمعدات تصوير باهظة التكاليف. لا تحتاج الكتابة في لحظة سيولة تسويقية إلى “سابقة أعمال من النوع الثقيل”، كل ما في الأمر ورقة وقلم، براح لايشارك فيه الآخرون ولا تحتاج فيه لهم، إلا بدرجات الإستدعاء المنضبطة. بل إنها لاتحتاج لاحقا إلى إعتراف من أحد، لا بالأهمية، ولا بالشهرة، فالجميع يكتب هكذا لأنهم يريدون قول شيء ما، وغالبا ماتجده، فقط قليل من الصبر، وايمان بأن في الحياة ما لا يزال صالحا للكشف. هكذا يعتقدون، وفي هذا ثمة إتفاق ضمني على الأقل.
المستقبل
أسعدتني بشكل غير عادي الفقرة الموجودة عن كتابي في هذا المقال،وكنت قد بحثت أمس كالمجنون في شوارع القاهرة، عن جريدة المستقبل ولم أجدها، هل لديكم فكرة عن امكانية العثور على هذا العدد
عادل أسعد الميري