قراءة سوسيولوجية لنتائج الانتخابات البرلمانية العراقية
محمد سيد رصاص
يخاف العرب (اليساريون منهم بالذات) مواجهة حقيقة حراكات سياسية، أو انتخابية، تعكس صورة تفارقات طائفية أو مناطقية أو إثنية في مجتمع معين مع محمولات اقتصادية ـ اجتماعية هي أساس ورافعة كل حراك سياسي، مهما كانت صورته أو شكله، ليتم التعبير عنها، سواء من خلال أيديولوجيات حديثة أو تقليدية.
تجسدت هذه المخاوف العربية عبر اتجاهات في الرؤية، لم تستطع أن ترى ما يجري في عراق ما بعد 9 نيسان 2003، لتعتبر أن ما يحصل هو مجرد «انحراف طارئ» سببه الاحتلال الأميركي، مع أن مجرى العراق لم يخرج عن هذا السياق عموماً منذ العام 1921، وإن كان الفارق، عن السنوات السبع الماضية، أن طرق التعبير عن التفارقات العراقية ذات المضمون الاقتصادي ـ الاجتماعي ممزوجة بأشكال طائفية أو مناطقية أو إثنية، وهو شيء لاحظه حنا بطاطو في كتابه عن العراق.
تغيرت هذه الصورة العراقية بدءاً من يوم سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي في 9 نيسان 2003، ليظهر مشهد جديد بوضوح في انتخابات 15 كانون الأول 2005 للبرلمان العراقي لما كانت الانقسامات السياسية التي أظهرتها الانتخابات انعكاساً كبيراً لصورة الانقسامات الطائفية والإثنية عبر الكتل الفائزة في ذلك البرلمان، إلى درجة أن القائمة الوحيدة التي كانت عابرة للطوائف، كانت القائمة التي رأسها الدكتور أياد علاوي والتي لم تستطع أن تنال أكثر من خمسة وعشرين مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 275 مقعداً.
تعدلت هذه الصورة في انتخابات مجالس المحافظات في يوم 31 كانون الثاني2009، التي أجريت بكل المحافظات، ما عدا محافظات الشمال الكردي الثلاث إضافة لكركوك: أعطت تلك الانتخابات صورة لمجرى بداية تفكك الكتل الطائفية، إما باتجاه وطني عام، كما حصل عند السنة العرب من خلال الابتعاد عن السنية السياسية التي مثلها الفرع العراقي لجماعة الإخوان المسلمين مجسداً في (الحزب الاسلامي) وجبهته المسماة (جبهة التوافق) نحو تأييد قوى وطنية مثل «القائمة العراقية الوطنية» بزعامة الدكتور علاوي أو «تجمع المشروع العراقي الوطني» بقيادة صالح المطلك أو «قائمة الحدباء» ذات الاتجاه العروبي في الموصل، أو باتجاه مسارات اقترابية من سلطة نوري المالكي لأخذ مشاركات أو مغانم في تلك السلطة كما عبرت عن ذلك قوى «الصحوات» أو قوى أو شخصيات عشائرية مثل (آل أبو ريشة).
في الصورة المقابلة، كان انشقاق «الائتلاف العراقي الموحد»، الذي مثل الأحزاب والقوى الشيعية (ببرلمان 2005)، متجسداً في نزول أطرافه منفردين حيث حصلت قائمة «ائتلاف دولة القانون» بزعامة المالكي على أعلى أصوات بغداد، والمحافظات الجنوبية والوسطى.
أخذ هذا المجرى، الذي بدأت ارهاصاته في انتخابات2009، أبعاده في انتخابات برلمان 7 آذار 2010 (325 مقعداً): كان أكبر المؤشرات على انقلاب الصورة العراقية لعام 2005 عبر انتخابات 2010 متمثلاً في وصول قائمة عابرة للطائفتين السنية والشيعية إلى المرتبة الأولى بالأصوات والمقاعد، ليدل فوز قائمة «العراقية» بزعامة علاوي والمطلك وطارق الهاشمي المنشق حديثاً عن (الحزب الاسلامي). لم يأت هذا فقط من اكتساح «العراقية» لأغلب مقاعد المحافظات ذات الغالبية السنية العربية والتي تخلت عن (الإخوان المسلمين) و«الصحوات»، وإنما أيضاً من أخذها لمقاعد في المحافظات الجنوبية والوسطى بلغت 12 مقعداً من مقاعد المحافظات البالغة 119، إضافة لأن تتبوأ المركز الأول بين أصوات محافظة كركوك حيث تركزت قاعدتها بين العرب شيعةً وسنة، وهو الأمر نفسه في محافظة ديالى المتنوعة طائفياً، كما أن حجم الأصوات والمقاعد التي أخذتها هذه القائمة في بغداد يدُل على أنها كانت عابرة للطائفتين في العاصمة. هنا، يلفت النظر أن عروبيين شيعة وسنة ووطنيين عراقيين هم القوة الدافعة لهذه القاطرة.
كان ثاني تلك المؤشرات متمثلاً في فوز قائمة «ائتلاف دولة القانون» بزعامة المالكي بأكثر أصوات ومقاعد المحافظات الجنوبية والوسطى وبأكثر مقاعد «بغداد الكبرى»، حيث مثل (حزب الدعوة)، منذ تأسيسه في العام 1959على يد السيد محمد باقر الصدر، القوة الأكثر اعتدالاً بين الأحزاب والقوى الشيعية العراقية. وإذا أردنا مقارنة حراك القوى، بين انتخابات 2009 و2010، فقد زادت قوة (حزب الدعوة) وائتلافه عن العام المنصرم في المحصلة العامة تجاه مجموع منافسيه المؤتلفين منذ آب الماضي في «الائتلاف الوطني العراقي» (الذي يمثِل آل الحكيم والصدريين و«تيار الإصلاح» بقيادة الدكتور ابراهيم الجعفري و«حزب الفضيلة») حيث حافظ على أرجحيته تجاههم في محافظتي بغداد والبصرة فيما قلب أرجحيتهم مجتمعين في محافظات النجف وكربلاء وبابل (مركزها مدينة الحلة)والمثنى (السماوة) وواسط (الكوت)، فيما ظلوا أقوى مجتمعين من قائمة المالكي في ميسان (العمارة) وذي قار (الناصرية) والقادسية (الديوانية).
حصل ثالث تلك المؤشرات في الوسط الكردي، حيث برزت قوة معتدلة منشقة عن حزب جلال الطالباني هي قائمة «التغيير» بقيادة أنوشروان مصطفى، هي أكثر اعتدالية من الحزبين القوميين للبارزاني والطالباني وأكثر ميلاً للاندماج في المحيط العراقي العام، وقد كان نيل هذه القائمة مع الاسلاميين الأكراد في «الاتحاد الاسلامي» و«الجماعة الاسلامية»، لأصوات أكثر من مجموع أصوات حزبي البارزاني والطالباني في محافظة السليمانية ثم ثلث أصوات المصوتين في محافظة اربيل، تعبيراً عن بداية ارهاصات لاندماجية وطنية يتجه نحوها أكراد العراق ما دام المعتدلون في «التغيير»، والاسلاميون، يمثلون وجهاً أكثر انفتاحاً من القوميين المتصلبين في حزبي البارزاني والطالباني، وهو ما يعبر عنه، ولو عبر التعاكس، فوز حزب الطالباني بكل المقاعد التي نالها الأكراد في محافظة كركوك ذات الوضع المضطرب بين العرب والأكراد، الشيء الذي ينطبق على المقاعد التي فاز بها الأكراد في محافظة الموصل، والتي ذهبت إلى «التحالف الكردستاني» الجامع للبارزاني والطالباني.
ان انتخابات برلمان 2010 قد أعطت مؤشراً مفصلياً على بداية دخول العراق في قطوع جديد، تنهي بلاد الرافدين من خلاله مرحلة التفجر الداخلي التي أعقبت سقوط نظام حكم قومي عروبي متصلب، حيث كان عنوان هذا التفجر سلطة نصبها الأميركي، كانت مؤلفة من تحالف رباعي لحزبين اسلاميين شيعيين («المجلس الأعلى للثورة الاسلامية» بزعامة آل الحكيم و«حزب الدعوة») مع حزبين قوميين كرديين، وقف في مواجهتها بين عامي 2003 و2006 اسلاميون سُنة امتدوا من (الحزب الاسلامي) حتى «تنظيم القاعدة» وما بينهما.
يبدو، الآن، أن بداية الانفراج الداخلي العراقي ستكون حصيلة لضعف الاسلاميين المتشددين، عند الشيعة والسنة العرب، مع تآكل قوى القوميين الأكراد المتصلبين، بالتوازي مع ازدياد قوة العروبيين المعتدلين والاسلاميين الشيعة المعتدلين مع اعتدالية جديدة عند قوة كردية ناشئة مضافاً اليها تنامي قوة الاسلاميين الأكراد الذين هم الآن الأكثر انفتاحاً على المحيط غير الكردي.
هل يدل كل هذا على بداية خروج العراق من النفق؟
السفير