الكوكب المغدور
خيري منصور
سواء أطفأت المدن الكبرى أضواءها الساعة أو وقف المليارات الستّة من سكان هذه الأرض ساعة أخرى حداداً فإن الأمر لا يختلف كثيراً، فمنذ لقاء ريودوجانيرو حتى كوبنهاجن، ثم أجراس لا تكف عن الرّنين تنذر البشر بكارثة هي أشبه بقيامة عاجلة انتقاماً مما لحق بالماء والهواء والتراب من أذى . فالإنسان هو الابن الوحيد العاق لهذا الكون الذي يقضم ثدي أمه، ويبصق في البئر الذي ينتشل منه الماء ليشرب ويغتسل ويزرع، وخلاصة هذه الدراما الكونية هي أن براقش جنت على نفسها وقد تجني على أحفاد أحفادها أيضاً إذا استمر الانتهاك للبيئة والطبيعة، بحيث يندر الأوكسجين حتى الاختناق، ويذوب الجليد في القطبين حتى الطوفان، وتعصف الأعاصير بحضارات ومعالم تاريخية بحيث تحولها إلى خرائب وأطلال . وما أن أعلن فشل مؤتمر كوبنهاجن حول المناخ وحالات الاضطراب التي شملت الجغرافيا، كما لو أن هناك نظاماً جغرافياً جديداً يقابل ما سمي النظام العالمي الجديد حتى ابتلع ذوو الاختصاص من الساهرين على حياتنا لعابهم، وأسلموا أمرهم للقدر .
التوقعات المتعاقبة لمستقبل الأرض غير سارة على الإطلاق، وثمة ما ينبئ عن موعد بشري محتم مع ديستوبيا مضادة لكل اليوتوبيات، فالفاضل أصبح مرشحاً بقوة الانتهاك للتحول إلى رذل، والكون الذي كان بيتاً أليفاً للإنسان بدأ يتحول إلى منفى، وبالتدريج قد يصبح جحيماً أو قبراً بسعة الكوكب كله .
والغريب أن الناس لاهون عن كل هذا، ونادراً ما تشغلهم شجون الجغرافيا وأمراض البيئة بسبب انهماكهم في شجون السياسة والتاريخ، لهذا فالمديونيات تتراكم، وتسديدها قد لا يكون متاحاً للأجيال المقبلة التي سوف ترث كوكباً مريضاً، مخلخلاً وعلى حافة الهاوية .
إن العلماء لا يقرأون الفناجين ليقولوا لنا إن الغد سوف يكون أفضل أو أسوأ من اليوم، بل يحتكمون إلى مرجعيات علمية بالأرقام والجداول، وما يتوقعون حدوثه لا بد أن يحدث لأن المقدمات تقود إلى نتائج بالضرورة، وإذا كان إطفاء الأنوار الساطعة في أبرز معالم المدن الكبرى هو تعبير رمزي عن وعي الأخطار المحدقة بالأرض ومن عليها، فإن التوقف عند هذا الترميز هو مجرد طقس عابر، لا يعيش أكثر من ساعة، ثم يعود كل شيء إلى ما كان عليه، ونحن لسنا بحاجة إلى التذكير بحجم التقصير في مجال التوعية والتثقيف بالأخطار التي تهدد كوكبنا . لأن ما كان مجرد تحذيرات وتوقعات أصبح واقعاً ضاغطاً على الأنوف، فالتلوث أفسد الرئات والدورات الدموية، وأصاب مليارات البشر بضيق التنفس، وثمة مدن في آسيا لم تعد الحياة فيها ممكنة، لهذا ترى الناس في شوارعها يحملون زجاجات الأوكسجين على ظهورهم .
وما يقال عن الكربون والأكاسيد بمختلف أرقامها ليس إلا هذا الزفير السام الذي تلفظه مصانع العالم بعد أن أصبحت قادرة على إعادة الجنّة إلى صحراء، وقد يأتي يوم تحتجب فيه النجوم من سماء فقدت صفاءها، لأن المتوالية السّوداء لا تلوح لها نهاية، فأية عبقريات تلك التي جعلت ساكني هذا الكوكب يحولون كل ما فيه من أخضر إلى أصفر، ومن نقي إلى ملوث؟
لقد أمهلتنا الأرض المعتدى عليها طويلاً لكنها لن تهمل الثأر منّا جميعاً .
الخليج