حساب الأرقام في دار السلام
محمد عارف
السياسة، كما يقول الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، “حرب من دون إراقة دماء، والحرب سياسة تراق فيها دماء”. وقد عانى العراقيون بعد انتخابات عام 2005 من سياسة أريقت فيها دماء غزيرة، وأقلّ ما يتطلعون إليه بعد الانتخابات الجديدة سياسة من دون دماء، أو أقل ما يمكن من دماء. أول المعارك المعلنة تدور حول انتخاب رؤساء الدولة والحكومة والمجلس التشريعي. وكحرب السنوات الماضية، يهيمن على المعركة طرفان رئيسيان، هما واشنطن وطهران، وتشارك فيها أطراف محلية وإقليمية ودولية. وكما حدث سابقاً لا يحدد النتائجَ عددُ مقاعد الأحزاب والائتلافات السياسية، بل سيرُ الحرب بين الأطراف المتنازعة، التي قد تحدد قيام أو انفراط ائتلافات وأحزاب.
وضعٌ سياسيٌ مثخن بتساؤلات واحتمالات تؤرجح البلد على حافة الحرب، وتهدر الدماء كل يوم تقريباً. من يرأس مجلس الوزراء الجديد؛ علاوي، الذي نالت قائمته “العراقية” 91 مقعداً في البرلمان الجديد، أم المالكي، وقد نالت قائمته “دولة القانون” 89 مقعداً؟ أم يقوم أكبر تكتل برلماني أباحت له “المحكمة الاتحادية العليا” تشكيل الوزارة؟ وهل يستطيع البرلمان الجديد من دون أغلبية قد توفرها قائمتا علاّوي والمالكي تمرير تشريعات ولوائح فشل في سنها البرلمان السابق، كقوانين الانتخابات، والنفط، وتعديل الدستور؟ وهل تسحب واشنطن قواتها المسلحة، وفق مواعيد التزم بها الرئيس أوباما؟ وكيف تتوازن علاقات بغداد بطهران آنذاك؟ وهل تقوم علاقات مثمرة مع العواصم العربية والعالمية؟ ومتى يستكمل النظام القائم تطوير قوات مسلحة وطنية تضمن مصالح البلد في اللعبة الجيوبوليتيكية بالغة التعقيد؟
في البحث عن أجوبة هذه الأسئلة، “المهم ليس التصويت، بل عدّ الأصوات”، كما كان يقول ستالين. فالأسئلة كثيرة، والأجوبة أكثر من الأسئلة المطروحة على جيل عراقي جديد شحذت أفكاره دماء السبع سنوات الماضية. هل يستطيع فكر هذا الجيل تحقيق ما يُعجز برامج كومبيوتر تستخدمها الخارجية الأميركية، ووكالة “سي آي أيه”؟ تعتمد هذه البرامج على “نظرية اللعب” التي ابتكرها جوهان نيومان، وهو عالم رياضيات أميركي هنغاري الأصل وضع أسس الرياضيات المستخدمة في تطوير الكومبيوتر. ويعرض “بروس مسكويتا”، أستاذ علم السياسة في جامعة نيويورك نسخة مستحدثة من البرنامج في كتابه “المتنبي” The Predictioneer.
ولعبة برنامج “المتنبي” في تسمية رئيس الوزراء القادم كالتالي: تحديد اللاعبين الرئيسيين زعماء القوائم “العراقية”، و”دولة القانون”، و”الائتلاف الوطني”، و”التحالف الكردستاني”، وأضيف لهم تيار مقتدى الصدر، المنضوي شكلياً داخل “الائتلاف الوطني” والمنفلت عادة في كل لعبة. يحدد البرنامج درجات ما بين الواحد والمائة في تعيين النتيجة التي يسعى إليها كل لاعب، وفق قوة اهتمامه وعزمه في تحقيق هدفه. وقد يتحالف كل لاعب في انتخاب رئيس الوزراء مع لاعب واحد، أو لاعبين آخرين، آخذاً بالاعتبار مواقفهم، التي يتفق معها أو يناكفها. وقد يغير اللاعب مواقفه تبعاً لذلك، ويعيّن النموذج الحسابي الذي تنتهي إليه اللعبة عند تقييم معاملات جميع اللاعبين 120 احتمالاً. تغذية الكومبيوتر بهذه الحسابات تسمي خلال ساعات رئيس الوزراء القادم، وقد يكون واحداً من عشرة أشخاص تتردد الآن أسماؤهم مع علاّوي والمالكي.
وتفترض اللعبةُ أن “السياسي الشريف يظل عندما يُشترى مُشترى”، حسب السياسي الأميركي سيمون كاميرون! تحقيق هذا شبه مستحيل في “العراق الجديد”، الذي تتحكم به لعبة الأمم. ويفرض ذلك إدخال خمسة لاعبين إضافيين، بينهم أميركا، وإيران، وتركيا، ودولتان عربيتان على الأقل، ويصبح عدد اللاعبين عشرة، وتقفز الاحتمالات بالتالي إلى مليون و600 ألف!
بعد سبع سنوات من الاحتلال يعرف العراقيون أنهم يعرفون أكثر مما كانوا يعرفون. وإنه سؤال ظالم، ولئيم، ومهين هذا الذي يُطرح عادة عليهم حول ما إذا كانت ظروفهم الحالية أفضل من الماضي. لقد كانوا مستعدين للموت للتخلص من ماض كانوا يموتون فيه بالملايين جسدياً، وثقافياً، وعلمياً تحت ظل حصار وحشي شامل مارسه المجتمع الدولي ضدهم سنوات طويلة. والمهم في أفكار العراقيين الآن عواطفها الخفية؛ موسيقاها التي لا تمثل فيها الأفكار سوى كلمات “الأبوذية”.
ما الموسيقى الخفية التي تعزفها قلوب ثمانية ملايين ناخب عراقي لم يشاركوا في الانتخابات، وتبلغ نسبتهم نحو 40 في المئة من الذين يحق لهم التصويت؟ هذه النسبة، إذا صدّقناها أعلى من انتخابات عام 2005، إذا صدّقناها، وهي عالية جداً في بلد اعتاد مواطنوه على التصويت بنسبة أكثر من 90 في المئة في عهد النظام السابق إذا صدّقناها. والأمر الذي يمكن تصديقه في كل حال تقوله أغنية عراقية مشهورة “يا حافر البير لا تعمق مساعيها، تالي الفلك يندار وانت تقع فيها”!
وقد شارك الداخل والخارج في حفر أعماق العراق، سياسياً، واقتصادياً، وفكرياً، ودينياً، وعاطفياً. وإذا أمكن قياس عمق الحفر الاقتصادي بترليونات الدولارات المنفقة في الحرب، والنهب، والتخريب، والفساد، وهدر أموال الدولة، وقواها العاملة الحية… فما قياس عمق الحفر في هيكلها العظمي الجيوبوليتيكي المتشابك، ليس فقط مع دول الجوار العربية والإسلامية، بل مع قوة متغولة أجنبية عبثت يدها الطويلة على امتداد نصف القرن الماضي بالبلد من وراء البحار والمحيطات؟
وكما حدث في أعقاب كل كارثة سببتها واشنطن سيكون على المتورطين معها خوض القتال ضدها، ذلك لأن القتال ضد المستقبل في العراق غير ممكن، فالزمن إلى جانب أهله. يدرك ذلك جيل عراقي جديد لا يمعن النظر بمستقبل في الماضي القريب أو البعيد، بل في مستقبل الحاضر القريب أو البعيد. وقد شحذت الحسابات المستحيلة قدرة هذا الجيل، كما في رواية عالم الرياضيات البرازيلي هليو مارسيل بريرا “الرجل الذي يحسب”. بطل الرواية، “برميز سمير”، راعي غنم شحذ ذعرُه من فقدان الأغنام عبقريته في الحساب، التقاه راوي الأحداث في طريقه من سامراء إلى بغداد، وأقنعه بأن مواهبه الفذة تفتح له أبواب القصور في العاصمة العباسية.
وفي بغداد العباسية لم يتوقف علماء الرياضيات عند تطوير النظام العشري، بل أطلقوا القوة الحسابية الكامنة في الصفر، واكتشفوا العلاقات بين الأرقام. وتعيد الرواية بناء هذه القدرات في عبقرية الراعي الذي لا يكتفي بالعد بلمح البصر، بل تبتكر مخيلته الجميلة حلولاً ساحرة للمسائل الحسابية. وفي أول امتحان في بغداد يسأله وزير الخليفة المستعصم عدّ قطيع الجمال في باحة القصر، فيجيبه الراعي “257”. يسأل الوزير مبهوتاً كيف عرف العدد الصحيح بنظرة واحدة. يقول الراعي أنه لم يستخدم الطريقة المضجرة في عدّ الجمال بالآحاد، بل أحصى أولاً عدد أخفافها، ثم آذانها، وأضاف الرقم واحد إلى المجموع البالغ 1541، وقسم الحاصل على ستة فكانت النتيجة 257. ويسأله الوزير عن سبب إضافة الواحد إلى المجموع، فيوضح الراعي أنه لاحظ لأحد الجمال إذناً واحدة!
الاتحاد