الباحثون عن أمة …والباحثون عن وظيفة
فالح عبدالجبار
لا أتذكر القائل ان «السياسة عقيم لا تلد». الواقع ان هذه «العقيم» كانت، على مدار القرون، ثكلى. يذبح الملوك في اسرتهم، ويقتتل الإخوة على التاج، وينحر الرؤساء بعضهم نحراً بحمية فائقة.
ابتكر العثمانيون حلاً بديعاً لحقن الدماء: السلطان المنتصر يحبس اخوته في قلاع، ويغرقهم بالطعام والشراب والغلمان والجواري حتى يسمنوا سمنة مفرطة لا تتيح لهم الخروج من الباب الضيق الذي دخلوه فتياناً يافعين، رشيقين.
من اين لنا ان نأتي بقلعة ضيقة الباب، وكيف لنا ان نزج السياسيين العجاف حتى تعمل كروشهم المدلوقة مقام مانع طبيعي يقطع اشتهاء العودة لكرسي الحكم.
حال السياسيين العراقيين اليوم يذكرنا بذلك كله. فشهوة البقاء في الكرسي اقوى مظاهر الورع والإيمان في القصور الحكومية. لكن حال السياسة العراقية خلاف ذلك. ففي السنوات السبع المنصرمة لم يمكث رئيس او رئيس وزراء او وزير طويلاً. والباحثون عن لاصق مــتين يخرجهم من هذه القاعدة يثيرون بعضاً من شفقة الأمة والكثير من ازدرائها.
فالعراقيون اصحاب مزاج. والعسل المغشوش، المداف في الكلام، سرعان ما يغدو حامضاً. من هنا سقوط اكثر من 260 نائباً من البرلمان السابق، بعمائم ام دونها. ومن هنا ايضاً انفكاك الكتل الكبرى.
كان بناة الديموقراطية الأوائل يرون في حكم الغالبية القاعدة الأولى للنظام الجديد. لكن الجيل الثاني راح يفتش عن سبل كسر استبداد الأغلبيات. ووجد مفكر كبير (جيمس ماديسون) ان تفتت هذه الأخيرة الى كتل صغرى، هو الضمانة الوحيدة. ثم جاء جيل ثالث من بناة الديموقراطية ليرى الى مشكلة انفصال النائب عن الناخب، انفصال ارادة التنفيذ عن محتوى الرغائب، فعمد الى تقصير مدة النيابة الى ادنى حد معقول، لمعاقبة الفالت من اسر التعهدات.
كثرة من السياسيين العراقيين، حكام العراق اليوم، تجهل الفباء التاريخ الديموقراطي هذه، اما الجموع فتقترب كل يوم من معاني هذا الأدراك.
باختصار الأمة تنضج قبل قادتها. ثمة يقظة فوارة، لا تزال في مبتداها.
يعتقد المراقبون ان ثمة اربع كتل فائزة: الكرد، العراقية، دولة القانون، الائتلاف الوطني. هذا ظاهر محض. فالكرد ثلاث كتل، والائتلاف ثلاث كتل، والعراقية اكثر من كتلة.
لم يعد لـ «كتلة سنية» صوانية او «كتلة شيعية» صوانية من وجود. وهذه خطوة كبرى يخطوها العراق للتصالح مع نفسه. لكن السياسيين لا يزالون على مبعدة سنوات ضوئية من هذا الإدراك. والمراقب العادي يراه جلياً في هذا التهالك على الحج الى طهران، بأمل الانفراد او التفرد، الذي لم يعد مباحاً بفضل مكر الأرقام.
هوس الالتصاق بالكراسي اخرج بعض العقول «الحكيمة» عن رصانتها، وفقدت بريقها السابق كشخصيات وسطية، متوازنة، اقرب الى المدنية. يبدو ان غواية الجاه والذهب الرنان اقوى من قيم الاعتدال والوسطية.
امام العراقيين مشكلة كبرى هي اعادة بناء الأمة، التصالح مع النفس ومع الماضي، وهذا التصالح لا يمر بمسالك الثأر الوعرة، بل بدروب القانون المعبدة. ولا يتحقق ذلك بثقافة «الفائز يأخذ كل شيء»، بل بثقافة الشراكة المرنة.
استبدال الثأر الأعمى بالقضاء البصير يتطلب اجتثاث هيئة الاجتثاث (المسماة زوراً هيئة المساءلة والعدالة) وإبعاد شبح محكمة التفتيش هذه، وإناطة اعمالها بهيئة قضائية متجردة.
واستبدال خيلاء الساعي للفوز المنفرد بكل شيء بتواضع الأرقام التي تملي الحاجة الى التعدد بالحسابات البدائية، المجردة. ثمة صيغتان: العراقية+ الأكراد+الصدر او دولة القانون+الأكراد+الصدر. مفتاح كل صيغة من هاتين بيد الأكراد، وبيد الصدريين.
وبينما يبــدي الصدريون حصافة جلية في الدعــــوة لمشاركة سائر الكتل الفائزة (الكتل الأربع الكبرى)، يبـــدي بعــــض الساسة الأكراد انحيازاً جلياً للصيغة الثانية، دون كثير اعتبار لمقتضيات التوازن المطلوب في هذه المرحلة الانتقالية العسيرة.
ثمة صيغة ثالثة ضيقة او واسعة، هي : العراقية+دولة القانون+الأكراد، او، كما يقترح الصدريون: العراقية+دولة القانون+الأكراد+الائتلاف الوطني.
لعل هذا هو المخرج الأكثر توازناً، وإن تكن ولادته عسيرة، بحاجة الى اكثر من «قابلة مأذونة» كي يرى النور. لكننا بإزاء قابلة ايرانية غير مأذونة تريد استيلاد الانقسام القديم، والعودة بنا الى عام 2005، عام شؤم الحرب الأهلية.
لا تـــزال مؤسسات الدولة هشــة، وهـــي لـــن تحتمـــل اوزار التوترات المعلنة، والخفية. ولا يزال العراق مفتقراً الى وجود مؤسسات استراتيجية كثيــرة، مثل مجلس الاتحاد، ولا تزال الطبقة السياسية الجديدة تحمل الكثير من قيم الماضـــي، ريبة العمل السري، وفردية القرار، وازدراء المؤسسات ، وضعف احترام القانون، وخيلاء ونرجسية السلاطين، والخلط بين المال العام وحافظة النقود الشخصية.
اما المجتمع الأهلي فباتت قطاعات واسعة منه تحسب بالمثقال كل نأمة وحركة وقرار، ولم يعد خداعها ممكناً الا على اضيق صورة. ولعل في هزيمة اسماء كبيرة في هذا الاقتراع تذكرة لمن في ذاكرته عطب.
الحياة